تستحق عمارة قره باغ أن توصف بالاستثنائية، فرغم وفرة التراث المعماري والثقافة المادية لأذربيجان التي تمثل إبداعا وتراكما كبيرين، فإن “قره باغ” القديمة مثلت مركزا للحضارة ليس لأذربيجان فحسب بل لمنطقة القوقاز بأكملها، إذ تطورت هندستها المعمارية المميزة ذات القيمة الفنية والتاريخية المهمة منذ آلاف السنين، ما يجعلها أشبه بمتحف تاريخي ومعماري مفتوح.
كانت الظروف الطبيعية والجغرافية المواتية بشكل استثنائي لقره باغ باعثا لتنمية زراعية مبكرة، وتم إنشاء العديد من المستوطنات القديمة في المنطقة التي تحولت في النهاية إلى مدن كبيرة ومحصنة جيدا متصلة بالعديد من بلدان الشرق والغرب عبر طرق القوافل، بينما ساهمت الثروة الطبيعية الوفيرة لأراضيها في تطوير العديد من طرق البناء والأشكال المعمارية المميزة.
حضارات عريقة
منذ العصور القديمة، كانت قره باغ، مثل مجمل مناطق نهري كورا وأراكس في القوقاز مركزا للحضارة والثقافة، إذ تحتفظ بعدد من الكهوف التي تشتمل على آثار من العصر الحجري، وآثار شهيرة من المستوطنات القديمة المكتظة بالسكان في العصرين البرونزي والحديدي لا تزال باقية حتى الآن مثل بقايا مستوطنتي سيدلي وجويتيب في منطقة أغدام.
ورغم الحروب العديدة التي شهدتها المنطقة، لا تزال مراحل تاريخ قره باغ باقية في هندستها المعمارية القديمة، ويقسم تقرير الصحفية راتشيل بروكس لمجلة “ريبوبليك آندرغراوند” (Republic Underground)، تلك المراحل لحقبة ألبانيا القوقازية (أران) من القرن الرابع قبل الميلاد حتى بداية القرن الثامن التي كانت تضم أراضي قره باغ، وتركت العديد من البازيليكات (كنائس مستطيلة) في مناطق قره باغ ولاتشين.
بعد اعتماد المسيحية كدين للدولة في القرن الرابع الميلادي، دعم الحكام الألبان استقلال الكنيسة الألبانية الرسولية، مع إعطاء أهمية كبيرة لدورها في الحفاظ على سيادة مستقلة تعارض الاندماج والاستيعاب ضمن بلاد فارس وبيزنطة.
وفي عام 551 ميلادية، تم نقل عاصمة ألبانيا القوقازية من قبالا (شمال أذربيجان الحالية) إلى باردا (التي لا تزال تحتفظ باسمها)، واستلزم ذلك نقل المركز الثقافي للبلاد إلى مناطق الضفة اليمنى لنهر كورا ومن بينها أراضي قره باغ التي بنيت فيها العديد من البازيليكات المبكرة في العصور الوسطى خاصة في باردا ولاتشين.
وفي المرحلة الثانية عرفت قره باغ وألبانيا القوقازية تاريخا عربيا فريدا، وتصف الكاتبة العرب الذين فتحوا المنطقة بأنهم كانوا متسامحين مع السكان المسيحيين، وهو ما سمح لسكان البلاد بالاحتفاظ بدينهم خاصة سكان المناطق الجبلية وسفوح الجبال في قره باغ.
وتنقل الكاتبة عن مؤرخين عرب وصفهم للحمامات والأسواق المغطاة التي اشتهرت بها باردا، أكبر مدينة بالقوقاز في تلك الفترة، والأنظمة المتطورة لأنابيب المياه الفخارية الحضرية المغلقة والآبار، بينما يذكر مؤرخون من ألبان القوقاز موقع كاتدرائية مسيحية بجوار مسجد في باردا.
كنيسة الحسن الكبير
لكن انهيار الخلافة الإسلامية العربية وتحولاتها ساهمت في ظهور العديد من المقاطعات والإمارات في الشرق الأدنى، أهمها مملكة أرتساخ – خاشين الألبانية، التي تشكلت في الجزء الجبلي من قره باغ وكانت جزءا من الدولة الأذربيجانية، وكانت تحكمها سلالة المهرانيين الألبان، وعني أمراؤها ببناء القصور والمباني الدفاعية والدينية.
