ضمن حوارات فكرية ومعرفية تهدف لفتح قضايا التراث والحداثة في سياق معاصر، تستضيف الجزيرة نت البروفيسور أحمد ت. كورو أستاذ العلوم السياسية بجامعة سان دييغو الحكومية، وهو باحث وأكاديمي له إصدارات خلفت نقاشًا في الساحة الأكاديمية الغربية والعربية بشكل كبير، حيث أصدر كتابا بعنوان ” Secularism and State Policies Toward Religion: The United States, France, and Turkey” سنة 2009 وترجم للعربية تحت عنوان “العلمانية وسياسات الدولة تجاه الدين: الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا”.
وله أيضا كتاب أخير بعنوان “Islam, Authoritarianism, and Underdevelopment: A Global and Historical Comparison ” الصادر عام 2019 وهو قيد الترجمة للعربية تحت عنوان “الإسلام، السلطوية والتأخر: مقارنة عالمية وتاريخية” وكلا المؤلفين من إصدار جامعة كامبريدج.
ويتطرق حوارنا مع كورو للأفكار الأساسية لكتابه الأخير بحكم أنه يقدم تصوراً رائدًا حول حقبة تاريخية رهنت الحضارة الإسلامية، وخاصة أنه يسلط الضوء على فكرة مهمة مرتبطة بعلاقة العلماء بالسلطة وآثار هذا على البنية المعرفية السائدة للحضارة الإسلامية. هذه الدراسة تظهر مدى أهمية استقلال العالم المسلم الذي كان تاجراً بحقبة تاريخية معينة، وتحوله إلى تابع للسلطان، وآثار ذلك على البناء الحضاري للإسلام.
كما يشمل الحوار وجهة نظر ت. كورو حول عملية تشكل الآداب السلطانية، وكذا دور الطباعة في بناء البنيان المعرفي في الغرب والعالم الإسلامي، كما يعطي وجهة نظره حول آليات استئناف النهوض في العالم الإسلامي. فإلى الحوار:
في كتابك “الإسلام، السلطوية والتأخر..” قمت بتوصيف وضع الدول الإسلامية التي تعاني أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية بالجزء الأول، ثم بدأت بإظهار الأسباب التاريخية، هل جذور مشاكلنا مرتبطة بالتاريخ؟
شكرا جزيلا على هذه المقابلة. يسعدني أن كتابي الجديد تتم ترجمته الآن إلى العربية (عن طريق الشبكة العربية للأبحاث والنشر) ويُترجم كذلك إلى البوسنية والإندونيسية والفارسية.
أنا عالم في حقل السياسة ولستُ مؤرخًا، ومن هنا يبدأ كتابي طرح السؤال: لماذا تعرف البلدان ذات الأغلبية المسلمة مستويات أعلى من الاستبداد وانخفاض مستويات التنمية الاجتماعية والاقتصادية مقارنة بالمتوسطات العالمية؟ هذا السؤال يصبح محيرًا أكثر عندما يسلط كتابي الضوء على التاريخ ويظهر أن المسلمين كانوا متفوقين فلسفيًا واقتصاديًا على الأوروبيين الغربيين بين القرنين التاسع والحادي عشر.
المسلمون كانوا متفوقين فلسفيًا واقتصاديًا على الأوروبيين الغربيين بين القرنين التاسع والحادي عشر
ينتقد كتابي كلا التفسيرين الذائعين لمشاكل العالم الإسلامي. حيث يرى التفسير الأول أن الإسلام هو الجاني. وهو ما ينفيه كتابي الذي يُظهر أن الإسلام كان تاريخيًا متوافقًا تمامًا مع التنمية. أما التفسير الثاني فيرى أن الاستعمار الغربي هو المصدر الرئيسي لمشاكل العالم الإسلامي. وفي الحقيقة عالج كتابي بالتفصيل الآثار السلبية للاستعمار الغربي. لكن دراستي تؤكد أنه عندما بدأ الاستعمار أواخر القرن الثامن عشر، كان العالم الإسلامي يعاني بالفعل من ركود علمي واقتصادي.
اعلان
عندما بدأ الاستعمار أواخر القرن الثامن عشر، كان العالم الإسلامي يعاني بالفعل من ركود علمي واقتصادي.
تعتمد مقاربتي الخاصة على العلاقات بين الطبقات السياسية والدينية والاقتصادية والفكرية. في بدايات التاريخ الإسلامي، كان للعالَم الإسلامي طبقات برجوازية وفكرية متفاعلة. في ذلك الوقت كان علماء الإسلام يتمتعون باستقلال في الغالب عن سلطة الدولة. ولكن بعد منتصف القرن الحادي عشر، بدأ التحالف بين العلماء وسلطة الدولة في الظهور. قام تحالف العلماء-الدولة بتهميش المثقفين والتجار تدريجياً في القرون التالية.
