تحتفل أميركا سنويا بذكرى تأسيس أول مستعمرة بريطانية في أميركا قبل أكثر من 4 قرون، إذ شكلت “جيمستاون” اللبنة الأولى في صرح نظام الولايات المتحدة كما نعرفه اليوم، بأبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية والاقتصادية التي تأثرت بالثقافة الإنجليزية، رغم أن إنجلترا كانت متأخرة في استكشاف “العالم الجديد” مقارنة ببلدان أوروبية أخرى في عصر الاستكشاف الكبير.
وفي مقاله بموقع “ذا كونفيرزيشن” (The conversation)، يعتبر الأكاديمي الأميركي ديفيد جيرينغ أن روايات التاريخ الناطقة باللغة الإنجليزية تميل إلى تسليط الضوء على استيطان إنجلترا المبكر لما يعرف بالعالم الجديد، لكن -في الواقع- كانت إنجلترا تحت حكم الملكة إليزابيث (1558-1603) لاعبا أوروبيا ثانويا في التنافس على استكشاف العالم الجديد بالمقارنة مع إسبانيا وفرنسا، وتأخر وجودها فيه عن غيرها من بلدان أوروبا.
بعد أن فقدت إنجلترا “كاليه” -آخر أراضيها في فرنسا- عام 1558، وبعد أن شهدت عهدين ملكيين قصيرين للملك إدوارد السادس (1547-1553) والملكة ماري (1553-1558)، لم تستطع إنجلترا التنافس مع إسبانيا الصاعدة والمستقرة بمواردها المالية الوفيرة؛ وكانت الأخيرة غنية للغاية بفضل تدفق الذهب والفضة من مناجم العالم الجديد، وخاصة من بوتوسي جنوب غرب بوليفيا الحالية.
الصداقة التي انقلبت حربا
يقول أستاذ التاريخ البريطاني المبكر بجامعة نوتنغهام إن إنجلترا وإسبانيا كانتا حليفتين لفترة طويلة قبل عهد الملكة إليزابيث الأولى، وكانت الزوجة الأولى للملك هنري الثامن هي كاثرين من أراغون الإسبانية، وكذلك كان زوج الملكة ماري الأولى الملك فيليب الثاني. لكن العداوات تحت السطح تحولت في النهاية إلى حرب مفتوحة بعد أن تدخلت إنجلترا في الثورة الهولندية، لدعم الهولنديين ضد السيطرة الإسبانية عام 1585.
كان ملك إسبانيا فيليب الثاني (1556-1598) -زوج ملكة إنجلترا، وملك نابولي وصقلية والبرتغال لفترات مختلفة- قد فكر في شن هجوم على إنجلترا قبل عام 1585، لكن الانخراط الإنجليزي في هولندا إلى جانب القرصنة في البحار من قبل السفن الإنجليزية والملاح الإنجليزي فرانسيس دريك نائب الأميرال، أدى إلى تحرك الأسطول الإسباني (أرمادا) عام 1588 في محاولة لغزو وإخضاع إنجلترا.
مني الأسطول الإسباني بهزيمة فادحة في بحر الشمال أمام الأسطول البحري الإنجليزي الذي سانده الأسطول الهولندي، واعتبرت هزيمة الأرمادا أكبر معركة حصلت بين إنجلترا وإسبانيا في الحرب الأنجلوإسبانية التي استمرت بين 1585 و1604، وهو الحدث الذي قلل من هيبة الإمبراطورية الإسبانية الكاثوليكية التي تحداها التجار الإنجليز (البروتستانت) بثقة أكبر في أماكن مختلفة من العالم.
ومع قادة بحريين عسكريين مغامرين، سرعان ما وجد الإنجليز المستقلون مستثمرين من القطاع الخاص لتمويل رحلاتهم ونشاطهم في العالم الجديد. كان ينظر إلى ذلك على أنه استعداء لإسبانيا، لكنه كان فرصة لاستكشاف المشاريع التجارية وفرص التجارة والثروة، وشجعت الملكة الإنجليزية بحارة مثل فرانسيس دريك لانتزاع السفن والمدن الإسبانية في العالم الجديد.