وشهدت هذه الحقبة بناء المباني الدينية والأديرة الكبيرة، والتي كانت تستخدم في الوقت نفسه كمقابر، وارتبط اسم أشهر شخص في ذلك الوقت، الأمير الألباني القوقازي حسن جلال دولة، ببناء دير غانجاسار (1216-1238)، حيث أصبح عرش حكام الألبان لقرون عديدة.
ويعود تاريخ أكبر مجمع رهباني في أذربيجان إلى تلك الحقبة، ويقع في قرية فانك بمقاطعة كالبجار، وفي نهاية القرن الثاني عشر، تم بناء كنيسة الحسن الكبير فيها، بينما جرى بناء الكنيسة الرئيسية للمجمع في عام 1214 من قبل الأميرة أرزو خاتون، زوجة الأمير فاختانغ (بهرام)، ويحتل نقشها المكون من 19 سطرا جزءا من الجدار الجنوبي للكنيسة.
وبمرور الوقت، تطورت العمارة الألبانية باتباع الأنماط الشائعة للعمارة المسيحية الشرقية، التي لها سمات شبيهة بالهندسة المعمارية للدول المسيحية المجاورة. في الوقت نفسه، تتميز العمارة الألبانية بالتنوع الزخرفي الذي سمح بتشابك زخارف الأيقونات المسيحية والديكور والنقش الإسلامي والرموز الوثنية، ويمكن العثور على هذه الطبيعة المتنوعة في الهندسة المعمارية لآثار قره باغ -المسيحية والإسلامية- على حد سواء.
عمارة إسلامية
تتجلى العمارة الإسلامية في القرنين الحادي عشر والرابع عشر في قره باغ بشكل واضح في الأضرحة، مثل ضريح باردا الذي بني عام 1322 من قبل المهندس المعماري أحمد بن أيوب الحافظ من ناخيتشيفان (إقليم أذريبجان الغربي المحاذي لتركيا).
ويوجد كذلك ضريح مليك أزدار في قرية تابعة لمنطقة لاتشين الذي يعود للقرنين الثاني عشر والثالث عشر، وأضرحة عديدة في قريتي بابا وأخمداليلار بمنطقة فوزولي. وفي منطقة أغدام، تم الحفاظ على نصب تذكاري قيّم من العصر الإيلخاني يسمى ضريح الحاج موسى أوغلو. وحسب النقوش، أقيم النصب التذكاري عام 1314، وغير بعيد عن فوزولي يوجد ضريح مير علي الذي يعود تاريخه إلى أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر.
وهكذا، ترك القرنان الثالث عشر والرابع عشر العديد من النصب التذكارية الإسلامية والأضرحة في قره باغ. وتؤشر الجسور الموجودة في منطقة خديفرين على حجم وجودة البناء الهندسي في القرنين الثاني عشر والثالث عشر.
وهكذا يبدو تاريخ الهندسة المعمارية في قره باغ والأراضي المحيطة بها حاملا لكل من المعالم الدينية المسيحية والآثار الإسلامية بما في ذلك الكنائس والأضرحة والمساجد وآثار العمارة المدنية. ورغم أن أزمنة الحروب العديدة التي شهدتها هذه المنطقة قد قضت على آثار عديدة ولاسيما تلك التي كانت في السهول، فإن الآثار المسيحية والإسلامية التي وصلت إلينا تشهد ببلاغة ورفعة المستوى العالي لثقافة البناء في هذه المنطقة من أذربيجان.
خانية قره باغ
تتميز المرحلة الثالثة في عمارة قره باغ بنشاط البناء الكبير في القرن الثامن عشر، إذ يفتح تشكيل خانية قره باغ (1747 إلى 1805) صفحة جديدة في تاريخ العمارة بالمنطقة التي أصبحت فيها مدينة شوشه مركز الخانات.
بدأ بناء قلعة شوشه في عام 1753، وليس بعيدا عن البوابة الرئيسية على التل كان قصر وقلعة باناهالي خان، مؤسس الخانية، يمثل ذروة التطور الحضري للمدينة.
تم بناء المباني السكنية في شوشه بأسلوب يميز قره باغ، معظمها من طابقين وتواجه الفناء، مع شرفات على أعمدة خشبية، ميزت المباني السكنية لأمراء شوشه مثل منزل الشاعر ناتافان، وقصر الحاج جولولار، ومنازل مهمندروف، وأوغورلو باي، وأسد بك، والمنزل الذي ولد فيه الملحن الأذربيجاني البارز عزيز حاجبكوف، ومغني الأوبرا الأذربيجانية بولبول (Bülbül)، وغيرهما.