علماء الإسلام كانوا يتمتعون باستقلال في الغالب عن سلطة الدولة، ولكن بعد منتصف القرن الحادي عشر، بدأ التحالف بين العلماء وسلطة الدولة في الظهور
في القرنين التاسع عشر والعشرين، أنهى بعض الحكام الإصلاحيين تحالفهم مع العلماء وهاجموا العلماء في الإمبراطورية العثمانية داخل كل من تركيا ومصر وإيران والعديد من البلدان الأخرى ذات الأغلبية المسلمة. ومع ذلك، فإن هؤلاء الحكام الإصلاحيين لم يتمكنوا من حل مشاكل بلادهم لأن هؤلاء الحكام كانوا في الغالب من خلفيات عسكرية، وبالتالي كانوا أيضًا معادين للفكر ومعادين للبرجوازية. ونتيجة لذلك، استمر تهميش المثقفين والتجار حتى يومنا هذا في العالم الإسلامي.
باختصار، كان عليّ القيام بتحليل تاريخي لأن العالم الإسلامي عالق إلى حد كبير في التاريخ، من حيث العلاقات الطبقية الرئيسية والأفكار المؤيدة للسلطوية. فقط بعد التحليل النقدي للعلاقات والأفكار الطبقية الراسخة تاريخياً، يمكن للمسلمين تجاوز التاريخ والتأقلم مع ظروفهم الحالية.
في دراستكم الأخيرة تعطون اهتماماً كبيراً للتجار في الحضارة الاسلامية، وحينما لعب العالِم دور التاجر كان مستقلاً عن الدولة وهو ما ساهم في ازدهار الحضارة الاسلامية. كيف ذلك؟
خلال “العصر الذهبي” للاقتصاد والعلم، بين القرنين الثامن والحادي عشر، كان للمسلمين تجار وعلماء منتجون. في ذلك الوقت، كانت أوروبا الغربية تحت سيطرة الأرستقراطية العسكرية ورجال الدين الكاثوليك، ولم يكن لديها تجار فاعلون أو علماء.
خلال هذه الفترة، كان العلماء في الاسلام يحاولون إلى حد كبير الحفاظ على استقلالهم المالي عن سلطات الدولة، واعتبروا أن ربط علاقات وثيقة مع الدولة من بواعث الفاسد. كان لهذا الموقف خلفية تاريخية، ففي منتصف القرن السابع، اندلعت حرب أهلية بين الخليفة الراشد علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان والي دمشق، وهو ما لحقته مآس عديدة، شملت مقتل الآلاف وقتل الحسين بن علي حفيد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما أدى إلى استياء الشيعة والعديد من المسلمين السنة من العلاقة بين السلطة السياسية والأخلاق الدينية.
كانت الخلافات بين السلطات السياسية والدينية في ذلك الوقت واضحة، ليس فقط في حياة العلماء الشيعة ولكن أيضًا لدى علماء السنة البارزين مثل مؤسسي المذاهب الفقهية الأربعة، بسبب رفضهم لمطالب الحكام السياسيين. وقُتل جعفر الصادق مسمومًا، وتوفي أبو حنيفة في السجن، وجُلد الإمام مالك، واعتقل الشافعي وقُيد بالسلاسل، وتعرض أحمد بن حنبل لتعذيب في السجن.
قام مؤرخ بمراجعة 3900 عالم بين القرنين الثامن ومنتصف القرن الحادي عشر، وخلُصَ إلى أن أكثر من 90% من العلماء أو عائلاتهم يعملون في القطاعات الخاصة، ومعظمهم يعمل في التجارة، فقط جزء صغير من العلماء، أي ما يناهز 9% منهم، عملوا عند الدولة خلال هذه الفترة.
خلف وجود التجار الديناميكيين والعلماء المستقلين بيئة فكرية نابضة بالحياة في العالم الإسلامي. قدم الفلاسفة المسلمون مساهمات كبيرة في مختلف المجالات، مثل الرياضيات والبصريات والطب. كما قاد التجار المسلمون الازدهار التجاري والزراعي. لقد ابتكروا أدوات اقتصادية مثل الشيك والكمبيالة.
