في أيامنا الحالية، يلعب تبرير فظائع الاستعمار دورا ساما في السياسة، ويستند هذا التبرير على محاولات أكاديمية ودراسات تاريخية منحازة تهدف للتقليل من معاناة السكان الأصليين وتسويغ خطايا المستعمرين، وكثيرا ما تكون هذه الدراسات مدفوعة بأيديولوجيا اليمين القومي المتشدد.
وقال الكاتب توماس ليكاك في تقريره الذي نشرته مجلّة “فورين بوليسي” (Foreign Policy) الأميركيّة، إن العصور الوسطى مثّلت حقبة من التغيير الهائل والعالمي، إذ إن هذا المجال التاريخي الذي اقتصر في يوم من الأيام على أوروبا، أصبح اليوم مُعَولما بشكل متزايد.
وعلى غرار جميع فروع التاريخ، تحوّلت دراسات العصور الوسطى إلى ساحة معركة، ليس فقط بين الأطراف الأكاديمية ولكن أيضا بين الأطراف السياسية.
في هذا الشأن، يعتبر صعود ما يُعرف “باليمين البديل” ومسيرة العنصريين البيض في شارلوتسفيل (احتجاجات مؤيدة للعرق الأبيض في ولاية فيرجينيا عام 2017)، وعمليات القتل الجماعي المروعة مثل إطلاق النار على المسلمين في مسجد كرايست تشيرش بنيوزلندا، بمثابة استحضار لأيديولوجيا تفوق العرق الأبيض.
وأدت محاولات إبراز تفوق البيض ضمن دراسات العصور الوسطى إلى نشوب صراع بين الأطراف الأكاديمية، إذ يجادل معظم الأكاديميين التقليديين حول حياد حقبة العصور الوسطى في السياسة المعاصرة، عوضا عن وصفها بشكل صريح كأداة لتحقيق الأهداف الأيديولوجية.
براءة البيض
وأوضح الكاتب أن ما يجعل الأمر غريبا هو ملاحظة دفاع أفكار قديمة تعود إلى العصور الوسطى، عن براءة البيض. وفي هذا الشأن، نشر الأكاديمي المختص بالتاريخ الاجتماعي فين بول مقالا بعنوان “أسطورة الدولة المسروقة” في مجلة “ذا سبيكتايتر” (the spectator) في 26 سبتمبر/أيلول الماضي.
وكانت حجّة فين بول الرئيسيّة تتمثّل في عدم إلقاء اللوم على الأوروبيين في وفاة أعداد هائلة من الأميركيين الأصليين عند احتلال العالم الجديد، وأنه -نتيجة لذلك- يجدر بالأميركيين والكنديين التوقّف عن الاعتراف بأن الأرض ملك للسكان الأصليين، وعن الاعتذار عن الماضي الاستعماري الأوروبي الأميركي.
هذا هو المشروع المتواصل بعنوان “براءة البيض” الذي يهدف إلى إنكار العنصرية والعنف الاستعماري الذي يتحوّل بدوره إلى عنصرية وعنف استعماري.
وقد وصف جيمس بالدوين ببراعة هذه الفكرة في كتابه “رسالة إلى ابن أخي” (A Letter to My Nephew) عام 1962، وقال إنها “جوقة من الأبرياء الذين يصرخون: لا هذا غير صحيح. كم أنتم حاقدون”، بينما يستمرون في قمع الآخرين، وهذا شبيه بشعار “حياة الجميع مهمة”، لكنّه خاص بالأكاديميين اليمينيين.
ونقل الكاتب عن فين بول أن “موت جزء كبير من سكان العالم الجديد خلال العقود القليلة الأولى كان أمرا محتوما” بسبب انتشار أمراض جديدة، ويقول فين بول إن هذا الأمر أثر جانبي حتمي وغير مقصود، مما يعني أيضا أن لا ذنب للأوروبيين في ما حصل.
