في بدايات القرن الماضي كانت ثمة حركة فكرية جديدة تحاول أن تأخذ بيد التراث إلى مواكبة آفاق التطور الهائل الذي أجهز على العالم، وقد دفع بتلك الحركة الفكرية عدد من رموز القلم العربي وفي مقدمتهم الدكتور طه حسين.
وعلى مدار عقود قدّم طه حسين للمكتبة العربية باقة من المحاولات الجادّة لفهم معاصر للتراث، وتهيئة الساحة الأدبية لفروع جديدة من الأدب مثل القصة والرواية، ولم يبخل بأطروحات نقدية أسهمت في إدراك ما يكتبه العرب وما يرِد لنا من الغرب.
ومع مسيرته الحافلة التي يصعب حصرها في سطور قليلة حقق عميد الأدب العربي معادلة نادرة، وهي احترام خصومه له، فقد خاض طه حسين معارك عدة أثرت المنتج الأدبي وضخّت الحركة في المشهد الثقافي، ولم تخرج تلك المعارك عن ركب الفائدة العلمية فظل منتقدو فكره يدركون جيدا ثقل ومكانة الرجل في مساعي التنوير.
ولذا كان طبيعيا أن يكون العميد الذي رفع شعلة النور على طريق الأدب العربي أول عربي يترشح لجائزة نوبل للآداب في أربعينيات القرن الماضي، لكنه رغم ترشحه 14 مرة لم يفز بها.
وعلى هامش سيرته، ومع حلول ذكرى وفاته الـ47 إذ رحل عن عمر يناهز 84 عاما -في 28 أكتوبر/تشرين الأول 1973- يتجدد التساؤل عن السبب الذي لم يجعل جائزة نوبل تقترن باسم طه حسين.
توالي الترشح
عام 1949 كان طه حسين -صاحب رسالتي الدكتوراه في شعر أبي علاء المعري وفلسفة ابن خلدون- أول مرشح عربي رسمي لنيل جائزة نوبل، لكنه رغم المؤشرات التي كانت تدفع بقوة إلى فوزه بها لم يحصل عليها، حيث قررت إدارة الجائزة ألا يفوز أحد بنوبل في فرع الآداب لذلك العام، غير أنها منحتها لكاتب أميركي لاحقا.
وفي مذكراته التي حملت عنوان “يوما أو بعض يوم” حاول رئيس اتحاد الكتّاب (المصري) السابق -محمد سلماوي- فكّ غموض ما جرى في تلك السنة، ومعرفة سبب حرمان عميد الأدب العربي من نيل الجائزة.
وقال إن ما حدث داخل الأكاديمية السويدية يظل علامة استفهام فى تاريخ الجائزة، حيث وصل التنافس وقتئذ بين طه حسين والروائي الأميركي وليام فوكنر إلى أشده، وبدا أن الأديب العربي قد تفوّق فى التصويت.
ورغم ذلك التنافس فإن إدارة نوبل قررت ألا تمنح الجائزة أيا من الأدباء في ذلك العام بحجة أنه لا يوجد بين المرشحين من تنطبق عليه شروط الجائزة.
وربما يبدو قرار إدارة الجائزة عاديا، لكن ما يضفي الغرابة عليه هو فوز “فوكنر” بالجائزة وتسلمه لها العام التالي أي سنة 1950.
وبالعودة إلى سجلات نوبل، قال سلماوي إن الذى فاز بالجائزة عام 1949 هو وليام فوكنر، لكنه دُعي لتسلمها عام 1950.
وذكر رئيس اتحاد الكتاب السابق أنه تحدث مع ستوري آلين -السكرتير الدائم للجائزة- بشأن تلك الواقعة الفريدة في تاريخ الجائزة، لكنه لم يجد جوابا شافيا.
وربط سلماوي بين ما تعرض له طه حسين من قبل إدارة نوبل وقيام دولة إسرائيل، موضحا أن العام الذي ارتفعت فيه أسهم فوز عميد الأدب العربي كان العام التالي لقيام دولة الاحتلال، وخوضها حربا ضد الدول العربية، واحتياجها إلى طمس الهوية العربية في العالم وعدم ذكرها.
توالي الغموض
وبعد ذلك توالت الترشيحات لطه حسين لنيل نوبل في فرع الآداب من قبل مؤسسات مثل جامعة القاهرة، وأفراد داخل مصر وخارجها مثل البروفيسور الفرنسي برنارد غويان، والمستشرق الفرنسي شارل بلا، والمستشرق السويدي كارل زترستين، والبروفيسور السويسري سيزار دوبلير.
