قبل جريمته البشعة في كرايست تشيرتش بنيوزيلندا في مارس/آذار 2019 ردد الإرهابي الأسترالي عبارة “الاستبدال العظيم” التي صاغها الكاتب والناشط السياسي الفرنسي رينو كامو قبل بضع سنوات، وتتلخص في أن الدول الأوروبية وثقافتها المسيحية البيضاء تتعرض لاستبدال السكان البيض الأصليين بوافدين جدد من الأفارقة والمسلمين.
في مقال نشرته صحيفة “لوموند” الفرنسية، سلط الكتّاب صامويل لوران وماكسيم فودانو وغاري داغورن وأسماء معاد الضوء على العلاقة بين نظرية الكاتب اليميني المتطرف رينو كامو والهجوم الإرهابي الذي أودى بحياة 49 شخصا في مسجدين بنيوزيلندا العام الماضي.
وفي حسابه على تويتر بعد المجزرة، اكتفى كامو بعد ذلك الهجوم بالتذكير بأنه يدين العنف، وبنفي مسؤوليته عن الجريمة التي ارتكبها المتطرف برينتون تارانت.
لكن القاتل الأسترالي استخدم في الواقع عبارة “الاستبدال العظيم” بأحرف كبيرة على الصفحة الأولى من البيان الذي نشره على الإنترنت قبل بداية هجومه على المسجدين وإطلاق النار على المصلين.
وفي بيانه، أعرب تارانت عن أسفه لغزو السكان غير الأوروبيين العالم الغربي، وأشار إلى أنه أثناء إقامته في فرنسا لاحظ وجود “الغزاة في كل مكان”، وهذا ما شجعه على اتخاذ تلك الخطوة.
وأوضح الكتّاب أن تلك الكلمات تكشف بوضوح فكر تارانت المناهض للمهاجرين، والذي يتوافق مع نظرية “الاستبدال العظيم” أو “الإحلال الكبير” التي صاغها رينو كامو قبل 10 سنوات.
نظرية “الاستبدال العظيم”
بشكل موجز، تتكون هذه النظرية من عنصرين أساسيين، يتمثل العنصر الأول في التوقعات الديمغرافية الذي تقول إنه نظرا للهجرة الجماعية وارتفاع معدلات الخصوبة فإن السكان من أصل غير أوروبي في طريقهم إلى تجاوز عدد السكان الأصليين في أوروبا، وهذا من شأنه أن يساعدهم على فرض ثقافتهم ودينهم على القارة.
من ناحية أخرى، يؤمن كامو بأن “الاستبدال العظيم” سيحدث نتيجة مؤامرة تنفذها “سلطة خفية”، وهي النخب الحاكمة الرأسمالية المناصرة للعولمة والتي تدعم عمليات الهجرة الجماعية من أجل بناء عالم جديد تختفي فيه كل الخصوصيات القومية والعرقية والثقافية، ويصبح قابلا للسيطرة والتشكل بما يلبي احتياجات الاقتصاد المعولم.
فكرة قديمة بشكل جديد
يذكر الكتّاب أن رينو كامو دافع عن هذه النظرية علنا لأول مرة في كتابه “أبجديات البراءة” الذي نشر في عام 2010، قبل أن يقوم بتطويره ويغير اسمه إلى “الاستبدال العظيم” في العام التالي.
لكنه من وجهة نظرهم لم يكن أول من ابتكر هذه النظرية، بل إنها ظهرت في نهاية القرن الـ19 مع موريس باريس أحد الآباء المؤسسين للقومية الفرنسية.
وفي مقال عن عضوية جمعية الشباب القومية يعود تاريخه إلى عام 1900 وضع باريس الأسس النظرية لهذه الفكرة قائلا “اليوم، تسلل بيننا الفرنسيون الجدد الذي لا نملك القدرة على إدماجهم، ويريدون أن يفرضوا علينا طريقة تفكيرهم”.
واعتبر موريس باريس أن انخفاض معدل المواليد واستنفاد طاقة الفرنسيين على امتداد 100 عام مثلت عوامل حاسمة لقدوم الأجانب ورغبتهم في تدمير الهوية الفرنسية، مؤكدا أن “انتصارهم يعني الدمار الحقيقي لوطننا”.