التربة البكر
من جهة أخرى، كتب المؤرخ بول كيلتون عام 2015، معتبرا أن “أطروحة التربة البكر لم تُصغ كاعتذار للمستعمرين، وما زالت مفيدة في شرح كيفية تطور التاريخ. ومع ذلك، فقد أخفت هذه الأطروحة للأسف العنف الاستعماري تحت غطاء الحتمية البيولوجية”.
ويضيف فين بول مزيدا من المعلومات غير الدقيقة والأكاذيب الصارخة الأخرى حول الأميركيتين في عصر ما قبل الكولومبي، حيث كتب التالي: “كان معظم السكان الأصليين في أميركا الشمالية، مزارعين بدائيين. وهذا يعني أنهم لم يكن لديهم مستوطنات دائمة (مع بعض الاستثناءات)، لقد زرعوا منطقة معيّنة عدّة عقود حتى تعبت التربة، ثمّ انتقلوا إلى مراع أكثر خضرة حيث كان الصيد أفضل والأراضي أكثر خصوبة”.
وأشار الكاتب إلى أن هذا الوضع يكشف مجددا عن فشل في البحث الأساسي، إذ انهار مفهوم “المزارعين البدائيين” بسبب قلة التحقيق، فالزراعة المكثفة في كاهوكيا بولاية إلينوي الحالية -على سبيل المثال- كانت قادرة على دعم مدينة مركزية أكبر من لندن أو باريس في أوج ازدهارها خلال العصور الوسطى.
وبشكل عام، قلبت أعمال التاريخ الشعبي تماما مفاهيم “المزارعين البدائيين” التي تعني الافتقار إلى التحضر أو الحضارة المعقدة، أو عدم امتلاك الأراضي.
والأمر الأكثر فظاعة بالنسبة للمؤرخ، هو أن فين بول فشل في مراجعة مصادره والتحقق منها أو استخدام منهجية تاريخية علمية. والمثالان المباشران اللذان استعملهما هما وصفه لكولومبوس والإسبان بأنهم مستكشفون يعملون على فعل الخير، وروايته حول علاقة ماتوكا وبوهاتان (رموز سكان أميركا الأصليين) مع الإنجليز، بينما يتجاهل ذكر سمعة كولومبوس بين الإسبان الذي اعتُقل واقتيد إلى إسبانيا مقيدا بالسلاسل لمحاكمته بتهمة الاستبداد، وأنشطته مثل أسر النساء من السكان الأصليين لاستعبادهم جنسيا.
التأريخ والتفسير
وأضاف الكاتب أن التاريخ يدور حول التفسير، حيث من الممكن أن تختلف هذه التفسيرات بشكل كبير، ولكن يجب أن تُبنى جميعها على أسس متينة. وفي هذا الشأن، ترتكز أفكار فين بول على المنهج الأيديولوجي، وكانت نتائج بحثه مسيئة ومضحكة في الوقت ذاته.
هناك أمثلة أخرى شبيهة بمقالة فين بول، مثل ما عبر عنه الباحث الاستقصائي كاميرون هيلديتش في مقاله بمجلّة “ناشيونال ريفيو” (nationalreview)، ومقالة “المشروع 1519″ المعادية للسكان الأصليين بشكل عنيف والتي لا تستند على أي معطيات تاريخية، نشرت في مجلّة “ذا فادرالست“ (The Federalist).
اختارت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب التدخل في طريقة تدريس التاريخ لتعزيز مفهوم “التعليم الوطني”، وتحديدا من أجل “الدفاع عن إرث تأسيس أميركا، وميزة أبطال أميركا، ونبل الشخصية الأميركية”، وهو نهج واضح يدعم فكر براءة البيض، وفي كلٍّ من المملكة المتحدة وهولندا، يزداد الحنين للفكر المؤيد للاستعمار.
وفي خضم هذا الوضع، فإن محاربة التاريخ البائس الذي يحاول تبرئة المستوطنين الاستعماريين، ليست مجرد مسعى أكاديمي بل واجب أخلاقي.