أمة.. خارج النص الحضاري

غازي الذيبة*

قلة منا فقط؛ يدركون بأن العالم خارج نطاق المنطقة العربية، لا يعرفنا، وإن بدا بأن ثمة معرفة لدى أمة غير عربية بنا، فهي لا تتعدى نطاق المعلومات العامة الضئيلة والمسطحة عنا، فكيف ما يزال كثرة منا يعتقدون بأن الغرب، أعني أوروبا وأميركا الشمالية، يريدون لنا بأن نمحى عن وجه الأرض، وكأنهم لا ينامون ليلهم إلا وهم يفكرون بنا، وكأن العالم الذي يتقاسمونه فيما بينهم، ليس فيه سوانا، وكأننا نمتلك تلك المقومات التي تجعل منا رهابا لهم، فيحيكون لنا المؤامرة تلو الأخرى، ليبقونا على ما نحن عليه من تخلف وترد وظلم وجهل وسقوط؟
وإذ بدا تاريخنا منذ أكثر من 1400 عام، مشحونا بالانكسارات، وخضوعنا للآخر، فإن ما أضيء من إشراقات فيه؛ لم يشكل تلك الواجهة التي تجعل الآخر يطمع بنا.
سيقول أحدهم إن المنطقة متميزة جغرافيا، وهي بوابة العالم، لكن أي جزيرة نائية في أي مكان في العالم، يمكنها أن تكون بوابة العالم، وأي مكان في أي اتجاه على هذه الكرة الأرضية، هو متميز بموقعه، فكيف إذا كان أناسه متميزون بمعرفتهم وعلمهم وتحضرهم.
سيقول آخر، نحن حملة رسالة متميزة، وينسى أن متابعي قناة الـ”سي إن إن” وحدها، يتابعها نصف عدد أتباع رسالتنا، بل أكثر من النصف.
وهكذا دواليك، سنتبجح ببعض ما أنجز في تاريخنا، ونستدعي ابن سينا والفارابي وابن خلدون وغيرهم، وفي الحقيقة نغفل بأن القاطرة البخارية، غيرت وجه البشرية، وبأن اختراع المعلبات، قلب التاريخ على ظهره، وبأن الكهرباء أعادت صياغة الحياة، وهكذا، دون أن يكون لنا دخل بكل ذلك وسواه.


سيأتي أحدنا ويرد كل ما أنتجته البشرية إلى حاضنة الأمة، الثقافية والدينية والحضارية و… الحبل يجر مصطلحات وتهيؤات، لا ينطق بها إلا صاحب عقدة نقص.
شركة من شركات الاتصالات، مثلا، يمكنها بناء العالم العربي مرتين على الأقل، وجعله جنة من جنان الكون. أرباح حبة الفياغرا منذ اكتشافها وإلى اليوم، فاقت ما جمعه العرب عبر تاريخهم في الغزو من أموال منذ 1400 عام وإلى اليوم.
كل عربي عاش خارج نطاق المنطقة العربية، يعلم جيدا بأن العالم لا يعرفنا، وغير منتبه لنا، وأن ما نصغي له من ترهات الساسة والقادة وحماة الأمة حول فيروس الاستعمار والطامعين بنا، إنما يدل على أننا أوهن من عش العنكبوت، فالقوي في هذا العالم هو المتفوق، والقوي ليس قويا بمفرده فقط، بل بمنظومة وجوده الكاملة، ويمكن لأي حيوان على سطح الكرة الأرضية ان يصوغ منظومته، التي تجعل منه ملك الغابة، فكيف بالبشر.
نحن خارج التاريخ..
خارج الجغرافيا
خارج المعرفة
نقف بهدوء على باب الاعتقاد بأننا خير أمة اخرجت للناس
ونتسلى في أحاديثنا ببطولات أسلاف، جزء منهم دونته الخرافات الشعبية في تاريخنا، وجزء أصيب بالسفلس، لكنه أصبح بطلا بحكم التاريخ الذي دون على يد مرتزقة يسمون مؤرخين.
نحن مصابون بالرهاب من الآخر
فشلنا في كل شيء تقريبا
فشلنا في حب بعض
فشلنا في بناء أوطان منيعة الأبواب
فشلنا في خلق إنسان يصر على استخدام عقله
فشلنا في معرفة معنى الحرية
فشلنا في التعليم
فشلنا في الاقتصاد
فشلنا في الدين
فشلنا في الحروب
فشلنا في الصناعات
في كل شيء فشلنا، حتى في قيادة السيارات، ورعي الأغنام، فشلنا.
وبرغم ذلك، هناك أشخاص منا يتحدثون حتى اللحظة عن نجاح أسلافهم وبطولاتهم في الحروب، بينما لم نتمكن حتى اللحظة، من صناعة إبرة خياطة.
حين قرأنا التاريخ .. قرأنا ما دوناه، ولم نقرأ ما دونه غيرنا عنا.. احتفظنا بصورة واحدة عنا، ولم نر الوجه الآخر الذي رآه الآخر فينا.
ظننا ـ وإن بعض الظن إثم، أننا أمة البيان، ونسينا أن لكل أمة بيانها، وأنها أمته.. قلنا إن الشعر ديوان العرب، لنكشتف بأن شعرنا ليس أفضل من شعر غيرنا.
تحدثنا عن التربية، لكننا ما نزال نلقي بأعقاب سجائرنا من نوافذ السيارات.
تحدثنا عن الأخلاق، لكننا ما نزال نتعلم أبجدية الجلوس إلى المائدة.
تحدثنا عن الفرح، لكن سنتنا الهجرية تمضي دون أن نقيم حفلا واحدا نفرح فيه.
تحدثنا عن الحب، لكننا نتفسخ كل يوم ملايين المرات، بكراهية بعضنا.
كل ما نرى أننا نمتلك أفضله، عند غيرنا أفضل منه.
لم ما يزال بعضنا يعتقد بأننا أفضل من غيرنا..
ولم يظن بعضنا بكل هبله، أن الفرصة مواتية لنا لكي نخرج مما نحن فيه؟
لا، نحن خارج نص الحضارة، خارج التاريخ والجغرافيا، يجري غزونا ليس لأننا بيضة القبان في العالم، بل لأن منازلنا بلا أبواب، ولأننا لا نستخدم عقولنا، ولأننا نحرس الماضي، ونترك الحاضر تائها، لا يعرف أين يأخذنا ولا نعرف أين ناخذه.
حين تكون هشا.. ضعيفا، هويتك تعتمد على ذاكرة مصابة بجنون الأمة العظيمة، فأنت حتما خارج كل شيء.

*شاعر وكاتب أردني