يعتبر هبوط سفينة “مايفلاور” نهاية عام 1620 علامة تاريخية مهمة، بسبب التأثير الهائل الذي جلبته للعالم الجديد بحمولتها من السكان والثقافة الإنجليزية. لكن من نواحٍ عديدة، لا تمثل تلك السفينة بداية قصة أنجلوأميركية فحسب، لأنها مجرد جزء واحد من قصة أوروبية أوسع عن الاستكشاف والاستيطان والتهجير والقهر للسكان الأصليين.
تلا وصول سفينة مايفلاور تأسيس أول مستوطنة إنجليزية ناجحة في جيمستاون (Jamestown) عام 1607، والتي جاءت بعد أكثر من قرن من الغزوات الإسبانية والبرتغالية للعالم الجديد والأميركيتين.
إبحار كولومبس
أبحر الإيطالي كريستوفر كولومبوس عام 1492 إلى العالم الجديد تحت العلم الإسباني، وتبعه إيطاليون آخرون منهم أميرغو فيسبوتشي، تحت الأعلام الإسبانية والبرتغالية بعد فترة وجيزة، و جيوفاني دي فيرازانو تحت العلم الفرنسي عام 1524.
وأبحر المستكشف والرحالة الإيطالي جوفاني كابوتو (المعروف في بريطانيا باسم جون كابوت) تحت العلم الإنجليزي في تسعينيات القرن 15، لكن جهوده لم تسفر عن أي استيطان دائم من قبل الإنجليز. في المقابل امتد الاستكشاف والاستعمار الإسباني في العالم الجديد إلى آلاف الأميال في أعماق أميركا الجنوبية وسهول أميركا الشمالية.
سيطرت إسبانيا الجديدة (هيسبانيا نوفا) على الخرائط المبكرة لنصف الكرة الغربي، وفي هذه الأراضي أسست الحكومة الإسبانية حكما وإدارة استعمارية كاملة مع الكنائس والمبشرين، لمحاولة تنصير السكان الأصليين.
كانت الأراضي التي تدّعي البرتغال ملكيتها في البرازيل شاسعة أيضا، ويمكن تمييزها بسهولة على الخرائط القديمة لمساحتها الكبيرة.
جاء الاعتراف الدولي بالأراضي والهيمنة الإسبانية والبرتغالية مع معاهدة تورديسيلاس عام 1494، وحصلت في السنوات التالية على اعتراف البابا الكاثوليكي في روما.
وحتى لا تخسر التنافس بحلول عام 1550، اكتشف الفرنسيون أراضي شاسعة في ما يعرف الآن بكندا (نوفا فرانسيا)، على الرغم من أن الاستيطان من قبل الفرنسيين في هذه المنطقة كان محدودا.
لم يقتصر نشاط إسبانيا على أميركا الوسطى أو الجنوبية، واستمر الاستكشاف الإسباني في أميركا الشمالية يتوسع مع تقدم القرن، فاكتشف هيرناندو دي سوتو فلوريدا في أربعينيات القرن 15، بينما اكتشف فرانسيسكو كورونادو الجنوب الغربي في نفس الوقت. أما ما يعرف حاليا بالمكسيك فكانت قد احتلت بالكامل من قبل إسبانيا، بما في ذلك العاصمة مكسيكو سيتي التي بنيت على حطام ورماد مدينة الأزتك السابقة تينوشتيتلان.
توسعت الإمبراطورية الإسبانية أكثر فأكثر في جميع أنحاء العالم تحت حكم الملك فيليب الثاني خلال النصف الثاني من القرن 16، خاصة عندما أصبحت جميع الأراضي البرتغالية تحت سيطرته عام 1580. وكانت القوة الإسبانية مهيبة، حتى لو أثار البحارة المتهورون -مثل دريك- غضب إسبانيا من خلال النهب على طول سواحل أميركا الجنوبية في سبعينيات القرن 15.
