استقبلت رفوف المكتبات العربية حديثا أحد الإصدارات التي تتكئ على فنّ السيرة الذاتية، وتتخذ منه وشاحا في تطوافها بين مجالات وعوالم متعددة؛ ويتعلق الأمر بكتاب “الرحيل عن الجنة” للإعلامي اليمني بقناة الجزيرة أحمد الشلفي.
وبقدر ما يكسر العنوان “أفق المتلقي” الذي يجد الرحيل عن الجنة مفارقة؛ رغم أنه المعطى الأقدم صلة بالإنسان منذ هبط آدم وحواء إلى هذا الأديم، فإن في صفحات الكتاب ما يمثل مزيدا من الاستقطاب لك نحو استكشاف صورة جميلة عن اليمن ومدنه وأبنائه من خلال شريط من التفاصيل يشمل الاجتماعي والأدبي والسياسي، ويبني عجينته من الجغرافيا قبل كل شيء، وذلك في 241 صفحة لا تنفك تخبرك بحرف آسر.
اختار مؤلف الكتاب -الذي صدر عن دار “روزا” للنشر في الدوحة- أن يدخل إلى نادٍ عريق؛ كبراؤه أولئك الذين فضلوا أن يسطروا مراحل سيرهم الذاتية، فتبقى طازجة، إذ حفلت الكتابة الثقافية بهذا النهج، لا سيما في العصر الحديث، وإضافة إلى ما لهذا المسعى من أهمية على مستوى التوثيق التاريخي، والمساعدة في استخلاص القراءات الخاصة بالتمثلات الحياتية، فإنه يوفر سياحة ممتعة تجمع لك حيّزا زمنيا بكل متعلقاته؛ فتبقى منهمكا في متابعة مساره بشغف وتوْق، خاصة إذا كنت في ضيافة قلم تتمازج في حبره فنيات الإعلام والأدب.
بدءًا من البيت ويوميات الصّبا شقَّ قطار الكتاب طريقه، متعرجا في مسارات تضم محطات وفصولا؛ فتجد الحديث عن علاقة الكاتب بتخليد ذكرى ميلاده مقدما لك حكايات من عالم الأسْرة وفضاء القرية، ثم يصور لك اهتمام الآباء بأنجالهم، وكيف يتخذ هذا الاهتمام مظهرا من الصرامة في مثل محيطه الذي نشأ به وترعرع، حتى إذا شبّ عن الطوق كان يقوّم ذلك ومدى نتائجه إيجابا أو سلبا.
كما ترى ضمن اليوميات دور الأمهات في تعز وهن يبذلن قصارى الجهد لضمان انتظام موائد البيت ورعاية شؤون العائلة، في بيئة يرسم الكتاب تفاصيلها ويستطيب تراتيلها التي تدغدغ أنسام الفجر وتعبق بها الأنحاء كلما كانت على موعد معها.
سريعا، وأنت تستكشف الكتاب، تظفر بالسر الذي يقف وراء مؤهلات كاتبه؛ فحديثه عن دراسته قائمةً عتيدة من الكتب اللغوية والنحوية التي تعَد أسسا رصينة في بابها، هو ما حدا بحروفه إلى أن تنساق مستمدة من ينبوع الأصالة زادها، وهو ما مثل رقما مهما أيضا في تشكيل الذهنية الشخصية التي تترك أثرها على بناء المنتج.
ولكن “الرحيل عن الجنة” لا يكشف ذلك فحسب، بل يقدم صورة متداخلة العناصر في مجال الروافد الثقافية، فكتابات “المودودي” إلى جانب نصوص لينين وهتلر، إضافة إلى “الأيام” لطه حسين، وعناوين الروايات وأصوات الشجن التي تدب عبر أغاني مشاهير الفنانين وغيرها؛ كلها مكوّنات شديدة التنافر أحيانا، ولكنها انسجمت في صياغة اهتمام مؤلف الكتاب الذي يوقفك على علاقته بها بين ثنايا الصفحات.
أما المحطات ذات الصلة بالتجربة العملية، فكان لها حظّها أيضا من شدّ انتباه القارئ وهو يعاين إجراءات اكتتاب أحد الإعلاميين بصرح إعلامي شهير، عبر كاميرا السرد في الكتاب، ثم لاحقا تزج بنا الصفحات في معايشة التغطيات الإعلامية الساخنة والسياقات الثورية المضطربة، في إحدى اللحظات العربية التي تركت توقيعها على الزمن؛ ذلك التوقيع الطويل والملتّف في خطه، حيث يشمل العديد من البلدان التي وقف الكاتب بإحدى ساحاتها المحلولكة، مساهما في رصد وتخليد اللحظة.
اعلان
تلكم لقطات من فضاء الجنة التي يقصدها عنوان الكتاب، وبعد تجربة الاغتراب كان الخروج عن الجنة، ولكن إلى أين؟ ذلك ما لعل الكاتب يشير إلى الإجابة عنه من خلال سفر آخر.