اندماج الصوفية والمحدّثين والفقهاء.. كيف فعلوها؟!

لم يكن التصوف في الإسلام فكرة مستوردة أو ضيفا غريبا جاء من بلاد بعيدة؛ بل كان جزءا من صميم الإسلام وامتدادا لمعاني الزهد والتزكية -بمفهومهما الشرعي الإيجابي نفعاً والمتوازن روحاً ومادةً- التي نظَّر لها الإسلام منذ المرحلة المكية. ولذا لم يكن العلماء من الفقهاء والمحدثين منابذين له كما قد يتوهم البعض بسبب بعض انتقاداتهم لأقوال وأفعال معينة تنسب لأهل التصوف، كما لم يكن هذا النقد يعني الإبعاد والإقصاء للمتصوفة.

والحق أن نقد العلماء لمسالك التصوف كان جزءا من عملية إصلاحية طويلة تحاول تنقية المناهج الصوفية، ثم إعادة دمجها في مسار التيار العام خصوصا داخل أهل السُّنة والجماعة. لقد كانت عملية الإصلاح هذه طويلةً ومعقَّدةً جدا، ورسمُ مخطط تاريخي لتقصِّيها فيه صعوبة معروفة لمتتبعي تاريخ الأفكار والفِرَق والظواهر الثقافية المجتمعية، خصوصا إذا كان هذا المسار يحاول أن يرصد استجابات أطراف عملية الإصلاح الثلاثة (الصوفية والفقهاء والمحدثون) لتحديات هذه العملية وإسهاماتهم فيها.

والفكرةُ التي يتناولها هذا المقال -مُبَرْهِناً عليها بالأقوال والوقائع- هي محاولة رصد الكيفية التي تمكنت بها الاتجاهات الثلاثة من تحويل الاختلاف بينها إلى ائتلافٍ وثيق، تجسَّد في أئمة عظام جمعوا بينها في شخصياتهم ومصنفاتهم، فأصلحوا وصححوا وجهات نظر كل طائفة تجاه الطائفتين الأخرييْن، مع الاستدلال بمقولات أئمة أهل الحديث في تزكية الاتجاه الأصيل للصوفية، وكيف أنّه لم يكن ثمة عداء بين الطرفين -في الخط المعتدل من كليهما- منذ صدر الإسلام وحتى اليوم، وأنّ التعاون والتتلمذ التزكوي الحديثي والفقهي ظَلّ هو السَّمْتَ السائد لدى الجميع.

لقد كانت المناوشات العلمية بين الأطراف الثلاثة جزءا من منهج يضرب بجذوره في التراث الإسلامي، والإرث الحضاريّ للأُمّة في إدارة الخلافات الفكرية والسلوكية، مما يدفعنا اليوم لبحث كيفية استلهام تلك السوابق المنهجية والتاريخية لتوحيد متنافرات الساحة العلمية والإصلاحية اليوم.

مسار تراكمي
إن أي عمل لإصلاح فكرة ما لا بد أن يبدأ من النظر إلى نشأتها ومسيرتها وإعادة رسم حضورها في الذاكرة؛ فكيف نظر الفقهاء والمحدِّثون إلى تبلور التصوف تاريخيا وكيف قاموا بتقسيم مراحله وأنماطه تقسيما منهجيا؟

يمدَّنا الإمام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) بنص ثمين يساعدنا -ولو بالتقريب- في رسم المنحنى الزمني لتحقيب أجيال الصوفية منذ نهاية القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي؛ فنجده يقول في كتابه ‘الصفدية‘: “الشيوخ الأكابر -الذين ذكرهم أبو عبد الرحمن السُّلَمي (ت 412هـ/1023م) في ‘طبقات الصوفية‘ وأبو القاسم القُشيري (ت 465هـ/1074م) في ‘الرسالة‘- كانوا على مذهب أهل السنة والجماعة ومذهب أهل الحديث، كالفُضْيل بن عياض (ت 187هـ/803م) والجُنيد بن محمد (البغدادي ت 297هـ/910م) وسهل بن عبد الله التُّـسْتَري (ت 283هـ/896م) وعمرو بن عثمان المكي (ت بعد 300هـ/912م) وأبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي (ت 371هـ/982م) وغيرهم، وكلامهم موجود في السنة وصنفوا فيها الكتب”.

