الإمام الفخر الرازي في ذكرى ميلاده الـ900.. احترمه التتار ومدحه ابن خلدون وصاغت مؤلفاتُه معارفَ الأيوبيين والعثمانيين

من أين يمكن البدء عند رواية قصة عَلَم عظيم مثل الإمام فخر الدين الرازي؟ فعلا نحن إزاء عالَم معارف رحب متسع تصعب الإحاطة بمشاربه، وفضلا عن تشعبه من العسير تأطير مساربه؛ فالرازي حقيقةً كان موسوعة معرفية تدب على قدمين وتلاقت عندها الأصول: الاعتقاد والفقه والتفسير والفلسفة الناقدة، والمعارف الصوفية والحكم العالية، ودروس الأدب والمناظرات، ومكائد التعصبات المذهبية والصراعات السياسية!

وقد جاء حصاد ذلك في عشرات المؤلفات التي تتمدد مضامين العديد منها بين ضفاف مجلدات طوال، وتتسلسلَ في إحياء وإصلاح تعتّق وتكوّن على أيدي سلاسل من نوابغ العلماء والفقهاء الكبار، الذين ربطوا وحدة الأمة بإصلاح المعتقد وترسية مباني ومعاني التوحيد. وهذا المقال يريد أن يصل تلك المناطق المقطوعة بين مؤرخي الفكر ومؤرخي السياسة ومؤرخي الشريعة.

فالرازي لم يكن مفكرا هامشيا بل كان في صلب هموم حضارته وثقافته، وعصر الرازي هو من أدهش العصور لكونه الصفحة التي اجتمعت فيها عوامل المقاومة والنصر مع معاول الهزيمة والاستعمار، وهي تلك الفترة التي تحركت فيها سلطة العلماء والمؤسسات الأهلية لترأب تصدعات الأنظمة السياسية. وهذا النموذج من التحدي والاستجابة من أغنى النماذج في الدراسة والبحث، خصوصا حينما يكون الفكر في مسقط الوعي السياسي والقوى الطليعية، على غرار الحركة الأيوبية والعثمانية اللتين مارستا إصلاحا واضحا وتبنّتا نهجا قاطعا في موقفهما الشرعي والفكري.

منذ تسعمئة عام حين وُلد الإمام الرازي الذي نحتفي اليوم بحلول مئوية ذكرى مولده السنة القادمة؛ كان هناك فقيه يخطب بالعربية والفارسية ويقرض بهما الشعر، ويذرع المشرق ذهابا وإيابا مناظرا ومحاضرا ومؤلِّفا، ثم يختم حياته مردد في وصيته عند الوفاة: “ديني متابعة محمد سيد المرسلين وكتابي هو القرآن العظيم”، ثم يخاطب ربَّه مناجيا: “فلتكنْ رحمتُـك مع قصْدي لا مع حاصلي”!!

بين ضفتين
هو محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري؛ كما ينسبه المؤرخون، على أن الإمام الشوكاني (ت 1250هـ/1834م) يقول ضمن ترجمته لأحد أحفاد الرازي العلماء في ‘البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع‘: “وكان الإمام (= الرازي) يصرح في مصنفاته بأنه من أولاد عمر بن الخطاب”.

وقد وُلد الرازي سنة 543هـ/1148م بمدينة الرَّيِّ (= طهران حاليا) التي كانت إحدى الحواضر العظيمة في بلاد فارس، فأخذ العلم على والده عمر بن الحسن الذي كان عالما شافعيا أشعرياً يلقب “الإمام ضياء الدين” وهو خطيب المدينة، ولذلك أصبح الرازي يُعرف -في كتب التراجم والتاريخ- بـ”ابن خطيب الرَّيِّ” أو “ابن الخطيب” اختصارا.

وهكذا اقترن انتساب الرازي للمذهبيْن الفقهي والعقَدي الأشعري بالميلاد والرحِم والتعلم وأخذ المسانيد عن والده؛ فقد كان يبالغ في تقدير والده ويصفه “بالإمام السعيد”، ونجده يذكره في مواضع متعددة من تفسيره راويا عنه فيقول: “سمعت شيخي ووالدي رحمه الله يقول..”، “وسمعت والدي رحمه الله يقول..”! وتذكرنا عبارات الرازي عن والده التي اتسمت بالتقدير والوفاء بسلوك تاج الدين السبكي (ت 771هـ/1370م) تجاه والده تقي الدين السبكي (ت 756هـ/1355م).

