عندما يتعلق الأمر بمصر القديمة، فإن العلماء يقولون إن الأمر أشبه بلغز كبير، وغالبا ما يسلكون طرق المحققين في الوصول لحل هذه الأحاجي. وبهذه الطريقة أيضا يتم تناول قصص المومياوات المصرية في أشهر البرامج التلفزيونية والوثائقية.
يتعلق اللغز هذه المرة بصورة مصرية من الفيوم، عمرها ما يقرب من ألفي عام، يطلق عليها اسم “صورة الرجل الملتحي” (Portrait of a Bearded Man).
سر اللون الأرجواني
الغريب في الصورة، التي حاول العلماء حل لغزها، في الدراسة المنشورة في 28 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بدورية “إنترناشونال جورنال أوف سيرامك إنغينيرنغ آند ساينس” (International Journal of Ceramic Engineering and Science)، هو وجود صبغة أرجوانية على سترة الرجل بالصورة. كيف عرف قدماء المصريين طريقة صناعة هذه الصبغة، ولماذا هي موجودة على سترة هذا الرجل بالذات، ومن قام برسمها؟
يقول عالم المواد داريل بوت -المؤلف المشارك بالدراسة وعميد كلية المناجم وعلوم الأرض بجامعة يوتا الأميركية (The University of Utah)- “إن وجود اللون الأرجواني على هذه الصورة بالذات جعلنا نتساءل مما صُنعت وماذا تعني؟ فـ”اللون الأرجواني يثير العديد من الأسئلة”.
يقول بوت إن اللون الأرجواني يُنظر له على أنه رمز للموت في بعض الثقافات ورمز للحياة في البعض الآخر. وكان مرتبطا بالملوك في العصور القديمة، ولا يزال حتى اليوم. يقول بوت مقتبسا عبارة فيكتوريا فينلي، إن اللون الأرجواني، الموجود في نهاية طيف الألوان المرئي، يمكن أن يشير إلى نهاية المعروف وبداية المجهول.
من خلال دراسة الخصائص التركيبية والكيميائية للصبغة الأرجوانية من صورة مومياء الفيوم، حاول الباحثون بالدراسة كشف هذا اللغز، يقول بوت، “نحن مهتمون جدا بفهم معنى وأصل الصور الشخصية، وإيجاد طرق لربطها والتوصل إلى فهم ثقافي لسبب رسمها في المقام الأول”.
صور مومياوات الفيوم
ووفقا للدراسة، فإن الصورة التي تحتوي على الصبغة الأرجوانية، جاءت من مومياء مصرية، لكنها لا تبدو مماثلة لما قد نظنه في البداية مومياء، ليس مثل تابوت توت عنخ آمون الذهبي، ولا مثل اللوحات على الجداريات وأوراق البردي. الصورة أكثر واقعية وأقل شبها بالشكل الهيروغليفي، ربما يرجع ذلك لأن تاريخ الصورة يعود إلى القرن الثاني الميلادي عندما كانت مصر مقاطعة رومانية.
من المعروف وجود حوالي 1100 صورة مطلية على الخشب وملفوفة في البياضات التي كانت تحمل الجثة المحنطة. وقد غطت هذه الصور وجوه الجثث التي تم تحنيطها للدفن. وتشتهر هذه اللوحات باسم “صور مومياوات الفيوم” وهو أحد أكثر أشكال الفن احتراما في العالم الكلاسيكي. وقد تم العثور على صور مومياوات في جميع أنحاء مصر، ولكنها أكثر شيوعا في حوض الفيوم، أحد محافظات الوجه القبلي المصرية.
يقول غلين غيتس -من متحف والترز للفنون في بالتيمور بالولايات المتحدة، حيث توجد الصورة حاليا- “إن الرجل في الصورة التي نركز عليها يرتدي شارة أرجوانية يطلق عليها “كلافي” (clavi). والشارة الأرجوانية على السترة تشير في روما القديمة إلى رتبة عضو في مجلس الشيوخ أو الفروسية”.
