“خليل” ياسمينة خضرا وتسريد الإرهاب.. هل اهترأ المشروع الروائي؟

لا ندري متى يتخلص الروائي الجزائري ياسمينة خضرا من موضوع الإرهاب الذي رهن فيه تجربته الروائية؟! فلا حاجة مثلا إلى البحث ولا التساؤل عن موضوع روايته الجديدة، فهي حتما عن الإرهاب أو قريبا منه!

فقد ظل الكاتب الفرنكوفوني الجزائري محمد مولسهول، أو “ياسمينة خضرا” كما سمّى نفسه، يلاحق الظاهرة من الجزائر إلى أفغانستان إلى العراق إلى فرنسا وبلجيكا وحتى فلسطين المحتلة حيث اصطدم التخييل بالتباس مفهوم الإرهاب بالمقاومة.

وصار الكاتب يتصيد الأحداث العالمية لتحويلها إلى روايات أو الانطلاق منها وهو تقليد روائي عالمي لا مشكلة في الانتساب إليه ولا يمكن أن يدعي في المقابل أصالة فنية. لكن يبدو أن انعدام أفق انتظار مع كاتب يكتب رواية الجريمة والرواية السوداء ويأتي من الكتابة البوليسية يطرح مشكلا حقيقيا عن مستقبل الكاتب، وفي روايته “خليل” المنقولة إلى العربية مؤخرا عن دار هاشيت أنطوان يطرق الكاتب موضوعه الأثير ذاته.

إعادة تسريد الحدث التاريخي
كان يوم 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 يوما أسود في باريس إثر عملية إرهابية استهدفت مسرح الباتاكلان ومطاعم ومقاهي وملعب فرنسا الكبير حيث تجرى مقابلة مهمة في تصفيات كأس العالم بين المنتخب الفرنسي والمنتخب الألماني وأسفرت العملية الارهابية عن 130 ضحية ومئات الجرحى ووصفت بالأكبر من حيث عدد الضحايا تاريخيا في زمن السلم.

قُضي على المهاجمين في عين المكان وقبض على مغربي على الحدود البلجيكية يشتبه في تورطه في العملية بعد أن أثبتت التحقيقات أنه استقل سيارة أجرة من بلجيكا إلى باريس وأنه تراجع عن تفجير نفسه قرب الملعب.

وكان متوقعا أن ينشغل الأدب والفن بهذه الحادثة الفظيعة بعد ذلك وتستلهم منها الأفلام والروايات والأعمال الفنية الأخرى. وكان القراء والنقاد على يقين أن مثل هذه الحادثة لا يمكن أن تفلت من ياسمينة خضرا. وانتظروا الرواية ولم يتأخر صاحب “بم تحلم الذئاب؟” و”سنونوات كابول” و”أرواح الجحيم” و”الصدمة”، ليظهر عليهم بروايته “خليل”.

الشخصية النمطية وارتباكات الكتابة
عندما كتب ياسمينة خضرا روايته “بم تحلم الذئاب” التي نقلها إلى العربية أول مرة الروائي أمين الزاوي، حاول أن يتوغل في رأس الإرهابي لكي يقدم مقترحه السردي لما يمكن أن يجعل من ذلك الشاب الجزائري إرهابيا، وأرجع ذلك إلى الأفق المسدود الذي يعيشه المواطن الجزائري في بلد القمع والفقر المدقع، وتوغل في حياة أسرته وما تعرض له الشاب من صعوبات قبل أن ينقض عليه المتطرفون ويحولونه تدريجيا إلى إرهابي.

بدت الرواية مقنعة بمقترحها وجريئة بإعطاء صوت للإرهابي لكي يتحدث عوض الروايات التي كانت رائجة والتي تمارس قطع اللسان وتتحدث عن الإرهابي دون أن نتعرف عليه خارج الصور النمطية المتكررة “الكليشيهات” التي وضعها الإعلام الجزائري وخطاب السلطة. غير أن ياسمينة خضرا في روايته “خليل” ينتكس خطابه الروائي ليبقى مسطحا عندما ترك الإرهابي الذي رمى بحزامه وتراجع عن تنفيذ العملية جبنا كما روج مرسلوه واجترح شخصية أخرى فشلت في تنفيذ العملية بسبب عطل في الحزام الناسف.

لا ندري لماذا تجاهل ياسمينة خضرا مَن تراجع عن تنفيذ العملية الإرهابية والذي بدا مشروع موضوع أكثر إنسانية وأكثر من جبن وخوف كما روج له، وربما هي قناعة اللحظة الأخيرة أو سوء التدريب.

