البنك المركزي مهدد بفقدان استقلاليته وخزينه النقدي

فرهاد علاء الدين

أفاد وزير المالية علي علاوي في مؤتمر صحفي عقب تبني الورقة البيضاء للإصلاح الاقتصادي من قبل مجلس الوزراء في ١٣ تشرين الأول الجاري، قائلا ” لدينا علاقة متينة وقوية مع البنك المركزي لنوحد السياسات النقدية والمالية، وهذا سيوفر لنا الامكانية ان نغطي كل متطلبات واستحقاقات رواتب الموظفين والمتقاعدين”، مر هذا التصريح مرور الكرام على النخب السياسية والاقتصادية والإعلامية ولم يلتفت احد الى ماحمله تصريح الوزير من تحول جذري في السياسة المالية للدولة العراقية من مساس واضح ومثير باستقلالية البنك المركزي عن السياسات المالية المعتمدة من قبل الحكومة.

مقاصد وزير المالية واضحة، فالبنك المركزي اصبح “متعاونا جدا” مع السياسة المالية للحكومة، بعد ان كانت استقلاليته طبقا لقانونه النافذ تتعارض مع أمكانية أي تعاون محتمل يمس بالقواعد الأساسية للبنك حفاظا على ضمانة الاقتصاد العراقي وقوته من جانب، وعدم تحمل أي أخفاق حكومي في أدارة السياسية المالية من جانب آخر في سياق متعارف عليه مع الحكومات المتعاقبة، ولكون البنك المركزي يعتمد سياسات نقدية مستقلة عن سياسات الحكومة المالية. والخلاف الذي نشب بين حكومة نوري المالكي ومحافظ البنك المركزي سنان الشبيبي عام ٢٠١٢ ليس بعيدا عن الذاكرة والذي أنتهى الى اتهام الشبيبي بالفساد وصدور أوامر قضائية بإعتقاله! في أثناء تواجده في العاصمة اليابانية طوكيو للمشاركة أحدى المؤتمرات الاقتصادية، بل وصل الأمر الى محاكمته غيابيا والحكم عليه بالسجن لمدة سبع سنوات عام ٢٠١٤ واقالته من منصبه.

دور البنك المركزي

البنك المركزي مؤسسة مستقلة ماليا واداريا عن الحكومة حسب المادة ١٠٣ من الدستور العراقي ، وهو مسؤول عن وضع السياسة النقدية وإصدار وإدارة العملة الوطنية والاحتياطات الأجنبية، ووضع الأنظمة والاجراءات والضوابط لعمل المصارف المحلية في البلد ومراقبة عملها وتدقيقها، ويعد الجهة الرسمية التي تمثل العراق في المؤسسات المالية والنقدية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرهما. ومن بين مهامه أيضا تحديد العرض والطلب على النقود من خلال تحديد أسعار الفائدة. كما أنه مسؤول عن تسلم ودائع مبيعات النفط وحفظ الخزين الاحتياطي النقدي للدولة، وله حق التصرف بالخزين بما يحفظ المكانة المالية للدولة في المحافل الدولية، ويحافظ على قيمة العملة الوطنية. مما يعني أن استقلال البنك المركزي عن السياسات المالية الحكومية يعد في غاية الأهمية للحفاظ على المال العام المودع في خزائن البنك.

أن ما أعلنه وزير المالية في تصريحه آنف الذكر يعتبر سابقة خطيرة في اقحام البنك المركزي في صلب السياسة المالية للحكومة، وجعله أداة لتنفيذ هذه السياسة، وقد تجلى ذلك واضحا عبر ماتضمنته ( الورقة البيضاء ) من تمويل العجز في الموازنة واعتبار الخزين الاحتياطي مصدرا وحيدا لسد العجز وهنا يكمن الخطر الحقيقي.

اللافت ان الورقة البيضاء أشارت في الصفحة ٣٧ الى خطورة استخدام البنك المركزي كمصدر للتمويل “سيؤدي الى ضغط شديد على احتياطي البنك المركزي وما ينتج عن ذلك من تبعات مستقبلية غير مستدامة”. وعاد الخبراء ليؤكدوا على هذه الخطورة حيث جاء في الصفحة ٤٢ من الورقة أعلاه “التمويل النقدي غير المباشر من قبل البنك المركزي العراقي هو المصدر الوحيد المتبقي….ان الحاجة الى هذا الاحتياطي في تمويل واردات السلع والخدمات، تعني انخفاضه بشكل خطير في غضون تسعة اشهر، والذي سيؤدي في نهاية المطاف الى أزمة حقيقية في قيمة الدينار العراقي، يصاحبها احتمال انهيار قيمته”

جدير بالذكر ان البنك المركزي وخزينه الاحتياطي مهدد بالانخفاض عبر ثلاث محاور هي:

أولا : استخدام الخزين الاحتياطي للبنك المركزي لتمويل العجز المالي للحكومة وهذا يكون بطريقتين، الأولى “بشراء السلع والخدمات” باستخدام العملة الصعبة، والطريقة الثانية باستخدام ادارة البنك المركزي لخفض سعر صرف الدينار مقابل الدولار لمستويات ادنى من اجل “دفع الاستحقاقات الشهرية من الرواتب”.

