على خطى سيغموند فرويد، اجتهد عالم الاجتماع الفرنسي برنار لاهير لفك شفرة أحلام 12 متطوعا، وبهذا يكون قد حقق طفرة رائعة في مجال اللاوعي الذي يتجسد في الأحلام.
وفي تقرير نشرته مجلة “نوفال أوبسرفاتور” (Le Nouvel Observateur) الفرنسية، تقول فيرونيك رادير إن الأحلام التي تراودنا تكون عبارة عن خليط من الاحتمالات والغايات والمغامرات سواء كانت في نسختها اللائقة أو المبتذلة، أو بالأحرى أحلاما خاما، على حد تعبير المتطوعين (رجالا ونساء من أعمار وبيئات مختلفة)، والتي قد يكون بعضها مفهوما، في حين أن البعض الآخر مبهم.
الأسس النظرية للأحلام
يعتبر كتابه “الجزء الحالم” (La Part revée) لبرنار لاهير، والذي يتكون من 1200 صفحة، أشبه بفيلم غامض بفضل ما يحتويه من تشويق وإثارة، وهو الجزء الثاني لكتابه “تفسير علم الاجتماع للأحلام”. في المجلد الأول الذي صدر في 2018، شرح لاهير الأسس النظرية لفرضيته بشأن الأحلام.
وطيلة حياته المهنية، تمكّن هذا الباحث الطموح من معالجة العديد من المواضيع انطلاقا من الحتمية الاجتماعية وصولا إلى النكسات الحميمية. وقد قادته هذه الرحلة إلى موضوع الأحلام الذي شهد جمودا منذ رحيل مؤسس علم التحليل النفسي سيغموند فرويد.
واستنادا إلى اكتشافاته والتقدم الذي أحرزه علم الأعصاب وتفسيرات الأحلام التي أنشأها علماء النفس منذ خمسينيات القرن الماضي، افترض لاهير أن الأحلام التي يراها المرء هي بمثابة تجسيد للأنماط والحتميات اللاواعية التي تبني شخصية الفرد.
وفي تقريرها سألت فيرونيك الباحث عما إذا كان فهم آليات الأحلام يعني فهما أفضل لتفكير الإنسان في اليقظة، فأجاب لاهير بأن التشبيه أو المقاربة أو المقارنة بين شيئين أو حدثين أو موقفين هو من صميم الفكر الإنساني في جميع المجالات. فعندما يقول لك أحدهم “لا أعرف لماذا لا أكنّ مشاعر لهذا الشخص”، يلتقط عقلك الباطن علامات التحذير الصغيرة ويترجم الحلم ذلك إلى صور.
لحظات الوضوح الكبير
ويقول لاهير إن الكبرياء البشري يجعلنا نتجاهل فكرة أننا مصنوعون من عجينة مماثلة للكائن وحيد الخلية أو دودة الأرض. ومن خلال تجاهل العمليات الفسيولوجية التي تجعلنا موجودين مثل سائر الكائنات، نبالغ في تقدير الجزء الواعي من أفعالنا، وأفكارنا عند اليقظة. ويستمر الدماغ ليلا في العمل، ولكنه يكون خارج السيطرة. كما تعتبر الأحلام لحظات من الوضوح الكبير حيث تكشف ما يخفيه المرء.
وحول ما إذا كان الحلم دائما يدور حول صورة مجازية تكثف المشاعر ووضعية الحالم والأحداث التي تخلف صدمة نفسية؟ يرى لاهير أن هذا هو الاقتصاد الاستثنائي للحلم. فحتى لو كان مرئيا ويتكون من سلسلة من الصور، فإنه يظل قائما على آليات اللغة حسب ما أظهره فرويد وثلة من علماء النفس بعده.
ولكن هل من الممتع فك شفرة المشاهد الغامضة والتلميحات المبهمة مع الحالم؟ يوضح لاهير أن الوضع يختلف حسب الحالات، مستشهدا بحالة امرأة تدعى ليدي وتبلغ من العمر 38 عاما خاضت تجارب كان لها وقع على علاقتها مع الجنس الآخر جعلها ترى في أحلامها الثعابين والمواقف الخطيرة.
وخلال المقابلات التي أجراها معها، سألها عن الأماكن والظروف التي رأت فيها هذه الثعابين، ودائما ما كان يحوّل ذلك انتباهها إلى بيئتها المنزلية. كما سألها عما إذا كان الأمر يتعلق بذكريات غير سارة، فذكرت حادثة لا أهمية لها -على حد قولها- تتمثل في تعرضها للتحرش في طفولتها من قبل شخص يكبرها سنا. وانطلاقا من هذا المعطى بات من الواضح أن أحلامها تستذكر باستمرار هذه الذكرى.
وحول ما إذا كان فهم الأحلام يساعد على تحقيق بعض التقدم، أكد لاهير أن هذا هو الجانب المحبط في العلوم الاجتماعية، ذلك أنه لوقف الشعور بالذنب عليك إدراك أن هذه المعاناة هي ثمرة التجارب والعلاقات مع الآخرين.
وفي أحلام المتطوعين، كان تكرار بعض المواضيع مثل هيمنة الذكور ملحوظا، إذ تبين أن امرأة من كل 4 تعاني من عنف الوالدين أو المنافسة المدرسية. وعادة ما يتكرر الحلم نفسه إذا تساءل المرء عن جوهر أحلامه بانتظام.
التأثير العلاجي
وحول مدى أهمية حماية النفس من بعض الحقائق، تحدث لاهير عن المتطوع الأكبر سنا في مجموعته الذي سجل أحلامه على مدى 40 عاما، وكانت أحلامه تعكس مشاهد وصدى من حادثة اغتصاب تعرض لها في طفولته، وكان الجاني جده.
وحتى إن كان قادرا على عيش حياة ودية سلمية، فإنه لم يرغب في إنجاب الأطفال خوفا من أن يكون هو نفسه معتديا مثلما توحي له أحلامه. وقد حمى نفسه من هول هذه الصدمة بالعمل خارج البلاد لمعظم حياته. ومع عودته إلى فرنسا، أراد معرفة سبب معاناته والكوابيس التي تطارده ليلا منذ مدة طويلة.
ولكن هل من الممكن تعميم التحليل الاجتماعي للأحلام؟ يجيب لاهير بأنه من خلال النسج على خطى فرويد، يمكنه تدريب المعالجين الاجتماعيين على إيجاد مناهجهم الخاصة، وهذا الأمر من شأنه أن يساعدهم على تطبيق مهاراتهم في علم الاجتماع.