عاش العالم الإسلامي في عصر الرازي بين ضفتيْ النصر والهزيمة؛ ففي حين كان لا يزال يحتفي بانتصار حطِّين على الصليبيين سنة 583هـ/1187م، كانت معاقلُه -لحظةَ وفاة الرازي- تتهيأ لمواجهة خاسرة غربا مع ملوك المسيحيين بالأندلس في معركة العِقاب (= جمع عَقَبَة) سنة 609هـ/1212م وما تلاها من معارك، واجتياحات موازية كانت تتجمع في الأفق شرقا لتطوي بساط الهيمنة من تحته تدريجيا بدكّ سنابك خيل التتار لمعاقل دولة الخلافة!

والحق أن ذلك الأثر الإصلاحي الكبير ما كان ليحدث لولا الرفع آنذاك من شأن “سلطة العلماء”؛ فقد كان الرازي وارثا لتراث ضخم تركته طليعة علمائية نهضوية كبرى، بدأ ظهورها مع مطلع القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي وتواصلت أجيالها طوال عقوده، فمثَّلها أئمة فقهاء عظماء كانوا جميعا من علماء الكلام وفي معظمهم من المدرسة الأشعرية، وأشهرهم: الباقلاني (ت 402هـ/1012م) والماوردي (ت 450هـ/1059م) في مركز الخلافة بالعراق؛ وابن حزم (ت 456هـ/1065م) وأبو الوليد الباجي (ت 474هـ/1082م) في الغرب الإسلامي؛ والجويني (ت 478هـ/1086م) والغزالي (ت 505هـ/1111م) في الجناح الشرقي من الخلافة.
صراعات وتمزق
وقد شهدت الفترة التي عاش فيها الإمام الرازي (543-606هـ/1148-1203م) تهاوي دولة السلاجقة في مركز الخلافة العباسية بالعراق والمناطق الواقعة شرقه، بدءا من ضعفها بوفاة السلطان مسعود (ت 547هـ/1152م)، وانتهاءً بانهيارها كلياً بهزيمة السلطان طغرل الثاني (ت 590هـ/1194م) على أيدي سلاطين الدولة الخوارزمية الصاعدة.

وكانت جغرافيا الأفكار في “بلاد العجم” (خراسان وآسيا الوسطى) تتنازعها الصراعات المذهبية الشديدة، فضلا عن مناكفات لفرق باطنية وأخرى كلامية، وبالتالي كانت بيئتها الفكرية تتسم برخاوة شديدة، ولعل هذا كان سببا في اتخاذ الرازي سبيل المناظرات الكلامية طريقا لإعادة التوازن إلى جبهة أهل السنة في تلك المنطقة؛ حسبما أوضحه الإمام في كتابه ‘اعتقادات فرق المسلمين‘. وبقدر ما كان عصر الرازي مضطربا فتجسَّدت فيه ملامح “القابلية للاستعمار”؛ فإنه أيضا تأجج فيه روحُ المقاومة له والانتصار عليه!

وتبدو لنا هنا ملاحظة مهمة؛ وهي أن الدولتين الخوارزمية والغزنوية لم تصمدا أمام الغزو التتري بسبب هشاشة الأساس الفكري والتفكك الداخلي، بينما نجحت الدولة الزنكية ووليدتها الأيوبية -اللتان مارستا إصلاحا عقائديا وسياسيا صارما- في صد التهديد الصليبي، ومنحتا ذلك النجاح لوريثتهما الدولة المملوكية التي أوقفت المدّ التتري في معركة عين جالوت سنة 658هـ/1260م، ثم للدولة العثمانية التي مضت به إلى آفاق جغرافية وحضارية أرحب.