وبالإضافة لهذه المعالم الأثرية، كانت هناك عشرات المساجد في شوشه في القرن التاسع عشر، أهمها مسجد شيد على نفقة جوفخار آغا ابنة إبراهيم خان، وصممه المهندس المعماري الشهير كربلاي صفي خان، وهكذا كانت شوشه، التي بناها باناهالي خان قبل 250 عاما، أكبر نصب تذكاري للتاريخ والثقافة والتخطيط الحضري والعمارة لأذربيجان، ومتحف مفتوح في الهواء الطلق، تم اعتباره محمية تاريخية ومعمارية.
وعرفت هذه المرحلة أيضا إعادة توطين جماعي بواسطة روسيا لأرمن من الأناضول وبلاد فارس في مناطق قره باغ ويريفان وناختشيفان، وقرر القيصر الروسي في مرسوم لعام 1836 إلغاء الطابع الألباني لدير غانجاسار وبدعم من الحكومة القيصرية بدأ بناء الكنائس الأرثوذكسية والغريغورية الأرمنية.
وبقرار القيصر تم تدمير آثار الكنيسة الألبانية التي تعود للعصور الوسطى وتم استبدال العديد من النقوش المكتوبة فيها، ولم تستوعب الكنيسة الأرمنية الغريغورية تراث المسيحية الألبانية فحسب، بل فعلت كل ما في وسعها لاستيعاب السكان الألبان وثقافتهم.
ثم جاءت الحرب
يمكن اعتبار الحرب في قره باغ المرحلة الرابعة، إذ أصبحت الحرب التي شنتها أرمينيا على أذربيجان وما تلاها من احتلال 20% من الأراضي الأذرية، بما في ذلك معظم قره باغ والمناطق المجاورة لها من الجنوب والغرب، كارثة حقيقية على التراث الثقافي بشكل عام والمعالم المعمارية المتنوعة للمنطقة، وجرى خلال هذه الحقبة تدمير مئات المعالم التاريخية بالكامل في هذه الأراضي خاصة تلك التي لا تمت للثقافة الأرمنية.
نتيجة للعمليات العسكرية في قره باغ، تعرض العديد من المعالم المعمارية لأغدام وأغديري وفوزولي ومناطق أخرى في أذربيجان لأضرار جسيمة.
ويُظهر البحث الذي أجراه معهد الآثار والإثنوغرافيا التابع للأكاديمية الوطنية للعلوم (أرمني)، أن مقدار الدمار الذي حدث بعد وقف إطلاق النار أكبر بكثير مما سُجل أثناء الأعمال الحربية.
وبحسب الكاتبة “تم تدمير آثار العمارة الإسلامية، التي لا يمكن أرمنتها، عمدا. ولحقت أضرار جسيمة بشكل خاص بمحمية شوشه التاريخية والمعمارية، حيث مساجد يوخاري وأشاغي جفخار آغا وماردينلي وجمعة وساتلي وقصر نتافان ومعظم المباني السكنية، إضافة لممرات من القرنين التاسع عشر والعشرين، والتي ارتبطت بأسماء الشخصيات البارزة في ثقافة أذربيجان، وكذلك شواهد القبور والينابيع”.
وتضيف الكاتبة “تم اتخاذ الإجراءات البربرية نفسها ضد آثار منطقة أغدام مثل مسجد جمعة، وأضرحة بناخ خان من القرن التاسع عشر بالقرب من أغدام، ومجمع الآثار في قرية شاهبولاج، وغيرها”، وفي منطقة جبرائيل، تم تدمير المساجد والأضرحة التي تعود للقرنين السابع عشر والتاسع عشر، وكذلك قلعة أولوخان والعديد من المعالم المعمارية الأخرى في كالبجار.
وتقول الكاتبة إن أعمال “الترميم الأثرية” التي قامت بها سلطات قره باغ لا تنتهك الاتفاقيات الدولية فحسب، بل تنتهك أيضا المتطلبات الحديثة للترميم العلمي للآثار، إذ تظهر جميع الأعمال التي تم تنفيذها تدخلا جسيما في المظهر المعماري يدمر الأصالة التاريخية للآثار وينفي هويتها الأصلية، لنسبتها لتراث الأرمن بدلا من الألبان القوقازيين الذين اعتبروا غانجاسار مركزا للمسيحية الألبانية لقرون عديدة حتى ألغاها مجلس الأساقفة الروسي عام 1836.