لكل شعب من شعوب الشرق الأوسط شخصية فكاهية ساخرة تختلط فيها الحقيقة التاريخية بالخيال اللاذع، وتتراوح مواقفها الكوميدية بين الحمق والحكمة، والسذاجة والدهاء.
الملا نصر الدين الفارسي، هو شخص مضحك يمثل أحد تلك الشخصيات المبثوثة في التقليد الإسلامي، وقد يكون السلف الأقدم لنصر الدين خوجا التركي أو جحا العربي الذي ربما كان موجودا منذ أكثر من ألف عام.
قام كل شعب من شعوب العرب والفرس والترك والكرد والبلغار والصقليين وغيرهم بصياغة قصص تختلط فيها الحقيقة بالخيال عن “جحا”، كل على طريقته الخاصة، للتعبير عن إحباطهم، ولتحطيم الرتابة وحتى مواجهة القمع بالسخرية.
وفي مقال بصحيفة “لوموند” (Le Monde) الفرنسية، تفتتح الكاتبة ليلى عنفر الموضوع بوصف لضريح نصر الدين خوجا بتركيا الذي يقال إنه هو من صممه، فجاء قبة على 4 دعائم مفتوحة من 3 جهات، ولكن الجهة الرابعة فيها جدار يتوسطه باب عليه قفل ضخم محكم الإغلاق.
بنى الأتراك قصصا حول شخص خوجا الذي أصبح بطلا قوميا، يقدم على أنه شخصية عاشت في القرن الـ13، وعايشت زمن الشاعر العظيم جلال الدين الرومي، ولكنها على مر القرون ارتبطت بالنكات من جميع الأنواع والجنسيات المختلفة وجميع أنواع الوظائف والمهن.
يرتدي خوجا عمامته الضخمة التي توحي، إلى جانب لقبه خوجا باللغة التركية أو الملا بالفارسية، بأنه مرجع ديني، ويركب على حماره، أحيانا في الاتجاه المعاكس، ويبقى شخصية عابرة للزمان والمكان.
وأنتجت الجزيرة الوثائقية قبل عامين وثائقيا بعنوان “البحث عن جحا”، تتبع سيرة الشخصية الكوميدية الساخرة عند الشعوب المختلفة في آسيا وأفريقيا وأوروبا.
وفي الوثائقي قالت باقية غول جولزهانورا أستاذ اللغة الكازاخستانية بجامعة الفارابي الكازاخية، إن الشيخ نصر الدين ميراث مشترك للشعوب التركية كلها، وهناك 25 دولة حول العالم تقبل نصر الدين كأحد أسلافهم.
نصر الدين الفارسي
وتصف الكاتبة مغامرات نصر الدين بأنها قصص قصيرة مضحكة وسخيفة واستفزازية وغير وقورة. وهناك عدد من الحكايات القديمة المنسوبة إلى شخصيات مجهولة أو غير معروفة، مبعثرة في أعمال الشعراء القدامى أو في مجموعات مؤرخة.
اعلان
وشيئا فشيئا -كما توضح الكاتبة- عزت الرواية الشعبية هذه الخرافات إلى شخصية واحدة تمثل الهزل الخارج عن المألوف في العالم الإسلامي؛ فهي شخصية تجمع تحت عباءتها، بين أحمق القرية والحكيم العميق، والرجل الصالح المرح، الساذج والماكر في الوقت نفسه، وهو جاهل ونبيه، وكذاب وصادق، مباشر وطريف، يستطيع قول أي شيء، بما في ذلك مساءلة العظماء عبر القرون.
وتظل قصص نصر الدين تنمو لتتجاوز الآلاف، في عملية خلق وتكييف يبدو أنها لا تنتهي أبدا، حيث إن كل من يريد أن يبرز سخافة الموقف أو ينتقد قويا، أو يظهر بسخرية عبثية العالم، يكفيه أن يخترع قصة جديدة من نوادر نصر الدين أو “جحا”.
وهذه العملية تتناسب مع تطور الاستبداد السياسي، بحيث يمكن أن يتجول نصر الدين في الوقت الحاضر بسيارة، ويتخلى مؤقتا عن حماره الأسطوري، ويمكن أن نجده يحمل جهاز آيفون أو مسدسا وفي متنزهات ترفيهية، كما يصور المقال.