اعلان
حاول غيتس فحص الصورة من خلال المجهر، وقد رأى أن الصباغة تشبه الأحجار الكريمة المكسرة، التي تحتوي على جزيئات أكبر بـ 10 إلى 100 مرة من جزيئات الطلاء النموذجية. وللإجابة عن سؤال كيفية صنعه، أرسل غيتس جسيما من الصبغة إلى بوت وفريقه لتحليلها. كان قُطر الجسيم 50 ميكرونا فقط، أي تقريبا القُطر ذاته لشعرة الإنسان، مما جعل تتبعها أمرا صعبا.
يقول بوت إن “عملية تحليل شيء كهذا تشبه إلى حد ما إجراء عملية جراحية لبرغوث”، غير أنه ومع هذا الجسيم الصغير الحجم، يمكن تصنيع عينات أصغر باستخدام حزمة أيونية مركزة وتحليل تلك العينات لتكوينها الأوليّ.
ماذا وجد العلماء
يقول الباحثون إنه لوضع النتائج في سياق مفهوم، سنحتاج إلى معرفة كيفية صنع الأصباغ (Dyes) ومواد التلوين (pigments)، حيث أنهما ليسا شيئا واحدا، فالأصباغ هي عوامل التلوين النقية، أما مواد التلوين فهي مزيج من الأصباغ والمعادن والمواد اللاصقة والمكونات الأخرى التي تشكل ما قد نعرفه على أنه طلاء.
بالنسبة للأصباغ الأرجوانية النقية فقد جاءت في البداية من غدة أحد أنواع القواقع البحرية تسمى الموريكس (Murex)، وهذا ما جعل من اللون الأرجواني لونا باهظ الثمن لا يقدر على دفع ثمنه سوى الملوك، لكن اللون الأرجواني المستخدم في لوحة المومياء أمر مختلف، حيث يفترض بوت وزملاؤه أنه اصطناعي.
يفترض الباحثون كذلك، أن اللون الأرجواني الصناعي كان من الممكن اكتشافه بالصدفة عندما اختلطت الصبغة الحمراء والصبغة الزرقاء النيلية معا، وقد يكون اللون النهائي تكوّن بعدما تم إدخال الكروم في المزيج.
ووفقا لنتائج التحليل فإن معادن عينة الصِّباغ في صورة الرجل الملتحي، تشير إلى أن الصبغة قد اختلطت مع الطين أو مادة السيليكا لتشكيل صبغة. كما تم خلط الصبغة مع مادة شمع العسل، قبل دهنها أخيرا على خشب الزيزفون. ووفقا لبوت، فإن الأصباغ المصنوعة بهذه الطريقة تسمى أصباغ البحيرة (lake pigments).
يقول غيتس، إن الصباغ أظهر دليلا يشير إلى وجود بنية بلورية، وكان يُعتقد من قبل أن أصباغ البحيرة خالية من التبلور قبل هذا العمل.
نهاية القصة
وجد الباحثون شيئا آخر أضاف مزيدا من العمق لقصة كيفية صنع هذه الصورة. فقد وجدوا كميات كبيرة من الرصاص في الصبغة وربطوا ذلك الاكتشاف بملاحظات من مستكشف بريطاني في أواخر القرن التاسع عشر، ذكر أن أوعية الصبغة في ورش الصباغة المصرية مصنوعة من الرصاص.
يقول بوت إنه بمرور الوقت “ظهرت قصة أو فرضية تشير إلى أن الصبّاغين المصريين أنتجوا صبغة حمراء في هذه الأوعية -أوعية الرصاص- وعندما انتهوا من الصباغة في نهاية اليوم، ربما وجدوا أن لون الصبغة أصبح أرجوانيا، أو أنهم كانوا أذكياء جدا وربما وجدوا طريقة لأخذ صبغتهم الحمراء، وتحويلها إلى اللون الأرجواني عن طريق إضافة ملح مع معادن انتقالية ومادة تثبيت لتخليق صبغة أرجوانية عن قصد.. لا نعرف” هل فعلوا ذلك؟!