تنتمي تجربة الشاعر رفعت سلام (1951-2020) إلى جيل السبعينيات من المشهد الشعري المصري المعاصر، هذا الجيل الذي يُعتبر جيلا مؤسسا داخل الثقافة المعاصرة، ليس في مصر فقط، بل داخل كل الأقطار العربية الأخرى.
وبدت أهمية شعراء هذا الجيل بارزة وقوية داخل مسار تحديث الشعر العربي المعاصر والخروج به من بنية التقليد، التي حاولت بعض التجارب الشعرية تكريسها، ورغم ما تحبل به بعض تجارب الستينيات من اشتغالات فنية وجمالية، إلا أنها تبقى نادرة ومعدودة على أصابع اليد الواحدة.
بالمقارنة مع موجة السبعينيات وما لعبته من دور خلاّقٍ في اختراق مُتخيّل الشعر العربي، بحيث إن تجارب من قبيل رفعت سلام، وعبد المنعم رمضان، وعبد الله زريقة، وأمجد ناصر، ومحمد بنيس، وقاسم حداد، اقترحت أشكالاً شعرية منفلتة من قبضة التقليد ومن سلطة النمودج الشعري العربي القديم من خلال اقتراح رؤى وتصورات أكثر حميمية بالذات ومشاغلها اليومية، وهي تلتقط العابر والزائل والمتلاشي واللامرئي والمنسي واللامفكّر فيه داخل النص الشعري العربي، سواء على مستوى اللغة أو الشكل أو التخييل، فهي وضعت “القصيدة” على حافة الجرح والسؤال والتجريب.
هذا الأخير سيغدو أحد أبرز الملامح الجمالية، التي انطبعت بها تجربة الشاعر رفعت سلام وفتحت لها وللشعر المصري آفاقا جديدة على مستوى التخييل، وجعلت النص الشعري ينطلق في الأساس من الذات وسراديبها المعتّمة وشغفها بالبحث عن لغة شعريّة منفلتة من قبضة القاموس السياسي اليومي، الذي وُسمت به تجارب شعرية عربية أخرى في ذلك الإبان في إطار ما سميَّ تاريخيا بـ”القصيدة الأيديولوجية”، من أجل تغذية الشعور العربي والوجدان الفردي تجاه بعض القضايا المركزية، التي اكتسحت المنطقة العربية منذ نهاية ستينيات القرن العشرين.
مع أن مصطلح “القصيدة الأيديولوجية” يحتاج إلى أكثر من مراجعة نقدية بسبب عموميته وإسقاطاته على جيل لم تكن “الأيديولوجيا” بالنسبة له اختيارا وإنّما ضرورة ملحّة ومفروضة وجوديا وسياسيا، جعلته ينخرط جسديا في هذه الممارسة تجاه الأنطمة ومؤسساتها القمعية، سرعان ما ستتلاشى لصالح نص شعري يراعي الخصوصيات المعرفية والجمالية ستبزغ أكثر فأكثر داخل تجربة رفعت سلام منذ منتصف الثمانينيات.
الشعر لا الأيديولوجيا
كل هذا جاء كمحاولة منها للتصدي لمختلف السلط السياسية والأمنية والدينية، التي عملت على عرقلة وانحسار مسار تحديث الأدب العربي ومعه رواد الفكر التنويري الحداثي، الشعراء منهم على الخصوص.
ومع ذلك، وبانتماء الشاعر رفعت سلام شعريا إلى هذا الجيل، فهو لم يكن يؤمن بمفهوم الحدود والسياجات التي تقيّد مسار فعل الكتابة، وهي تحفر مجراها عميقا في الأجناس الأدبية على اختلاف مشاربها وتنوعاتها، بحيث إنه إلى جانب مشروعه الشعري دأب رفعت في كل مرّة على أن يُطالعنا بعمل عبارة عن ترجمة لأحد الرموز الشعرية العالمية مثل رامبو وبودلير ووالت ويتمان ويانيس ريتسوس وكفافيس وغيرهم.
