ألهمتهم فكّ رموز الهيروغليفية قبل ألف عام واستخدموها في الأدب والسياسة والتصوف.. الكتابة على الجدران في الثقافة العربية

لم يكن يدور ببال الأطفال في درعا السورية -الذين كتبوا على جدران مدرسة الأربعين أربع كلمات: “أجاك (= جاءك) الدَّوْر يا دكتور”- أنهم بكتابتهم تلك يستحثّون عجلة التاريخ في دورتها، ويعلنون ثورة شعب عارمة؛ إذ انطلقت المظاهرات مع اعتقال الحكومة لأولئك الأطفال، فسرت في الشعب حُميّا الثورة التي استشرت -قبلُ وبعدُ- في البلدان والشعوب العربية، وما أعقب ذلك معروف لدى الجميع.

لم تكن الكلمات الأربع المكتوبة على الجدار هي المحرّك الأساسي للثورة بالطبع، ولكنها كانت وستبقى دليلًا على تفاعل الإنسان مع أحداث عصره، وتعبيره عن مشاعره وأحلامه وما يحيك في نفسه. كما لم تكن هذه الحادثة سابقة في التاريخ، بل هي تقليدٌ شعبيٌ عريق يتوخّى كشف مشاعر المجتمع تجاه القضايا التي تشغل باله منذ فجر التاريخ، أي منذ تعلّم الإنسان التعبير بالكتابة. وليس عجيبًا أن يتفق المؤرخون على تسمية الفترة ما قبل الكتابة بفترة ما قبل التاريخ، فما لم تحفظه لنا الكتابة يُعدّ خارج الوعي التاريخي للإنسان.

وما يهمنا في هذه المقالة هو أن نتتبع كتابات الجدران في تراثنا العربيّ الإسلامي، ونخصّ بالعناية أساسا تلك الكتابات الصادرة عن الأفراد، وكيف اتخذوا من الجدران سجلًا لهمومهم وخواطرهم وتفاعلهم مع بيئتهم وثقافتهم. وليس من شأننا هنا أن نعرض للكتابات ذات الطابع المؤسسي التي صدرت عن جهة دينية أو سياسية، ولذا سنُهمل كثيرًا مما كُتب في أماكن العبادة وصروح السياسة والزخارف والنقوشات فيها، سوى إلمام يوضح بعض جوانب التفاعل العربي الإسلامي مع جداريات حضارة الفراعنة.

فنحن إذن سنتتبع هنا -على فترات- ظاهرة الكتابة على الجدران كتعبير عن وعي الشخصية العربيّة الإسلامية بذاتها ومحيطها، ونرصد ذلك عبر محطات ثلاث: تتجلى أولاها في كتابات ما قبل الإسلام التي تبدو لنا في غاية البساطة والمباشرة؛ ثم نتناول بعدها مرحلة النضج التي أعقبت مجيء الإسلام وتمتاز بنوع من التفاعلية الثقافية الحرّة مع الآخر غير المسلم، والتعبير عن الهموم والأفكار بطريقة فنيّة ومميزة.

ثم تأتي المرحلة الثالثة التي تبلغ فيها الشخصية العربية الإسلامية أوْج نضجها في وعيها بذاتها؛ فنجد في ممارسة الكتابة على الجدران تعبيرًا عن اعتزازها بثقافتها الغالبة التي صارت تبشّر بها وتفاخر بسيادتها. فهذه سيرة المقالة التي بين يديك، وفيها ما لا ينتظم في هيكلها الرئيس لكنه داعمٌ لها من حيث هو تنويع على طريقتها ورافد لرسم ملامح صورتها ومسيرتها.