التجار الديناميكيون والعلماء المستقلون صنعوا بيئة فكرية نابضة بالحياة في العالم الإسلامي، وأغلب العلماء عملوا قديماً في القطاعات الخاصة
هل كانت الحضارة الإسلامية في أوج ازدهارها عربية أم فارسية؟
لم تكن الحضارة الإسلامية في حقبتها الذهبية حضارة عربية ولا فارسية، لقد كانت حضارة استطاعت أن تضم العديد من المجموعات العرقية والدينية، وقد تميز العصر الذهبي للحضارة الإسلامية بمساهمة المسلمين السنة والشيعة، الذين استلهموا من تعاليم الإسلام، لا سيما فيما يتعلق بإدارة الوقت والنظافة والمساواة. كما شهد هذا العصر مساهمات من المسيحيين واليهود وغيرهم من غير المسلمين، بالإضافة إلى الانفتاح على العلوم والتقنيات اليونانية والساسانية والمصرية والهندية والصينية.
أشرتم في كتابكم إلى أن التحول الكبير الذي عرفته الحضارة الاسلامية كان جراء تحالف العلماء والدولة، كيف بدأ؟
بدأ تحولٌ متعدد الأبعاد في القرن الحادي عشر. فمن الناحية الاقتصادية، بدأ نظام الإقطاعي للتوزيع المركزي للأراضي والزراعة الضريبية يحل محل اقتصاد السوق. أما سياسياً، فقد جعلت السلطنة الغزنوية والسلجوقية هيكل الدولة أكثر عسكرية. أما من الناحية الدينية، فأعلن الخلفاء العباسيون، خاصة القادر بالله ثم القائم بأمر الله، عقيدة “المذهب السائد” ضد الشيعة والمعتزلة. وقد أضعفت هذه التحولات طبقة التجار وجعلت علماء السنة مستعدين لقبول رعاية الدولة.
أنشأ الوزير السلجوقي “نظام الملك” شبكة مدارس تسمى النظامية، وأصبحت هذه المدارس الأساس المؤسسي “المذهب السني السائد” وتحالف العلماء والدولة. وقد بدأ تحالف العلماء والدولة الناشئ حديثًا في تهميش التجار والمثقفين في آسيا الوسطى وإيران والعراق، في القرن الحادي عشر.
في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، قامت سلطنة المماليك بنشر هذا النموذج السلجوقي لتحالف دولة العلماء في سوريا ومصر. وفي القرون اللاحقة، قامت السلطنة العثمانية بإضفاء الطابع المؤسسي على هذا التحالف في الأناضول والبلقان، بينما قامت الإمبراطورية الصفوية ببناء نسخة شيعية من تحالف العلماء والدولة في إيران.
ربط العديد من العلماء الغزالي بكونه المسؤول عن الركود الفكري الذي عرفته الحضارة الاسلامية، وارتبط اسم محمد عابد الجابري بهذه الأطروحة بحكم موقفه من الفلسفة والفلاسفة. هل كان الغزالي خلف تقليص دور العقل في الحضارة الاسلامية؟
قدم كتابي تحليلاً مفصلاً لأفكار الماوردي والغزالي وابن تيمية كمدافعين عن تحالف الدولة والعلماء، وأفكار ابن رشد وابن خلدون باعتبارهما قدما وجهات نظر بديلة.
يتناول كتابي أيضًا أفكار بعض العلماء المعاصرين، أحدهم هو محمد عابد الجابري الذي ينتقد الغزالي لتهميشه للعقلانية وانتشار التصوف في العالم الإسلامي. يقول الجابري “لقد ترك الغزالي جرحًا غائراً داخل العقل العربي الذي يستمر في النزيف”.
ويعرّف العديد من العلماء الغربيين الغزالي بأنه من أكثر الشخصيات تأثيرا في التاريخ الإسلامي. هذا بسبب دوره البارز في تشكيل الإسلام السني بعد القرن الحادي عشر، من خلال استبعاد الفلسفة وإدراج الصوفية.
ومع ذلك، لا يكفي تفسير تدهور العالم الإسلامي من خلال التركيز فقط على الغزالي، الذي كان جزءًا من عامل أكبر وهو تحالف العلماء مع الدولة. وتلقى الغزالي دعمًا من هذا التحالف وساهم داخله. وكانت مساهمته الرئيسية في تحالف العلماء مع الدولة هو الإفتاء بارتداد بعض الفلاسفة ليعاقبوا بالإعدام.
كيف أثرت الحضارة الساسانية على الفكر السياسي الإسلامي، وهل ساهم هذا في تقدم الحضارة الإسلامية أم تخلفها؟
بعد منتصف القرن الحادي عشر، احتاج تحالف العلماء والدولة إلى أفكار جديدة لتبرير هيمنته السياسية والدينية. واستخدم بعض المبادئ الساسانية، أحدها الحكمة الشهيرة لأردشير، الملك الساساني المؤسس الذي عاش في القرن الثالث (حيث) يقول “الدين والسلطة الملكية توأمان. وقدم العديد من العلماء هذا المثل الساساني على أنه حديث.