هكذا اعتقدت الصحافة العربية أنها مجرد نزوة أدبية عابرة، لكن سرعان ما اكتشفت أن الشاعر رفعت سلام يحمل مشروعا خالصا ومُتفرّدا في ترجمة هذه الأعمال الشعرية الكبرى، حتى أضحى في مدة وجيزة من أهم الأسماء المصرية التي تشتغل بشكلٍ موازٍ بالكتابة الأدبية والترجمة في آن واحد.
الشعري والسياسي
وعلى الرغم من التضييق الذي شهده رفعت سلام وجيله خلال سنوات الجمر، فإن هؤلاء ظلوا متشبثين بتغيير وتحديث الشعر العربي المعاصر والخروج به من النموذج الحديث بناء وتخييلاً، وجعله في قلب المجتمعات العربية، ليس فقط كقوّة ضاغطة ومساعدة على الثورة، وإنما أيضا المراهنة على البُعد الجمالي داخل النص الشعري، بغية تحريره من الطابع الأيديولوجي الذي غدا علامة تُميّز هذا الجيل عن غيره من الأجيال الشعرية الأخرى داخل العالم العربي.
يقول الكاتب الجزائري عبد الرزاق بوكبة في هذا الصدد للجزيرة نت “حين بدأ رفعت سلام يكتب رفقة نخبة من الشعراء، كانت الذائقة العربية السائدة غارقة في تمجيد الهواجس الوطنية والقومية التي فرضتها الأوضاع العامة في إطار هيمنة خطاب الحرية والاستقلال الوطني، فكانت القصيدة المعتمدة على النبرة المباشرة وعلى الهاجس الجماعي هي المتصدرة للمشهد الكتابي والقرائي، وهما العاملان اللذان جعلاها تنوء بأعباء جردتها من روح الشعر وقرّبتها من روح السياسة، فكانت وثيقة سياسية أكثر منها وثيقة جمالية”.
ويُضيف بوكبة أنه في ظل هذا الوضع “الثري بالقصائد والفقير من الشعر، انتصر رفعت للذات انتصارا جماليا ولغويا وفلسفيا، مُتخذا منها منطلقه ومنتهاه. وحتى “السلفية” التي ربط بها نصه كانت موصولة بالتجارب الحداثية في التراث الشعري العربي، خاصة المتصوفة وأهل الرمز والرؤيا. فكان ذلك موقفا سياسيا في حد ذاته منه ومن نخبة من الشعراء من جيله الذي سمي بجيل الهزيمة لكنه في حقيقته جيل الانتباه إلى خواء الخطاب السياسي القومي الذي أنهك المنظومات العربية كلها بما فيها المنظومة الشعرية.
لقد لعبت السياحة الفكرية والروحية التي كان يقوم بها رفعت سلام في المدونة الشعرية الغربية دورا كبيرا في تشبثه بخياره الجمالي المضاد للمرحلة ولخطابها المترهل؛ فترجم منها تجارب كان يراها نصيرة وشريكة في الخيار. هنا، تفرض ملاحظة مهمة نفسها في سياق الحديث عن تجربة رفعت سلام مترجما للشعر الغربي هي أنه من الشعراء العرب القلائل الذين عبروا عن انبهارهم بالشعرية الغربية عن طريق الترجمة لا عن طريق نصوصهم نفسها، حيث بقيت نقية وأصيلة في عزّ اندفاعها نحو التحديث”.
تجريبٌ متواصل
في عمله الشعري الأخير “أرعى الشياه فوق المياه” الصادر حديثا عن دار خطوط بالأردن، تتبدى جيدا هذه المراجعة النقدية التي خصّها رفعت سلام نفسه لتجربته الشعرية، ففي هذا العمل تبرز قوة التجريب الجمالية، فهو حريص هنا على جعل الشعري يتماهي مع البصري من خلال جعل نصوصه الشعرية تتلاحم مع رسومات فنية لنسور وتماسيح وخبط أجنحة وآثار المشي والأقنعة وخطوط متموّجة الأشكال وغيرها من العلامات البصرية، التي تُضيء فضاء النص الشعري وتجعله يدخل في عملية سجال مع هذا الموروث البصري القريب من الحضارة المصرية، لكن دون أن يُقيم في هذا التاريخ الغني، بقدر ما يجعل منه دوما مجرد صور واستيهامات تنطلق بالأساس من الواقع الذي ينتمي إليه.