إضاءة كاشفة
أمست الكتابة على الجدران فنًا من الفنون العالميّة يعبّر عنه بمفردة “الغرافيتي” (graffiti)، ونحن نطلق على هذا الفن عبارة “الكتابة على الجدران” من باب التغليب، وإلا فهذا الوصف يشمل الكتابة على الجدران وما في حكمها من صخور وأحجار وأسطح صلبة، ففي مادة “graffito” من ‘معجم أوكسفورد‘ تعريفٌ لهذا الفن بأنه: الرسم أو الكتابة التي تُنقش على جدار أو أي سطح آخر.

ويَعُدّ الآثاريون الكتابةَ على الجدران بمثابة الكشّاف الذي يكشف لهم عن حقب التاريخ السحيقة المظلمة، حيث يُعتبر فعلا واعيًا تركه الأولون ليطلع عليه من يجيء بعدهم. ولذا فإننا من خلال مقارنة الكتابات على الجدران نستطيع أن نقارن بين الوعي البشريّ وأسئلة الإنسان على مدى الدهور؛ فهل ما يفكر فيه بشر في غابر الأزمان هو ذاته الذي يؤرق الإنسان المعاصر اليوم؟!

وقد ساهمت الكتابات على الجدران في تغيير أفكار عتيقة كانت محلّ تسليمٍ لدى دارسي التاريخ لا سيما فيما يتعلق بالعرب، منها مثلًا ما تقرر لديهم من المؤاخاة بين الأميّة والبداوة؛ إذ كشفت لنا كتابات أثرية لبعض القبائل العربية في بوادي الشام أنها كانت قبائل تمارس الكتابة، والكتابة دليل على وجود محتوى معرفيّ ينتقل من جيل إلى جيل مهما كانت بساطته.

ومن تلك القبائل مجموعة “الصفويين” التي يحدثنا عنها الأستاذ سعيد الغانمي في كتابه القيّم ‘ينابيع اللغة الأولى: مقدمة إلى الأدب العربي منذ أقدم عصوره حتى حقبة الحيرة التأسيسيّة‘؛ فيقول إنها “قبائل عربية عاشت في منطقة الصفا من بادية الشام وما جاورها، وتجيء تسميتهم بـ‘الصفويين‘ أو ‘الصفائيّة‘ من البيئة التي اختارت تلك القبائل الانتشار فيها، لأن كلمة صفاة تعني الصخرة..، ولكن الغريب أن هذه القبائل البدوية كانت تعرف الكتابة، وقد تركت آلاف النقوش”.

وتعود الكتابات الصفائيّة -فيما يحدده الباحثون- إلى ما بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الرابع الميلادي. ومن خلال رصْد الباحثيْن سليمان الذييب ومدّ الله بن عويضة الهيشان في دراستهما المعنونة بـ‘نقوش صفوية‘؛ نجد أن غالبيّة تلك الكتابات كانت تذكاريّة، حرص فيها كاتبوها على تدوين أسمائهم وأسماء قبائلهم على الأحجار والصخور التي مرّوا بها أو قضوْا لديها زمنًا طيبًا، وهي محاولات بدوّية بسيطة لتخليد اللحظة وحبّ الذكر.

ونستطيع أن نتلمّس من خلالها نزوع الإنسان القديم إلى الخلود وبقاء الذكر، وهي نزعة يتساوى فيها بنو البشر جميعًا صالحهم وغير ذلك؛ فقد حفظ لنا القرآن رغبة إبراهيم ﷺ في خلود الذكر حين دعا اللهَ مناجيا: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}.

مضامين دينية
بيد أن الكتابات الأكثر وفرة بمنطقة الجزيرة العربية -والمنتمية إلى ما قبل تلك الفترة- هي الكتابات الثموديّة التي يقدّر عددها بالآلاف، ويظهر اسم ثمود منذ منتصف القرن الثامن قبل الميلاد، إذ كان الثموديون منتشرين في المناطق التي تمتد من شمال الحجاز وحتى سيناء. ويذكر لنا الأستاذ سليمان الذييب -في بحثه المعنون بـ‘النقوش الدعوية في الكتابات الثمودية بمنطقة حائل‘- أن ثمود المقصودين هنا وُجِدوا بعد قوم ثمود أصحاب النبي صالح ﷺ الوارد ذكرهم في القرآن.