ووصل عدد الترشيحات إلى 14 مرة خلال الفترة بين عامي 1949 و1964، غير أن الأمور لم تتخطّ حاجز الترشح إلى الفوز.
ونشير هنا إلى أن تلك الترشيحات هي التي تمت حتى عام 1969، حيث لا تكشف إدارة نوبل عن سجلات الترشح إلا بعد مضي 50 سنة من وقوعها، مما يعني إمكانية أن يكون عميد الأدب عربي قد رُشح أيضا خلال السنوات الأربع التالية لعام 1969 والسابقة لوفاته عام 1973.
وكما اكتنف الغموض المرة الأولى لترشح طه حسين لنوبل ظل الغموض نفسه مصاحبا ترشحه في المرات الأخرى.
ففي 1951 ذهبت الجائزة إلى المرشح السويدي بار لاغركفيست الذي لم تترجم أعماله إلى أي لغة قبل فوزه بنوبل، وهو أمر أدهش كثيرا من الكتّاب والنقاد آنذاك ليعزو كثيرون هذا الفوز إلى جنسية الأديب السويدية.
والأمر نفسه جرى عام 1952، حيث فاز الفرنسي فرنسوا مورياك رغم أن منتجه الأدبي وقتئذ لم يكن يضاهي ما أنجزه عميد الأدب العربي، حتى إن كثيرين وقتها رددوا عبارة تقلل من أدب مورياك وهي “لم يُقرأ بعد الجائزة، وما كان له أن يُقرأ قبلها”.
أما عام 1961 فكان عدم حصول طه حسين على الجائزة أمرا مثيرا للدهشة، إذ إن ترشحه جرى بوساطة 3 من الأكاديميين أحدهم مصري واثنان من السويد، وكان من بينهم هنريك صاموئيل نايبرغ، وهو أحد أعضاء أكاديمية العلوم الملكية السويدية المسؤولة عن اختيار الفائز بالجائزة.
وذهبت نوبل في ذلك العام إلى الأديب إيفو أندريتش، وهو الذي تنازل عن جنسيته البوسنية لأجل الجنسية الصربية أثناء الحرب بين الدولتين.
من خسر الآخر؟
ولعل ما قدمه طه حسين للثقافة العربية أديبا أو ناقدا أو باحثا، أو من خلال ما تقلده من مناصب رسمية -وزيرا للمعارف خلال خمسينيات القرن الماضي-، ورفعه شعار “التعليم كالماء والهواء” يجعل من عدم فوزه بنوبل إشكالية ليست مؤثرة في سيرته.
وإذا كان إقصاء العميد عن الفوز بنوبل لأسباب سياسية أو غيرها، فإن ما جاد به من منتج ثقافي ومساع عملية بموجب وظائفه الرسمية يجعل من البديهي التساؤل ليس عن أسباب الإقصاء، ولكن عن حاجة رجل بقدر طه حسين إلى نوبل.
وليس في ذلك تقليل من شأن نوبل، ولكنها في النهاية جائزة تُمنح تتويجا لمسيرة حافلة بالإنجاز، وهو ما يتمتع به عميد الأدب العربي بالفعل، كما أنها تعطي فرصة للفائز لترجمة أعمال له إلى لغات مختلفة، وهو أمر وقع في حياة الرجل حيث تُرجم أكثر من 12 عملا له إلى لغات عدة على رأسها الفرنسية.
أما كون الجائزة تمنح اعترافا دوليا بمنتج الفائز، وتعطيه فرص الشهرة فيبدو العميد زاهدا في ذلك، إذ إنه يمتلكه بالفعل كواحد من رواد التنوير في القرن الـ20 بدليل أن غالبية من رشّحوه لنيل نوبل هم أكاديميون غربيون.
وفي إطار إحياء ذكرى عميد الأدب العربي، قال الدكتور محمد عفيفي -الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للثقافة- إن مكانة “العميد” محفوظة في قلوب الناس وعقولهم، فهو بتأثيره وصل إلى جميع الطبقات بما فى ذلك طبقات غير المتعلمين.
وأضاف -في تصريح صحفي- أن ذكرى طه حسين لم تعد حكرا على المثقفين والأكاديميين، وهو ما ينسجم مع دعوته لتعميم الثقافة وليس التعليم فقط، وبرنامجه لخلق الإنسان المثقف والمشتبك مع قضايا عصره بمختلف الأدوات.
وختم بقوله “قلّما تجد مجالا لم يترك فيه طه حسين أثرا، فقد كان يخترق المجالات الفكرية والأدبية كافة من أجل شق الطريق لتلاميذه من بعده، وكان من المؤمنين بالقوة الناعمة للثقافة وقدرتها على تغيير المجتمع بشكل كامل نحو الأفضل”.