يقول رفعت في مطلع هذا العمل الشعري الجديد “أنا الغراب الناعق، أرفرف فوق الأطلال، سعيدا مبهورا (يا الله أهو العيد؟ أم مهرجان ما)، تحتي الركام والخرائب زاهرة، تحتي الحرائق باهرة، أشلاء متطايرة، والدخان يصاعد من أقسام البوليس، الحزب الحاكم، العربات المصفحة والمدرعات، والمخبرين والضباط، الصحف وقنوات التلفزيون، البنوك، الوزارات، الثكنات، التصريحات، الأغاني، قصائد النثر الرديئة، الشوارع أنهار دم تسبح فيها أسماك الغلّ والأحلام الموؤدة، يلعب فيها الأطفال الحفاة، تحتي تصدأ النجوم والسيوف الصفراء، تنفق النسور، تتعفّن، على أكتاف العسكر، وتحتي تزدهر قيامةٌ ما”.
وهذا الأمر هو ما فَطِن إليه الناقد السوري علي سفر، إذ يقول في حديثه الخاص للجزيرة نت إن “الاستغراق بالشعر إلى درجة نسيان الزمن، والتخلي عما يحدثه في المخيلة من تكبيل لنوابضها المجنونة، وإعادة تحريرها مرة بعد مرة، هي ذي مغامرة رفعت سلام الذي انتمى لجهة الأجيال إلى عقد السبعينيات، لكن فعليا كان مجربا وكأنه تسعيني، وحتى الانتماء إلى آفاق جيل الألفية الجديدة! الشاعر ينتهي فيما يكتبه في أعلى درجات الإطلاق لطاقات الجنون، لكنه في نهاية المجلد الثاني من أعماله الكاملة يستحدث لتاريخه ذاكرة، سماها “حبو” أو قصائد أولى!”.
الفوضى الخلاقة
على هذا الأساس يبدو للناقد علي سفر بأننا “حين نتذكر أنه نشر مجموعته الأولى “وردة الفوضى الجميلة” في العام 1987، وهذا وقت متأخر عن تاريخ معرفة القراء به كشاعر! ومتأخر بشدة أيضا عن الفعالية الشبابية المهجوسة والمتعلقة بالشعر إن كان عبر الانتماء والفعالية في مجموعة “إضاءة 77” وكذلك النشاط المبهر بحسب زمانه ومكانه في مجلة “كتابات”! الإخلاص للتجربة بهواجسها الفنية وربما السياسية أيضا، جعل من رفعت سلام واحدا من صناع المعرفة الشعرية العرب، خاصة وأننا لا نستطيع البحث في معنى الشعر ضمن معيارية الحاضر دون التأمل في تجربته المستمرة منذ البداية، وحتى كتابه “أرعى الشياه على المياه” ولا سيما جمعه بين المتن والهامش والرسوم، وكأنه يستعيد طفولة الإنسان! وكذلك لا نستطيع تجاهل ترجماته لبعض من أهم الشعراء حول العالم، ومنهم بالتأكيد اليوناني ريتسوس، الذي لا تجد شاعرا يكتب قصيدة النثر لم يقرأ شيئا من نصوصه المؤثرة! والترجمة الجميلة لكتاب سوزان برنار عن قصيدة النثر!”.
يختم علي سفر حديثه للجزيرة نت قائلا إن “حيثيات كثيرة في حياة الشاعر الشخصية جعلته على الحافة المجرّحة، من الأحداث التي عاشها في العقد الأخير لجهة الانتماء إلى الثورة، ومواجهة استلاب طاقتها، والانقلاب عليها من قبل العسكر، كما أن المعاناة المديدة من المرض، بتلاصقها مع الانكسارات العميقة، لا يمكن أن تمر في تقييم واقع الحال مرور الكرام! وضمن هذا الأفق تصبح التجربة الشعرية بثوريتها وعمقها المعرفي هي الملاذ! وهي السبيل للنجاة! رغم أن الموت لا يقبل الهزيمة، إلا أن مواجهته ممكنة، وهذا ما فعله رفعت، فجعلنا نستذكر قصائده، فلا ننسى شاعرا عبرَ حياتنا، وتركنا حيارى، من أين يأتي في مثل أيامنا الكئيبة مثل هذا الجمال؟!”.