ورغم أن الكتابات الصفوية أو الصفائية تشير إلى نمط من الكتابة البدوية العابرة؛ فإن دراسة الأستاذ الذييب تقدم لنا مادة غنيّة عن المجتمع المستقر. فالمجتمع الثمودي المستوطن بمنطقة حائل ترك لنا 1222 من الكتابات، وتواريخها تتفرق ما بين القرن السادس والقرن الأول قبل الميلاد، وتتوزع جغرافيًا على 34 موقعا بمنقطة حائل. كما تتنوع مضامينها بين طلب الرزق والغنى، وطلب الذرية والأولاد، والدعاء على الأعداء. وقد بيّنت هذه النقوش أن الأمراض لم تكن في غالبها عضوية بل نفسية أيضا، حيث بلغ عدد النقوش الدعائية 146 نقشاً.

ومن خلال استعراض بعض هذه الكتابات نجد تشابهًا بين هموم الإنسان المعاصر والإنسان الثموديّ؛ فالدين محوريّ في حياته ولذا نراه يستعين بأربابه في كل حوائجه. ومن خلال تلك الكتابات نتعرّف بعضًا من أسماء “الآلهة” التي كانت تُعبَد في جزيرة العرب (من مسمياتها: رضو، ونهي، ودثن، وعثر… إلخ)، ولسنا ندري هل كانت الكتابة من طقوس الدعاء لدى أولئك القوم، أم إن ما يدفعهم إلى كتابة أدعيتهم هو الرغبة في الاستكثار من قارئيها، لعل “الآلهة” تستجيب!

وفيما يلي نستعرض كتابات منها تتسم بالطرافة وتعبّر عن حاجات الإنسان الثمودي؛ فمنها كتابة توحي بأنها لعاشق يعاني من عوائق تحول دون وصله لمحبوبته، فيكتب داعيا: “أيها المعبود نهي (= اسم الآلهة) أتمّ هذا الزفاف”! وكتابة أخرى يبدو أنها تعود لأحد أقرباء فتاة تسمى “بي”، فيدعو كاتبها “الآلهة” أن تقيها العنوسة: “أيها المعبود زوّج بي. كتبه سَحْل”! وفي كتابة أخرى يبدو أن صاحبها كان يدعو لشخصين معروفين أن يجمعهما بيت الزوجيّة؛ فكتب: “أيها المعبود رضو (= اسم الآلهة) زوّج عاتقة من عاشق”! ومثله آخر يكتب: “أيها المعبود دثن، ساعد آيم على حبه السعيد”!

ويلفت أحد النقوش انتباهنا إلى تجذّر الذوق العربي في معايير الجمال التي تفيض بها أشعار الجاهليين، مسجِّلا أن امتلاء جسم المرأة زينةٌ لها، فنجد هذه الكتابة الطريفة: “أيها المعبود رضو زوجني المليحة (العظيمة) من حي إيل”. ونعود للسيدة “بي” التي ذكرنا دعاء “سَحْل” لها، ويغلب على ظننا أنها كانت تتصف بالنكد وصعوبة الأخلاق، ولذلك تأخّر حظها في الزواج، حيث نجد أنها قد تزوجت ثم نجد زوجها قد كتب يدعو عليها!

وتكشف لنا الكتابات أن قصص الحبِّ لم تكن كلها تنتهي بالزواج لدى الثموديين، فقد حفظت لنا الجدران خيبات أمل عشّاقهم، فهذه عاشقة تكتب بعد الفراق الممضّ “أيتها المعبودة عثر السماء، ساعديني على عشقي، فقد رحل سالم”! وعاشق آخر منهم أتعبه التردد في حسم شعوره، فاستعان بالآلهة وكتب: “أيها المعبود، احسم حيرة حبي”!