في رواية كتبها قبل أكثر من قرن، استشرف الروائي البريطاني إدوارد مورغان فورستر واقعنا المعاصر، وتحدث عن أناس يعيشون داخل كبسولات تعزلهم عن بعضهم البعض، ولا تسمح لهم التواصل فيما بينهم إلا بشكل افتراضي.
في تقرير نشرته صحيفة “نوفيل أوبسرفاتور” الفرنسية، تؤكد الكاتبة آن كرينيون أن فورستر أخضع التقدم التقني لنظرة متأنية وثاقبة، واستطاع أن يكشف النقاب عن الآفات التي ستعاني منها البشرية في وقت لاحق.
وتقول الكاتبة: عندما تقرأ “الآلة تتوقف” المصنفة ضمن روايات الخيال العلمي، تشعر أن فورستر (1879-1970) سافر عبر آلة للزمن، وحطّ به الرحال عام 2020 قبل أن يعود إلى عام 1909 ويكتب قصته.
رؤى متشائمة
تقول الكاتبة إن فورستر رصد في قصته القصيرة -التي نُشرت لأول مرة بصحيفة “أكسفورد أند كامبريدج ريفيو” في نوفمبر/تشرين الثاني 1909- التحوّلات الاجتماعية العميقة بالمجتمعات الحديثة نتيجة للتطورات التقنية.
ورغم أنه لم يكن فيلسوفا ولا مفكرا كبيرا، ولا كاتبا متخصصا بروايات الخيال العلمي، فإنه سبق بذلك الطرح فلاسفة كبارا على غرار الألماني غونثر أندرس والفرنسي جاك إيلول والأميركي لويس ممفورد، والذين استخدموا مصطلح “ميغاماشين” للتعبير عن التحولات الاجتماعية التي شاهدوها بأعينهم منتصف القرن العشرين، قبل أن يتخذ الكاتب الفرنسي سيرج لاتوش من المصطلح عنوانا لروايته الصادرة عام 1995.
وترى الكاتبة أن رواية “الآلة تتوقف” تسافر بنا عبر الزمن، وتبين استشراف فورستر للمخاطر والتهديدات التي تشكّلها التحولات الصناعية والابتكارات التكنولوجية على البشر.
وقد ولدت هذه الرواية المتشائمة والسوداوية -حسب تعبيرها- من رحم عصر مضطرب، خيمت عليه خيبات الأمل جراء التطورات في العلوم والتكنولوجيا، والتحولات الكبيرة في المجالين الاقتصادي والسياسي.
وُلد فورستر في لندن عام 1879، وهو ينتمي إلى جيل شهد الكساد العظيم أواخر القرن 19 وعايش توسع الرأسمالية. عام 1897، التحق بكلية كينغز في جامعة كامبريدج ثم شارك في ما يسمى بمجموعة بلومزبري، والتي ضمت نخبة من المثقفين والفنانين الشباب على غرار فيرجينيا وولف وجون ماينارد كينز. وكانت إنجلترا حينها البلد الرائد بالتصنيع، في ظل منافسة متصاعدة مع الولايات المتحدة وألمانيا.
وتعود الكاتبة لتؤكد أن تلك الفترة شهدت انتشار الرؤى المتشائمة في صفوف المثقفين، وظهرت أدبيات كاملة تتحدث عن نهاية العالم، وكان فورستر أحد منتقدي العصر الصناعي.
فقدان السيطرة
وكان فورستر يدافع عن الحياة الريفية التقليدية في إنجلترا، ويرفض المدينة حيث يتكدس السكان ويحاصرهم البؤس أو الوحدة، ويدافع عن العلاقة الرومانسية بالطبيعة محذرا من مساوئ التصنيع، إذ يرى أنه سيقطع الصلة بين الإنسان والعالم الطبيعي الذي ينتمي إليه، وفق ما تقول الكاتبة.
اعلان
وقد تميزت السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى بطغيان الرأسمالية الصناعية، وتنامي الإمبريالية الأوروبية، وظهور الكثير من الاكتشافات والابتكارات العلمية مثل الكهرباء والكيمياء العضوية والهواتف اللاسلكية والتلغراف ومحركات الاحتراق الداخلي.
وكان كثيرون ينظرون إلى التقدم التقني بانبهار كبير -كما تقول الكاتبة- لكن البعض راقبوا تلك التحوّلات بتوجس كبير، وحذّروا من عواقبها الوخيمة، ومن خطر فقدان السيطرة على التكنولوجيا والاغتراب الإنساني الذي يمكن أن ينجم عن ذلك التطور.
في فرنسا مثلا، نشر الروائي أناتول فرانس (1844-1924) رواية “جزيرة البطريق” التي تتنبأ -بطريقة ساخرة- بنهاية العالم، حيث لا يبقى إلا “الهواء الاصطناعي” في مدن غير صالحة للحياة، وسكان لا يستطيعون أن يعيشوا دون آلات. وفي إنجلترا، انتشر هذا النوع من الروايات أعقاب صدور رواية ريتشارد جيفريز “بعد لندن” عام 1885، والتي تتحدث عن كارثة تتسبب في انهيار المجتمع التكنولوجي الحديث.
نظرة مستقبلية
تقول الكاتبة إن التصورات المستقبلية التي تضمنتها الرواية كانت واضحة وقاطعة، إلى درجة أن كثيرين تساءلوا عن الطريقة التي استطاع بها الروائي البريطاني أن يستشرف منذ بداية القرن العشرين ظهور شبكة الإنترنت وسكايب وفيسبوك.
وترى أن فورستر لم يكن يعلم الغيب، بل كان فقط حساسا تجاه العالم الذي يعيش فيه، وقادرًا على قراءة التحولات الاجتماعية والتقنية، وما يمكن أن تفرزه في المستقبل.
وقد حاول من خلال روايته أن يكشف خطورة تلك النزعة التقنية التي تعزل الناس وتفصل بينهم، وتجرّدهم من طبيعتهم البشرية.
وتوقّع أن يفقد الناس “الإحساس بالمكان” ويفوّضوا الأمر للأجهزة والآلات التي تمكّنهم من تحديد مواقعهم، وهو بالضبط ما فعلناه حديثا من خلال أنظمة تحديد المواقع.