ويرى المؤرخ نيكولا لوبورغ أن فكرة تغيير التركيبة السكانية اكتسبت زخما كبيرا بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصا داخل أوساط النازيين الجدد في فرنسا الذين اعتقدوا بوجود “مؤامرة” يحيكها اليهود من أجل تغيير أوروبا ديمغرافيا و”إقامة دكتاتورية بلوتوقراطية (حكم الأثرياء) عالمية”.
ويؤكد لوبورغ أن رينو كامو قام فقط بتحديث هذه النظرية بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 من أجل إخفاء أبعادها المعادية للسامية وتكييفها مع صدام الحضارات وكراهية الإسلام.
مفكرون وسياسيون تبنّوا النظرية
يقول الكتّاب إن رينو كامو لم ينجح في نشر فكرته على نطاق واسع، لكنه استطاع أن يستميل بعض المفكرين الفرنسيين البارزين، مثل الصحفي إريك زيمور والفيلسوف آلان فينكلكروت والكاتب ميشيل ويلبك.
وقد شقت نظريته طريقها أيضا في الأوساط السياسية، خصوصا داخل حزب الجبهة الوطنية، حيث تبنتها علنا أسماء مثل ماريون ماريشال لوبان ونيكولاس باي وستيفان رافييه وجوليان سانشيز.
وترسم رواية الكاتب الفرنسي ميشيل ويلبك “استسلام” سيناريو يقوم على فرضية انتخاب رئيس لحزب إسلامي في فرنسا، وهي الرواية التي صدرت في يوم الهجوم نفسه على صحيفة شارلي إيبدو الفرنسية الأسبوعية في يناير/كانون الثاني 2015، على خلفية نشرها رسومات مسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وبدت الرواية كأنها تنبئ بموجة مروعة من “الإرهاب” الذي أقض مضاجع الفرنسيين خلال السنوات القليلة التي تلت ذلك الهجوم.
وبحسب تقرير سابق لصحيفة لومونود، أشار الصحفي إريك زمور إلى أن موازين القوى في العالم ليست اقتصادية بقدر ما هي ديمغرافية، وذكر أن النمو الديمغرافي انقلب لغير صالح البيض الذين كانوا 4 أضعاف أفريقيا، واستعمروا العالم وأبادوا الهنود الحمر والسكان الأصليين واستعبدوا الأفارقة، وأوضح أن اتجاه التيار اليوم قد انعكس، وأن البيض غدوا هم من سيكونون بالنسبة للمهاجرين الجدد محل الهنود الحمر والعبيد.
وقال إن لواء المهاجرين الجدد هو الإسلام، مؤكدا أن كل مشاكل فرنسا كالبطالة ونقص المدارس والمستشفيات وغيرها قد زاد وجود المهاجرين حدتها، وبالتالي زاد الإسلام تلك الحدة.
وقال إن مفاهيم مثل التعايش والتسامح وغيرها لم تعد صالحة اليوم، لأن المهاجرين الذين يحتفظون بكل عناصر هويتهم ويريدون التمسك بالشريعة سيخضعون الفرنسيين الأصلاء لأحكام الشريعة والحلال، وبالتالي “سيعاملوننا كمستعمرين، عن طريق الجهاد، ووسيلتهم الكلاشنكوف وزيهم الجلباب”.
التحريض على العنف والكراهية
اعتمد برينتون تارانت عبارة “الاستبدال العظيم”، لكن هل يكفي ذلك لوضعه في صف رينو كامو؟
يذكر الكتّاب أن كامو يكرر باستمرار أنه ضد العنف، لكنه أدين عام 2014 بالتحريض على الكراهية والعنف، بعد أن وصف المسلمين بأنهم “همج” و”غزاة”، وأنهم “المستعمرون” الذين يسعون إلى جعل “حياة السكان الأصليين مستحيلة”.
ويُعتبر كامو من أشد المؤيدين لعمليات “الهجرة المعاكسة”، أي إجبار المهاجرين بطريقة “سلمية” و”إنسانية” على العودة إلى بلدانهم الأصلية.