أعاد علماء ما بعد القرن الحادي عشر تفسير آية “أُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ” في القرآن لتبرير تحالف العلماء والدولة. في كتابه المهم “السياسة الشرعية” فسر ابن تيمية هذه الآية باعتبارها تستجدي طاعة المسلمين للعلماء والأمراء، رغم أن هذه العبارة لا تشير صراحةً إلى أي من الأمراء أو العلماء حيث تقول الآية الكريمة “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ”.
كيف أثرت الغزوات على الحضارة الإسلامية؟
من القرن الثاني عشر إلى الرابع عشر، شهدت البلدان الإسلامية غزوات دموية من قبل المغول والصليبيين. أدت هذه الغزوات بالعديد من المسلمين إلى البحث عن الأمان من الدول ذات الطابع العسكري، للاحتماء ضد الغزاة، كما قدم العلماء تأويلات لأسباب المجازر المحققة. علاوة على ذلك، فإن انخراط الصليبيين في “الحرب الدينية” كان له صدى على العاطفة الإسلامية. باختصار، مكنت الغزوات الأجنبية تعزيز تحالف العلماء والدولة في العديد من السلطنات، بما في ذلك الأيوبيون والمماليك والعثمانيون.
مكنت الغزوات الأجنبية تعزيز تحالف العلماء والدولة في العديد من السلطنات، بما في ذلك الأيوبيون والمماليك والعثمانيون.
من الأفكار الذائعة أن الخلافة العثمانية تميزت بالطبع العسكري، على حساب الجوانب الحضارية الأخرى، وهو ما يمكن لمسه في عملية الطباعة إسلامياً. هل هذا صحيح؟
سيطر العثمانيون، جنبًا إلى جنب الصفويين والمغول، على العالم الإسلامي من القرن الخامس عشر إلى الثامن عشر. وخلال هذه الفترة، استخدم الأوروبيون الغربيون المطبعة والبوصلة البحرية والبارود في تطوراتهم العلمية والجغرافية والعسكرية. واستخدم العثمانيون والصفويون والمغول البارود فقط لأنهم كانوا إمبراطوريات عسكرية أهملت التطورات العلمية والجغرافية.
علاوة على ذلك، رأى العلماء في المطبعة تهديدًا لاحتكارهم الديني والتعليمي. ولم يطبع المسلمون كتابًا واحدًا من عام 1455 (عندما طُبع أول كتاب أوروبي) حتى عام 1729 (عندما طُبع أول كتاب عثماني). وفي القرن الثامن عشر، أنشأ العثمانيون بعض المطابع لكنهم طبعوا القليل من الكتب.
في ذلك القرن، طبع الأوروبيون الغربيون مليار كتاب، في حين طبع العثمانيون 50 ألف كتاب فقط! نتيجة لذلك، بحلول عام 1800، وصل المعدل التقديري لمحو الأمية إلى 31% في أوروبا الغربية، مقارنة بنسبة 1% فقط في الإمبراطورية العثمانية. واستمرت فجوة “الأمية” في الاتساع إلى حد كبير بين الدول الغربية والدول ذات الأغلبية المسلمة حتى اليوم.
استمرت فجوة “الأمية” في الاتساع إلى حد كبير بين الدول الغربية والدول ذات الأغلبية المسلمة حتى اليوم
وفي كلمة أخيرة، كيف يمكن أن نستأنف مسار النهضة في الحضارة الاسلامية؟
شكرا جزيلا على أسئلتك العميقة والمثيرة للتفكير. لقد ساعدتني في شرح بعض الجوانب المهمة في كتابي. دعني أجيب بإيجاز: من أجل تحقيق النهضة، يحتاج المسلمون إلى المثقفين الإصلاحيين والطبقات البرجوازية، القادرة على تحقيق التوازن بين سلطة العلماء وسلطات الدولة. وأثناء إصلاح مؤسساتهم وأفكارهم، لا يحتاج المسلمون إلى التركيز على تقليد النماذج الغربية. وبدلاً من ذلك، يمكن أن يستلهم المسلمون من عصرهم المزدهر خلال القرنين التاسع والحادي عشر، من خلال إعادة تأسيس التنوع والديناميكية والإنتاجية، وهو ما يساهم في تمكين المسلمين من إيجاد طريق لهم لتحقيق نهضتهم في عصرنا الحالي.