ولا يمكن فصل هذه النجاحات -في بُعديْها الأيوبي المتأخر والمملوكي- التي حسمت ضبط الجبهة الداخلية عن مشروع الرازي الكلامي، الذي كان روحه العام يعمل على الضبط الفكري للجبهات الداخلية الفكرية والسياسية، إضافة إلى أن ترنُّح الدول والحكومات عمل على تقوية المذهبيات باعتبارها حواضن اجتماعية للأصول والانتماء الفقهي والسلوكي. وهنا تكمن مفارقة أن هذا الفكر نجح إصلاحيا في الجناح الغربي من عالم الإسلام بينما أخفق في مسقط رأسه شرقيه!

فقد كان الرازي يمثل طبعة خاصة من مدرسة الأشعرية التي نجحت في التسرب إلى المذاهب الأربعة مع حضور طاغٍ في الشافعية والمالكية، بينما ظل المذهب العقَدي الماتريدي منحصرا في الغالب تحت عباءة المذهب الفقهي الحنفي باعتبارهما وجهيْن لآراء شخصية واحدة مؤسسة لكليهما هي الإمام أبي حنيفة نفسه، وليس للإمام أبي منصور الماتريدي (ت 332هـ/944م) إلا شرح تلك الآراء وتفصيلها؛ تماما كما ارتبط غالبا المذهبُ السلفي العقدي بالمذهب الفقهي الحنبلي وإن وُجدت له امتدادات واسعة في بقية المذاهب.
سلطة علمائية
حاولت الطليعة العلمائية -التي أشرنا لبروزها في العالم الإسلامي طوال القرن الخامس- أن تتمدد في الفراغ السلطوي السياسي لبسط سلطة العلماء الاجتماعية، وقد عمل هؤلاء العلماء على جبهات الإصلاح الفكري الاجتماعي من خلال محاربة البدع المذهبية والفرق الباطنية ونقد الأفكار المنحرفة، والربط بين التوحيد ووحدة الأمة وتعميق آلية الإجماع.

فنجد أن الإمام الجويني كان داعما بقوة لفكرة إجماع الأمة، وهو ينفي عنها إمكانية أن ترتد جماعيا حتى ولو غابت عنها الأصول، ولذلك قرر -في كتابه ‘الغياثي‘- أنها “لا تنسلخ عن الإيمان مُلابِسةً عماية الجهالة، فيكون مضمون هذه المقالة الإشعار بأمان الأمة عن المنقلَب إلى الكفر والردة، وإن تطاولت المدة”.

وهي نفسها فكرة عصمة الأمة التي تحدث عنها بعده تلميذه الغزالي -في مبحث الإجماع من كتابه ‘المستصفى‘- بقوله: “إنما يجوز الخطأ في اجتهاد ينفرد به الآحاد، أما اجتهاد «الأمة المعصومة» فلا يحتمل الخطأ كاجتهاد رسول الله (ص) وقياسه، فإنه لا يجوز خلافه لثبوت عصمته، فكذا «عصمة الأمة» من غير فرق”.

ثم جاء بعدهما الرازي فتبنى الرأي نفسه مبرهنا عليه بالأدلة؛ ففي تفسيره لقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}، قال: “اعلم أن قوله: {وأولي الأمر منكم يدل عندنا على أن إجماع الأمة حجة منكم}، واستدل على ذلك استدلالا برهانيا فرأى “أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أن كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطأ، فثبت قطعا أن أولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون معصوما”.

اعلان
ثم يقرر برهانيا أن “المعصوم الذي أمر الله المؤمنين بطاعته ليس بعضا من أبعاض الأمة، ولا طائفة من طوائفهم. ولما بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم -الذي هو المراد بقوله: {وأولي الأمر}- أهل الحل والعقد من الأمة، وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأمة حجة”. وهذا تأسيس مهم لمبدأ أن مرجعية السيادة والمشروعية تعود إلى العلماء عبر مؤسسة أهل الحل والعقد.

ولا يكتفي الرازي بهذا التأسيس لمرجعية الأمة وسلطة الإجماع، بل إنه يفند الرأي الذي يرى أن الآية تعني الأمراء فقط؛ فقال: “وعندنا أن طاعة أهل الإجماع واجبة قطعا، وأما طاعة الأمراء والسلاطين فغير واجبة قطعا، بل الأكثر أنها تكون محرمة لأنهم لا يأمرون إلا بالظلم، وفي الأقل تكون واجبة بحسب الظن الضعيف”.