وكل تلك القضايا في إمكانها أن تفيد أكثر من شخصية خليل، فإمكانية التراجع عن الإرهاب -ولو في آخر لحظة- فكرة إنسانية ربما تخفي تاريخا آخر وسيرا أخرى وتعطي أملا في أن الإنسانية قد تنتصر على الوحشية. ولكن ذلك يبقى من الخيارات الحرة للمؤلف.

ومع ذلك نحسب أن تلك الشخصية هي التي كانت ملهمته وإن حرّف ياسمينة خضرا سيرتها، لإعادة كتابة الحدث سرديا، غير أن الكاتب قدم خليل المغربي على أنه شاب ناقم على الوضع منسحب من الحياة بسبب عدم قدرته على الاندماج وبسبب أسرته التي رحّلت معها فشلها المغربي إلى بروكسل، وفشلت بدورها في إعادة بناء حياتها وفق الفضاء الذي رحلت إليه ليظل الأب السكير المقامر كما كان بالمغرب وتظل الأم يائسة بلا هدف ولا أمل تشتغل في البيوت بينما الأخوات يطاردهن أصحاب اللحى الإسلاميون ويهددونهن بتشويه وجوههن بماء النار إذا لم يلتزمنَ بالحجاب الشرعي.

أما خليل فكل ما يذكره ياسمينة خضرا في البداية أنه كان تلميذا فاشلا في الدراسة تعرض للتنمّر من فرنسي في طفولته وأن جاره وزميله العربي إدريس أنقذه فصار تابعا له بذلك الدَّيْن القديم حتى جره إلى الإرهاب.

في لحظات من السرد يتخذ أسلوب ياسمينة خضرا في قسم من الرواية أسلوب الأديب الجزائري رشيد بوجدرة في رواية “ضربة جزاء” في تصوير ذلك التناوب بين أحاسيس الإرهابي وأجواء الملعب والمقابلة، غير أن صناعة المعنى كانت بعيدة بينهما فقد كان الراوي في رواية رشيد الفدائي الذي انتقل لاغتيال خائن في الملعب بينما راوي ياسمينة خضرا إرهابي جاء يقتل الجميع. كما أن اللعب الفني لرشيد بوجدرة كان أنضج وبرنامجه السردي كان أعمق وأكثر تركيبا.

“طلبت رقم ريان، أحد أصدقاء الطفولة يجب أن تأتي لاصطحابي”، فاستجاب الصديق القديم ريان وجاء من بروكسل إلى نجدة خليل الإرهابي الفاشل من باريس إثر الانفجارات، أمر بدا متكلفا خاصة أن خليل لم يسبق أن تحدث عن هذا الصديق الذي سيغامر بنفسه ليكون محل شبهة ويدخل فرنسا في ذلك الوقت. وبعدها يحاول ياسمينة خضرا تدارك الأمر فيقدم لنا الصديق “كبرنا سويا أنا وريان. كان على علم بكل مشاكلي العائلية، بأدق تفاصيلها، ويعرف أن العلاقة متوترة بيني وبين والدي”.

في وقت كان قدم لنا أنه صديق قريب لإدريس لا غير وأنه شبه منعزل عن العالم ولا ندري كيف لم يعلم هذا الصديق ريان الذي يعرف كل تفاصيل حياته منذ الطفولة وقوعه في شباك المتطرفين ولا علاقة إدريس بهم وهو صديق الاثنين والذي سينهار عندما يسمع خبر مقتل إدريس في العملية الإرهابية.

إن السقوط في مثل هذه الأخطاء يكون سببه الوقوع في شراك النمطية “الكليشيه” والاضطرار لخلق شخصيات مساعدة بطريقة راديكالية لا يقبلها التمشي السردي للحكاية.

أما الغريب فعلا فهو أن ينتقل الراوي البطل إلى بيت أخته ببلجيكا ولا يخبرنا شيئا عند رحلة الطريق من باريس إلى بروكسل في ظل ذلك التوتر الأمني بفرنسا وأوروبا قاطبة والأغرب أن ينسى الإرهابي أنه مازال يحمل حزامه الناسف حتى بعد أن وصل بيت أخته وقلى البيض وأكل ونام.

“بعد مغادرتها، غفوا فجأة على الكنبة.

أيقظني رنين هاتف. كان يأتي من غرفة نوم يزة.

في الخارج، كانت الشمس تغيب. استدركت فجأة أنني حي أرزق، فانتابني شعور غريب.

