أظهر فيديو من محافظة واسط العراقية، الأسبوع الماضي، قيام محافظها محمد المياحي بالاعتداء بالضرب على شرطي مرور. قبل أشهر، انتشر فيديو آخر يظهر محافظ نينوى السابق نوفل العاكوب، في مكتبه، وهو يمارس عنفا لفظيا بحق مدير مدرسة لقيام المدير بضرب وتعنيف تلاميذ في مدرسته.
من جنوب العراق الشيعي إلى شماله السني، يختلف العراقيون على أمور كثيرة، لكنهم يتفقون على واحدة: العنف. كان زوج أم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين يؤدبه بالضرب بعصا. انتقل صدام للسكن مع خاله خيرالله طلفاح، صاحب الكتاب الذي يقول فيه إن ثلاثة لا يستحقون الحياة هم “اليهود والفرس والذباب”. ويوم حضر جابي الكهرباء يطالب خيرالله بتسديد ما تأخر عليه من مدفوعات، أوعز خيرالله لابن أخته بالتخلص من الجابي. مات الجابي مقتولا. ثم وسّع صدام نشاطاته، وأقام ـ بصفته رئيسا للجنة الزراعة في “حزب البعث العربي الاشتراكي” ـ جهاز إعدامات صفى بموجبه أعداء الحزب، وأعداءه داخل الحزب. وأطلق صدام النار على رئيس العراق، وأطلق حرس الرئيس النار على صدام، فأصابوه في قدمه، وفر هاربا. ثم ترأس صدام، وخاض حربا قصيرة مع شاه إيران، وتصالحا، فحرب جديدة مع إيران “الخميني الدجّال”، فحرب على الكويت.
وبين حروبه، تفنن صدّام في قتل العراقيين، بعضهم دفنتهم جرّافاته أحياء في قبور جماعية. بعضهم، كالكرد في الشمال، رماهم بالسلاح الكيماوي. بعضهم الآخر رماهم من على سطوح البنايات، أو فتح في جماجمهم ثغرات بمثقاب البناء الكهربائي. المحظوظون من ضحايا صدام، مثل نسيبيه وابني عمّه صدام وحسين كامل، ماتوا برصاص وقاذفات عشيرتهم في حرب صغيرة في أحد الأحياء السكنية في بغداد. ثم يقولون لك إن أميركا تسبب بالحروب والعنف في العراق.
لم يتوان خصوم صدام العراقيين عن محاولاتهم قتله. لاحقوه، رصدوه، حاولوا قتله في الدجيل، لكنه المهووس أبدا بأمنه، شعر بفطرته أن تلك الخالة التي قبلته ووضعت يدها على سيارته رسمت إشارة، فانتقل إلى سيارة أخرى، ونجا من الاغتيال، وأرسل أزلامه، لا لقتل كل من في الدجيل بلا تفرقة فحسب، بل لجرف البيوت، وحتى أشجار النخيل. هكذا كان صدام، داخل العراق وفي الإقليم، إما قاتل أو مقتول.
لم يأت صدام من المريخ. لم يبتكر العنف كوسيلة وحيدة للتواصل البشري، بل هو كان وليد ثقافة العنف، عاشها وتفوق فيها على كلّ أقرانه، إلى أن وضعت الولايات المتحدة حد لحفلة العنف التي كان يمارسها، وحاولت إنصاف ضحاياه. لكن غالبية ضحايا صدام، أي الشعب العراقي، ظهر أنها على شاكلته، تمارس العنف بلا خجل، إن في المدارس، أو في الشوارع.
“راح صدام وجاء مئة صدام” هو القول الذي يردده العراقيون بشكل متواصل اليوم. يوم استعادت الميليشيات العراقية الشيعية تكريت من الميليشيات السنية الإرهابية (داعش)، راح الشيعة يطلقون النار على ضريح صدام، الذي كان أصلا كومة من الركام. حتى الركام لا ينجو من حفلات العنف العراقية.
الأسبوع الماضي، انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي فيديوهات لمتظاهرين في أكثر من منطقة من العراق، في الجنوب وبغداد والشمال، يهتفون لصدام. ربما هتافهم كان لإثارة حفيظة حكام العراق اليوم، الذين يخالط عنفهم الأقل دموية الفساد. ربما يعتقد العراقيون اليوم، بعدما رأوا عنف من خلفوا صدام في الحكم، أن صدام لم يختلف في عنفه وفساده عن حكام العراق اليوم، وأن الفرق الوحيد هو أن صدام كان ثابتا في الحكم، فيما يتناوب خلفاءه على العنف والفساد، بحسب من يختاره العراقيون كل أربع سنوات.
في التعليقات على لقطات ضرب محافظ واسط شرطي المرور وتوبيخ محافظ نينوى مدير المدرسة، يندر أن نقرأ عراقيين يطالبون بالادعاء على المحافظين وإحضارهما أمام القضاء لتقرير عقوبتيهما. يندر أن نقرأ أنه كان على كل من المحافظين اللجوء إلى التدابير الإدارية المتوفرة لإنزال العقوبة بحق شرطي المرور، في حال ثبتت مخالفته، وبحق المدير.
غالبية العراقيين ترغب في أن ترى كلا من الشرطي والمدير يضربان المحافظين، أي يبادلاهما العنف بالعنف. صحيح أن الضحيتين تعرضتا للعنف، ولكن يمكن لكل منهما اللجوء إلى القضاء، وطلب تعويضات معنوية (اعتذار) ومادية، والتسبب بالإطاحة بالمحافظين وتحويلهما إلى عبرة لأي محافظين قد يلجؤون إلى العنف مستقبلا في إدارة شؤون محافظاتهم.
لم يطالب المعلّقون العراقيون باللجوء إلى القضاء، بل طالبوا بمبادلة العنف بعنف. لم يمت صدّام. مات جسديا، لكن الثقافة التي أنجبته ما تزال حية، وما تزال مسؤولة عن الشقاء الذي يعيشه العراق ومنطقة الشرق الأوسط بأكملها، وبدون التخلي عنها، يستحيل أن تقوم للعراق، أو للعراقيين، ولا للعرب والإيرانيين، قائمة.
كاتب عراقي والمقال عن موقع الحرة