كانت الأراضي الإسبانية شاسعة جدا وبعيدة المدى لدرجة أن الأوروبيين -ومنهم الإنجليز- عرفوا كيف لم تغرب الشمس أبدا على الإمبراطورية الإسبانية في القرن 16 (قبل وقت طويل من سطوع الشمس على الإمبراطورية البريطانية في القرن 19).
اللحاق باللعبة
وبحلول أوائل القرن 17، كانت إنجلترا أكثر ثقة بنفسها على المستوى الأوروبي مما كانت عليه منذ عهد هنري الثامن، ولكن كان لا يزال يتعين عليها اللحاق بالركب بعد أن تأخرت كثيرا ودخلت في تنافس كبير مع إسبانيا (التي ضمت إليها ممتلكات برتغالية)، وكذلك هولندا وحتى الدانمارك اللتان سرعان ما أصبحتا ناشطتين في استكشاف وضمّ الأراضي في الأميركيتين.
كان الإنجليز -بقيادة شركات خاصة أو لاجئين متدينين مثل “حجاج” مايفلاور- في بعض النواحي متأخرين حتى النصف الثاني من القرن 17، وفي هذه الأثناء كانت أراضي العالم الجديد ساحة للتنافس بين ثقافات الشعوب الأوروبية والغزو والاستيطان وحتى إبادة السكان الأصليين، وهي القضية التي وحّدت الأوروبيين الواصلين حديثا.
وهكذا بدأ الاختلاط والاندماج العظيم بين الشعوب في الأميركيتين، وسادت اللغة الإنجليزية في أميركا الشمالية، بينما استمرت اللغات الإسبانية والبرتغالية في أميركا اللاتينية والوسطى.
الاستيطان الإنجليزي
وبحلول أوائل القرن 17، أصبح الإنجليز يتوقون بشكل متزايد لإنشاء مستعمرة دائمة في أميركا الشمالية، بعد الفشل في القيام بذلك في أماكن أميركية أخرى مثل رونوك ونونافوت، ووجدوا مكانا مناسبا على طول نهر جيمس بفيرجينيا الحالية، وسرعان ما أدركوا أن المنطقة كانت مثالية لزراعة التبغ.
لكن الوافدين الجدد لم يتوقعوا أنهم استقروا في أرض خصبة مثالية للبكتيريا التي تسبب حمى التيفوئيد والزحار، وبدءا من عام 1607 إلى 1624، سافر حوالي 7300 مهاجر -معظمهم من الشباب- إلى فرجينيا، بحسب مقال بيتر سي مانكال أستاذ العلوم الإنسانية في جامعة جنوب كاليفورنيا لموقع كونفيرزيشن.
وبحلول عام 1625، لم يكن هناك سوى 1200 ناج منهم، وساهمت انتفاضة محلية للسكان الأصليين ونقص الغذاء الناجم عن الجفاف في ارتفاع عدد الضحايا الذين مات معظمهم بسبب تفشي الوباء. ويقول مانكال إن الوضع كان صعبا لدرجة أن بعض المستعمرين لجؤوا لأكل لحوم البشر.
وإدراكا منها لأن مثل هذه القصص قد تثني المهاجرين المحتملين عن عبور المحيط، عممت شركة فرجينيا في لندن مطوية اعترفت بالمشكلات، لكنها شددت على أن المستقبل سيكون أكثر إشراقا.
وهكذا استمر المهاجرون الإنجليز في الوصول بحثا عن عمل وهربا من صعوبات الحياة في لندن، ووافق العديد من العاطلين عن العمل واليائسين على أن يصبحوا خدما بعقود، مما يعني أنهم سيعملون لدى مزارع في فيرجينيا لفترة محددة من الوقت مقابل المرور عبر المحيط ومكافأة نهاية العقد.
وهكذا، ارتفع إنتاج التبغ، وعلى الرغم من انخفاض السعر بسبب وفرة المحصول، تمكن المزارعون من جمع ثروة كبيرة، وتوسع الاستيطان الإنجليزي في ما يعرف الآن بالولايات المتحدة الأميركية التي تعتبر الإنجليزية لغتها الأولى.