تنبهت إلى أن الحزام الناسف مازال حول خصري، وكأنه لا يتجزأ مني، كنت قد نسيت أمره تماما. أضأت الحمام، وخلعت ثيابي، وألقيت سترة الموت على الأرض كيف أعرف سبب عدم استجابة الشحنة على الرغم من محاولاتي اللانهائية لتفجيرها، فلاحظت على الفور أن السلك الآتي من الزر لم يكن موصولا بالمكان المناسب”.

في موقع آخر يكتشف الإرهابي الذي اختبأ في بيت أخته أسبوعا أنه لم يقم بفريضة الصلاة مرة واحدة. اكتشف ذلك بعد عودته إلى حيه ببروكسل ومروره بأحد المساجد.

يقول “عندما مررت أمام أحد الجوامع، تذكرت أنني لم أصل منذ عصر يوم الجمعة 13 نوفمبر”/تشرين الثاني.

كيف لمتطرف ديني جنّد في المساجد ودرب على أيدي المختصين وحفظ ما حفظ من الآيات التي ستساعده على تفجير نفسه قربانا لله الذي حدثوه عنه أن ينسى صلاته أياما وهو الذي يقدم لنا نفسه رصينا ومتمكنا ذهنيا من كل شيء؟!

إلى جانب ذلك، نرى هناك اضطرابا في إيقاع الرواية وخاصة في جزئها الثاني الذي كان فيه الكاتب يلهث وراء اختلاق حياة جديدة للشخصية الرئيسية عبر حشد عدد غير متناهٍ من الشخصيات بدت سطحية في أغلبها كشخصية الإرهابي التونسي وهو ما أحدث مللا في القراءة وهذا أغرب ما يمكن أن يحدث في الرواية السوداء أو الرواية ذات الحبكة البوليسية، إلى جانب ما رصدناه من مشاكل في الخطاب عند توزيعه على الشخصيات عبر حوارات غير واقعية يطغى عليها التنظير في أوقات تكون فيها الأحداث سريعة لا تتحمل كل تلك الثرثرة.

أين المحرر الأدبي لياسمينة؟
عندما التقيت ياسمينة خضرا آخر مرة سنة 2019 وسألته: هل تتعامل مع محرر أدبي؟ انزعج من السؤال وقال فيما معناه “كيف أترك شخصا آخر يلمس حرفا من روايتي”. استغربت وقتها لأن مهنة المحرر الأدبي أول تقليد يجب على الكاتب المحترف التعرف إليه مثله مثل الوكيل الأدبي فهو تقليد غربي عريق وكان وراء عبقرية الكثير من الكُتّاب في العالم من الأميركي همنغواي إلى مواطنه فيتزجيرالد ولعل فيلم “العبقري” للبريطاني مايكل غرانداج كان قد قدّم هذه المهنة خير تقديم من خلال سيرة المحرر الأدبي ماكس بيركنز الذي صنع عبقرية الروائي الأميركي توماس وولف.

لكن، اليوم ونحن نقرأ ارتباكات السرد في أعمال ياسمينة خضرا وتكررها منذ روايته “أرواح الجحيم” يمكننا أن نفهم ما معنى أن تكون دكتاتور نَصّك وتتعامل معه كما لو كان وحيا في عالم أدبي حسم أمره مع فكرة صناعة الأدب.

وذكّرني ذلك بما قاله الروائي الجزائري الآخر المقيم في الولايات المتحدة عمارة لخوص الذي على خلاف من ياسمينة خضرا يؤمن بأن الرواية عمل جماعي، حيث وصف الكاتب العربي الذي يرفض المحرر الأدبي في دور النشر بالذي لا يفرق بين النص الذي يكتبه وزوجته التي لا يريد أن يقترب منها أحد “فالنص الأدبي يحتاج إلى نظرة أخرى محايدة غير المؤلف لتشذيبه مما قد يعلق به من شوائب وتناقضات وتعثر في الإيقاع السردي فينبه الكاتب إليها ليعيد الكتابة”.