وهكذا يذهب خوجا، منتقلا من الشفوية إلى الكتابة، ومن كوميديا السوق إلى التعبير عن الاحتجاج أو الأمثال والحكمة المتوارثة، وهو يتجاهل جميع الأشخاص الجادين، بل روح الجد نفسها؛ أي إن كل حكاية تكشف فيها الحكمة عن نفسها تحت ستار من السخرية اللاذعة، أو تكون السذاجة فيها هي دليل المكر، ولكن بشرط أن تكون بناءة، فستتخذ مكانها تلقائيا بين مختارات نصر الدين.
الضحك سلاح لتحرير الضمير
ورأى المقال أن هذا الضحك مفيد في سياق بعض البلدان الإسلامية التي تميل إلى الانغلاق الذي يؤدي إلى فقدان روح الدعابة، وكذلك إلى الاضطهاد الأيديولوجي الذي يولد الرفض العنيف لأي شكل من أشكال الاحتجاج، لأنه سلاح لتحرير الضمير، في ظروف استحالة ضمان الحرية بموجب القانون.
لذلك ليس من قبيل المصادفة أن يكون الملا نصر الدين عنوان دورية ساخرة واحتجاجية كانت نشطة في الفترة من 1906 إلى 1931 في أذربيجان، تنشر أحيانا في تبليسي الجورجية وأحيانا في تبريز الإيرانية وأحيانا في باكو الأذرية.
نصر الدين خوجا التركي
تلقى نصر الدين خوجا تعليما شرعيا دينيا على يد مجموعة من الأئمة في كتاتيب قريته، وأصبح إماما بمسجدها بعد وفاة أبيه. ويقال إنه عمل قاضيا، فيما تقول المراجع التركية إن الحقائق اختلطت في سيرة حياة الرجل بالأساطير والشائعات بسبب شهرته ومحبة الناس له، إذ يقال إنه التقى سلاطين السلاجقة وكان على علاقة بكبير الأئمة الصوفيين “مولانا” جلال الدين الرومي.
وقالت أونور حقي ألب، الباحثة في الأدب التركي بجامعة “إسطنبول آيدن” (İstanbul Aydın ) في تقرير سابق للجزيرة نت، إن قيمة شخصية جحا التركي تحمل 3 أبعاد، أولها سمعته التاريخية كأعظم رجل جمع بين الفكاهة والحكمة في الأناضول، وتعلق الأطفال بما حملته قصصه من خيال ومغامرة ومرح.
ويكمن ثانيها -وفقا للباحثة- في توثيق كيفية حياة شعب الأناضول في الحقبة التاريخية التي عاشها بعدما عبر عن اهتمامات ذلك الجيل وأدواته، بعناصر الضحك ورموز السخرية وقيم المدح والذم.
أما الثالث، فيتمثل في انسجام كافة رموز عصره مع قيم التدين الإسلامية التي كانت تعد مرجع حياة الناس رغم تردي ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية مع بدء غروب عصر الدولة السلجوقية.
وروى جحا التركي أنه استعار ذات يوم من أحد جيرانه المعروفين بالجشع وعاء ماء فارغا، لكنه أعاده له مع وعاء أصغر، وعندما سأله الجار عن الوعاء الصغير، قال له إن الوعاء كان حاملا حين استعاره وأنه قد وضع وليده في بيته فأعادهما معا.
وبعد عدة أيام، عاد جحا إلى جاره فطلب الوعاء منه مجددا، ففرح الجار علّ جحا يعود له مرة أخرى بوعاء جديد لكن جحا لم يُعد الوعاء هذه المرة لجاره الذي طال انتظاره حتى سأله عن سبب تأخره، فأجاب “لقد كان وعاؤك مريضا فمات عندي”، فرد عليه الجار، “وهل يموت الوعاء؟”، فأجاب جحا ساخرا “الوعاء الذي يحمل ويلد يمرض ويموت”.
ويقول الرجل إن في هذه الحكاية عِبَرا كثيرة في مقدمتها تطبيق للمثل القائل، “لا تصدق ما لا يقبله العقل”، كما أن فيها حثّا للإنسان على الاستعداد لدفع ثمن سوء نواياه كما يدفع الثمن عن سوء أفعاله.. هذا ما حصل مع الجار.