تأهيل منهجي
بالمطالعة المتأنية لتفسير الرازي ندرك أنه أوتي قدرة كبيرة في تحليل الآيات تحليلا يمزج البرهان والاستدلال بالشفافية الصوفية، مما يجعل كتاباته منعطفا تاريخيا فاصلا في تاريخ مناهج علم الكلام؛ ومن ألمعية ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) أنه انتبه لذلك في كتابه ‘المقدمة‘، فنراه يؤرخ بدقة لجهود الرازي الحاسمة ضمن ما يسميها ابن خلدون “طريقة المتأخرين” التي أدخلت فن المنطق ضمن مباحث علم الكلام، ثم دخل الاثنان معا في مسائل وأبواب علم أصول الفقه حتى صارا مكونيْن “طبيعييْن” في نسيج الدراسات الشرعية، وأصبحت “مدرسة المتكلمين” من أهم مدارس “أصول الفقه” بعد أن صارت كذلك في “أصول الدين”.

يقول ابن خلدون عن المستوى الأول -في هذا “التطبيع الكلامي”- المتعلق بتأهيل فن المنطق شرعيا ودور الرازي في ذلك حتى إنه يقدمه حينا على الغزالي: “اعلم أن هذا الفن (= المنطق) قد اشتد النكير على انتحاله من متقدمي السلف والمتكلمين..، وحظروا تعلمه وتعليمه. وجاء المتأخرون -من بعدهم من لدن الغزالي والإمام ابن الخطيب (= الرازي)- فسامحوا في ذلك بعض الشيء، وأكبَّ الناس على انتحاله من يومئذ إلا قليلا..، والمتأخرون.. لمّا.. صح عندهم رأي أهل المنطق.. قضوْا بأن المنطق غير منافٍ للعقائد الإيمانية وإن كان منافيا لبعض أدلتها، بل قد يستبدلون من أدلة المتكلمين على العقائد بأدلة أخرى يصححونها بالنظر والقياس العقلي..؛ وهذا رأي الإمام (= الرازي) والغزالي وتابعهما لهذا العهد”!!

ويمضي ابن خلدون في بيان الإصلاحات التي قادها المتأخرون -بزعامة الرازي- على فن المنطق حتى تمت لهم “أسلمته”؛ فيقول: “ثم جاء المتأخرون فغيّروا اصطلاح المنطق وألحقوا بالنظر في الكليات..، وحذفوا كتاب المقولات..، وحدّقوا النظر فيه بحسب المادة..، ثم تكلموا فيما وضعوه من ذلك كلاما مُستبْحِرا، ونظروا فيه من حيث إنه فنّ برأسه لا من حيث إنه آلة للعلوم، فطال الكلام فيه واتسع. وأول من فعل ذلك الإمام فخر الدين بن الخطيب..، وهُجِرتْ كتبُ المتقدمين وطُرُقهم كأن لم تكن”!

ولم يتأت لهؤلاء الصفوة نجاح مسعاهم المعرفي الإصلاحي حتى “فرَّقوا بينه (= المنطق) وبين العلوم الفلسفية بأنه قانون ومعيار للأدلة فقط..، ثم نظروا في تلك القواعد والمقدمات في فن الكلام للأقدمين فخالفوا الكثير منها بالبراهين التي أدت إلى ذلك، وربما أن كثيرا منها مُقتبَسٌ من كلام الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات..، فصارت هذه الطريقة في مصطلحهم مباينة للطريقة الأولى وتسمى ‘طريقة المتأخرين‘، وربما أدخلوا فيها الرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد الإيمانية..، وأول من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحى الغزالي..، وتبعه الإمام ابن الخطيب [الرازي]”.