ويضيف ابن تيمية بُعداً آخر لطريقته في استقراء حركية التصوف في الإسلام، وهو التقسيم المنهاجي الذي خضعت له منظومة التصوف كغيرها من المناهج المعرفية والسلوكية؛ حيث يوزع الإمام أعلام الصوفية إلى فئات تغلب عليها مناهج علمية معينة بحسب سياق كل عصر وكل فئة، ووفقا لحالة تطور هذه المناهج وغلبتها في الساحة العلمية الإسلامية، بما فيها منهج “صوفية أهل الحديث” بتعبيره هو: “لكن بعض المتأخرين منهم (= المتصوفة) كان على طريقة بعض أهل الكلام في بعض فروع العقائد، ولم يكن فيهم أحد على مذهب الفلاسفة، وإنما ظهر التفلسف في المتصوفة المتأخرين؛ فصارت المتصوفة تارةً على طريقة صوفية أهل الحديث وهم خيارُهم وأعلامهم، وتارةً على اعتقاد صوفية أهل الكلام فهؤلاء دونهم، وتارةً على اعتقاد صوفية الفلاسفة”.

ويبني الإمام الذهبي (ت 748هـ/1348م) على استقراء ابن تيمية التحقيبي لبيان شِقِّ العلاقة الثانية بين معسكريْ الفقه والحديث، الذين سمح التفاهمُ بينهما باستيعاب الظاهرة الصوفية ودمجها في النسيج المعرفي العام لـ”أهل السنة والجماعة”؛ فنجد أن الذهبي أحسن رصْدَ ووصْف وضعية الساحة العلمية حتى مطلع القرن الرابع/العاشر الميلادي، وقيمة هذا الوصف أنه قدَّم لنا طبيعة الأرضية التي تأسس عليها اللقاء بين علماء الأمة من مختلف التخصصات.

فقد ذكَر -في ‘سير أعلام النبلاء‘- طائفةً من الأئمة الجامعين بين الفقه والحديث، ثم قال: “فكان المحدِّثون إذْ ذاك أئمةً عالمين بالفقه أيضا، وكان أهل الرأي بُصَراءَ بالحديث، قد رحلوا في طلبه وتقدموا في معرفته. وأما اليومَ (= القرن الثامن/الرابع عشر الميلادي) فالمحدثُ قد قنع بالسكة والخطبة فلا يفقه ولا يحفظ، كما أن الفقيه قد تشبث بفقه لا يُجيد معرفته ولا يَدري ما هو الحديث”!!

وقبل ابن تيمية والذهبي؛ زوّدنا -في ‘حِلْيَة الأولياء‘- الإمامُ الحافظ أبو نُعَيم الأصبهاني الشافعي (ت 430هـ/1040م) بلمحة مهمة تعين على استكمال تصوُّر المخطط التاريخي للإصلاح الصوفي، ومدَّ الخيط -بأثر رجعي- إلى عهد الصحابة من أهل الصُّفَّة جاعلا التصوف مذهبا اتباعيا مسنودا ومتسلسلا من الصحابة إلى مَنْ سمَّاهم “الأوائل من السلف”، ونابذاً دخلاء التصوف غير المقبول أو مذهب “المتخرِّمين المتهوِّسين من جهال الصوفية”؛ وفق تعبيره.

وفي ذلك يقول: “قد أتينا على مَن ذكرهم الشيخ أبو عبد الرحمن السُّلَمي (في ‘طبقات الصوفية‘) ونسَبَهم إلى توطُّن الصُّفَّة ونزولها، وهو أحد من لقيناه وممن له العناية التامة بتوطئة مذهب المتصوفة وتهذيبه على ما بينه الأوائل من السلف، [فهو] مقتدٍ بسيمتهم ملازمٌ لطريقتهم متَّبع لآثارهم، مفارقٌ لما يُؤْثَر عن المتخرِّمين المتهوِّسين من جهال هذه الطائفة، منكِرٌ عليهم؛ إذ حقيقة هذا المذهب عنده متابعةُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم فيما بلّغ وشرع وأشار إليه وصدَع، ثم [أهلِ] القدوة المتحققين من علماء المتصوفة ورواة الآثار وحكام الفقهاء..، [ثم أتينا على] ما ذكره الأغرُّ الأبـْلَج أبو سعيد ابن الأعرابي (البصري ت 340هـ/951م).. وكان أحد أعلام رواة الحديث والمتصوفة، وله التصانيف المشهورة في سيرة القوم وأحوالهم..، إذْ هو شَرَع في تأليف ‘طبقات النُّسّاك‘”.

والخلاصة هنا هي أنه كان من مهمات الإصلاح رسْمُ مسار الفكرة الصوفية وعلاقتها بالمنظومة الشرعية، وهذا ما حاول الأئمة الثلاثة المذكورون القيام به؛ حيث لم ينظروا إلى التصوف بوصفه حركة مستوردة دخيلة بل باعتباره جزءا من المنظومة الإسلامية الأصيلة وإن شابه بعض الدخيل، وأنه منبثق من مشكاتها الواحدة وإن انسحب عليه من سنن التبلور وشوائب التطور ما انسحب على كافة العلوم والمعارف الشرعية.