إن عودة خليل إلى سيرة أبيه مرة وكأنه يحمله مسؤولية ما وصل إليه ومن ناحية أخرى يتمادى في اعتقاده أن صديقه إدريس كان على حق وكان يجب أن يفعل ما فعله على عكس ريان المندمج في المجتمع البلجيكي والذي يصفه بـ”المبتذل المتكيّف”، يعني أن ياسمينة وضع متناقضات كبيرة في الرواية فكان يجب ألا يروي حكاية العائلة خاصة الأب إلا راو عليم محايد لكن الراوي المشارك هنا يحول السرد إلى فوضى وهو يحاول أن يبني ذاته كشخصية رئيسية ويبرر بطريقة غير مباشرة سقوطه في الإرهاب بسبب الفشل الأسري وسيرة الأب. أي تبرير وجود الشر بعوامل خارجية من ناحية وتبني ذلك الشر وتشريعه من ناحية ثانية، فلا يمكن أن تقول الشخصية إنها ضحية وعلى حق في الوقت ذاته.

أثقل ياسمينة خضرا روايته بالتنظير والتنظير المضاد، فالإرهابي ينظر للحرب ولخساراتها:

إن الحرب أشبه بلعبة حظ لا تخلو من الأضرار الجانبية، والرصاصات الطائشة، والحسابات الخاطئة، وخسائر النيران الصديقة. وفي هذا النوع من المواجهة المتطرفة، تعتبر الحياة والموت على حد سواء قدرا محتوما ليس إلا، أي أنهما ينبعان من مشيئة الله وحده، ونحن نستغرب كيف يُنطق الكاتب إرهابيا متسربا من التعليم بالحكمة والفلسفة.

بينما يقف الصديق الذي نجح في الاندماج منظرا للتعايش “الله ليس أمير حرب، ولا راعيا لمنظمة إجرامية. جاء في القرآن أنه (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيْعًا)” (سورة المائدة: من الآية 32).

إن فكرة الانتقام بسبب خطاب عنصري بين طفلين التي بنى عليها الشخصية لا يمكن أن تصمد سرديا لتبني بالضرورة إرهابيا ولا صورة الأب العنيف المستقيل والذي نرى ظلال والد الكاتب محمد شكري في “الخبز الحافي” كافيا لإنتاج الإرهابي.

ظل صوت خليل رغم أنه تزعم سرد الرواية خافتا وغائبا بل أثقل لسانه بنمطيات “كليشيهات” وضعها الكاتب في حزم لسد فراغ كان يجب أن يحشد بالتأمل والإنصات إلى صوت الشخصية العميق. لقد قال خليل ما يردده الجميع ولذلك لم يرقَ إلى مستوى الشخصية الروائية.

وهكذا تتواصل الرواية في إعادة إنتاج النمطيات المتكررة “الكليشيهات” دون أن تقترح جديدا أو تتوغل بالتخييل إلى مناطق أخرى غير فكرة الثنائيات الناجحة والفاشلة. وهي بذلك تقف في ضمور تجاه رهانها الأول كرواية وهو مبدأ الإدهاش بعد أن تنازلت عن أصالة الفكرة لتخسر مرتين.

مدينة النور والظلام
علاوة على المديح غير المبرر والمبالغ فيه من خلال التصدير الذي انطلق منه الكاتب:

باريس، مدينة النور

يكفي أن ينطفئ واحد من مصابيحها ليغرق العالم بأسره في الظلام”

يبدو أن الكاتب نسي أيضا أن باريس أيضا مصنع للظلامية يوم كانت تصدر أوامرها بقتل الجزائريين والتونسيين وكل من طالب بالحرية من الشعوب التي استعمرتها فرنسا، وهي أيضا التي استقبلت المتطرفين ورعتهم، ونسي الكاتب أن باريس نفسها من كانت عرابة الثورة الإيرانية الخمينية التي قضت على الحرية في إيران ونصبت المشانق. ولم تعتذر أبدا تلك المدينة على جرائمها لا بتونس ولا بالجزائر ولا بأي مكان من مستعمراتها.

ونعتقد أن الروائي يجب أن يتجاوز نمطيات “كليشيهات” الإعلام والسياسة ليقول شيئا مختلفا، فالرواية لها فلسفتها الخاصة التي ترقى بها نحو خطاب أكثر عمقا وأكثر حرية من الخطاب السياسي الموجه.

ويبدو جليا أن مشروع تسريد الإرهاب عند ياسمينة خضرا وصل إلى نهايته ولم يعد ينتج شيئا جديدا لسقوط الكاتب في ترديد ما تقوله الصحافة وما تقوله الاستخبارات وما تقوله حتى الشرطة والسلطة عامة، تلك السلطة التي تبحث عن إجابات سريعة لإعادة استتباب الأمن بدل البحث في ما وراء الحدث، وتلك مهمة الأدب والفن وهو يقارب الأحداث التاريخية.

المصدر : الجزيرة