وهذا يعني أن هذا التيار لم يستسلم للتغريب الوافد مع ترجمات الكتب اليونانية بل نقدوا الفلسفة بالبراهين، لكن يبدو أن من جاء بعدهم بالغ في استخدام المناهج الفلسفية حتى أغرقوا علم الكلام بها فحرفه ذلك عن مقصده الأصلي: “ثم توغَّل المتأخرون من بعدهم (= الغزالي والرازي) في مخالطة كتب الفلسفة، والتبس عليهم شأن الموضوع في العِلمين فحسبوه فيهما واحدا..، ولقد اختلطت الطريقتان عند هؤلاء المتأخرين والتبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة بحيث لا يتميز أحد الفنين من الآخر..، كما فعله [ناصر الدين] البيضاوي (ت 685هـ/1286م) في ‘الطوالع‘ (= كتابه ‘طوالع الأنوار‘) ومَن جاء بعده”.

اتهام منتحَل
استنتج الباحث جورج مقدسي (ت 1422هـ/2002م) -في دراسته ‘الشافعي وأصول المتكلمين‘- أن الإمام الشافعي (ت 204هـ/820م) وضع كتابه ‘الرسالة‘ في أصول الفقه من أجل التأسيس لتيار الظاهرية بين أهل الحديث، وذلك لقطع الطريق على أصحاب الكلام ممثلين في المعتزلة؛ حيث يقول الباحث إن الشافعي “يظهر -من وَضْعِه السُّنّةَ في منزلة القرآن وتقييدِه إعمالَ القياس بضوابط مُحْكَمة- أن باعثه الأصيل [لكتابة ‘الرسالة‘] قد تمثل في أن يضع علما جديدا لأهل الحديث يكون مقابلا لعلم الكلام الذي ارتبط بالمعتزلة، الذين وصفهم الشافعي بأنهم: ‘خصومه من أهل الكلام؛ أنصار الحكمة والفلسفة‘”.

ثم تساءل مقدسي: “لمَ وقع هذا التغيير في طبيعة علم أصول الفقه الذي وضعه الشافعي؟ هذا العلم الذي كان في بدايته علما نقليا محضا، بعيدا كل البعد عن الكلام والفلسفة، بل عن كل مسائل فلسفة التشريع؛ ثم اختلطت مسائله -في مستهل القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي- بمسائل كلامية أدخلها المتكلمون الذين أظهر الشافعي مَقْتَه لهم”!

ونحن نرى أن مقدسي لم يكن مصيبا فيما ذهب إليه مقتديا -باعترافه هو- بآراء المستشرقيْن إغناز غولدتسيهر (ت 1340هـ/1921م) ويوسف شاخت (ت 1389هـ/1969م). ومن يطالع كتاب ‘مناقب الشافعي‘ للفخر الرازي يعرف أن ما قدمه هؤلاء الثلاثة ليس مطعنا جديدا بحسب ما يُصوِّره مقدسي، الذي إما أنه اطّلع على كتاب الرازي هذا فلا وجه لاعتباره أطروحته أمرا جديدا، بل كان عليه إسنادها إلى قائليها قبل قرون وليس إلى نفسه أو إلى باحثين معاصرين؛ أو أنه لم يطّلع عليه فذلك قد يعني تقصيرا منه في البحث لكون الكتاب طُبع قبل نشر دراسته بقرن كامل!! ولو طالعه لعلم أن ما طرحه كان متداولا قبل الرازي بقرون مما دفعه للرد عليه!

فقد نقل الرازي ادّعاءات لأتباع بعض الفرق “زعموا أنه (= الشافعي) كان منهم”، ومن هؤلاء فرقة سماها “المشبِّهة” ادَّعت انتساب الشافعي إليها لأنه “كان في غاية البغض لعلم الكلام، وفي غاية المحبة لظواهر الكتاب والسنة”، ثم أضاف: “وأما المعتزلة فزعموا أنه كان منهم” أيضا!!

ورأى الرازي أن حقيقة التضاد القائم بين الاتجاهين المذكوريْن تُسقط أي انتماء من الشافعي لإحداهما، ثم إن “الصداقة التي كانت حاصلة بينه وبين أهل الظاهر لا توجب كونه على مذهبهم، فإنه لا يبعد أن يقال إنه ما خاض معهم في علم الأصول (= ناظرهم عقَديًّا)، فلهذا السبب حصلت تلك الصداقة”.