ثانيا : استمرار مزاد بيع العملة سيئ الصيت والذي هو مكمن للفساد ومصدر ثراء المتنفذين في عالم السياسية والمال والاعمال، حيث ان مبيعات العملة الصعبة تفوق إيرادات الدولة في اكثر الأحيان وهذا يعني السحب من الخزين الاحتياطي وانخفاضه.

ثالثا : الضغط المتزايد من دائني الدولة وخصوصا ايران لتمويل اقتصادها بالعملة الصعبة بعد ان ادرجت الإدارة الامريكية ١٨ مصرفا إيرانيا تحت طائلة العقوبات ليصبح البنك المركزي العراقي والمصارف العراقية منفذا وحيدا لإيران للعملة الصعبة. وجاء زيارة محافظ البنك المركزي الإيراني الى العراق في ١٢ تشرين الأول ٢٠٢٠

ان تصريحات وزير المالية لم يقابلها أي تصريح من محافظية البنك المركزي حول هذه المخاطر ولم نسمع من المحافظ الجديد ماهي رؤيته حيال إدارة شؤون البنك ؟! وماهي سياسته النقدية ؟! وكيف يتسنى له الحفاظ على الاحتياطي النقدي؟! وسط تفاقم الأزمة الاقتصادية الراهنة. لذا بات يتحتم على المحافظ الجديد أن يبين للرأي العام والنخب المجتمعية آفاق سياسات البنك المركزي وموقفه من مخاطر الأزمة المحدقة بالبلاد، وسبل معالجتها والحفاظ على الخزين الاحتياطي.

اسهل الحلول ليس حلا

بحسب مصادر مطلعة ان فريق الخبراء مازال منهمكا في أنضاج الورقة البيضاء واضافة تفاصيل وملاحق كمرحلة ثانية لإعداد خارطة الطريق بشكل تفصيلي وقد أشار الفريق الى خطورة الاقتراض من البنك المركزي، بل وحتى الضغط على سعر الدينار واستخدامه كوسيلة وحيدة لسد العجز في الموازنة لعامة كما ورد في الصفحة ٤٢ من الورقة، كما حذر الفريق المكلف باعداها من أن ذلك “سيؤدي لاحقا الى ارتفاع تكاليف المعيشة، وبالتالي خفض قدرة غالبية الأفراد على تلبية متطلباتها، لكون البلاد تعتمد اعتمادا كليا على الاستيراد لتلبية الاستهلاك”. مايعني أن غالبية الشعب ستدفع ثمن تفاقم معاناتها جراء هذا التحول في السياسة المالية المتبعة.

ويؤكد خبير مالي لم يود الافصاح عن هويته ان “اقصر واسهل طرق المعالجة هو اللجوء الى الخزين الاحتياطي في البنك المركزي والتوجه نحو طبع الدينار، ولكن سلوك هذا الطريق ليس حلا بل هو الانتحار بعينه” والتخوف الحقيقي هو لجوء الحكومة والقيادات السياسية لهذا الطريق بدلا من البدء بالإصلاحات الجذرية الحقيقية، والتي تحتاج قرارات تنفيذية تصدرها الحكومة، وقرارات اخرى مدعومة تشريعيا من البرلمان في حالة تعاون البرلمان مع الحكومة.

الواجب الوطني هنا يحتم على جميع القوى السياسية وبكل اطيافها وزعاماتها عدم الوقوف مكتوفة الايدي والمشاركة الفعالة في تبني الحلول العملية والصعبة والتي سيعرضها الفريق الحكومي من خلال الورقة البيضاء وملاحقها بالإضافة الى مايعرضه الخبراء الآخرون خارج هذا الفريق من البرلمان والمراكز البحثية الاقتصادية الرصينة وخبراء السياسات النقدية، فالاجراءات الإصلاحية الحقيقية بحاجة الى قرارات شجاعة وحاسمة وبمشاركة الجميع.

ان ابقاء أبواب الفساد مفتوحة على مصراعيها في معظم مؤسسات الدولة، والتواني عن كبح جماح حيتان الفساد وفي مقدمتها الأحزاب الحاكمة ذاتها، وعدم الغاء مكاتبها الاقتصادية للحد من سيطرتها على الوزرات والمؤسسات والقطاعات الحيوية كفيلة باستمرار تفاقم مخاطر وتهديدات الوضع المالي الراهن، مايعني أن العراق ماض نحو إنهيار حقيقي، ولا يحول بينه وبين هذا الانهيار سوى أشهر معدودات فحسب. وبإنهيار الوضع المالي والاقتصادي كما هو متوقع، فان العملية السياسية ستنهار هي الأخرى، ليلحقها انهيار كيان الدولة العراقية، وبالتالي تعم الفوضى، وحينذاك لن يكون بمقدور أحد إعادة ضبط الوضع والسيطرة عليه من جديد إلا بمعجزة ستكون صعبة المنال والتحقق.

أن ما يزيد من حدة التشاؤم هو أننا نعيش في مجتمع متعدد الأجنحة ولاء وتسليحا مع فقدان السيطرة على توجيه البوصلة لصالح استقراره بالظروف الطبيعية فما بالك في ظروف الافلاس والتنازع السياسي وشح الموارد وفقدان قوت الشعب.
نحن أمام الفرصة الأخيرة وليس أمام القوى السياسية سوى المبادرة لتصحيح المسار والتوافق على أتخاذ قرارات شجاعة ومسؤولة لتدارك أسوء السيناريوهات الكارثية المحتملة.

* رئيس المجلس الإستشاري العراقي