يقول القاضي ابن العربي الأندلسي المالكي (ت 543هـ/1148م) في كتابه ’قانون التأويل’: “ولقد كنت يوما مع بعض المعلمين، فجلس إلينا أبي..، فدخل إلينا أحد السماسرة وعلى يديه رُزْمة كتب.. فإذا بها من تأليف [أبي جعفر] السِّمْناني (ت 444هـ/1053م) شيخ [أبي الوليد] الباجي (ت 474هـ/1082م). فسمعت جميعَهم يقولون: هذه كتب عظيمة وعلوم جليلة جلبها الباجي من المشرق؛ فصدَّعت هذه الكلمة كبدي..، وجعلوا يوردون في ذكْره ويُصْدِرون، ويحكون أن فقهاء بلادنا لا يفهمون عنه ولا يعقلون”!!
ومن ذلك المشهد المفعم بتعظيم الراحلين في طلب العلوم العائدين إلى بلادهم بنفائس أوعيتها؛ تملّكت ابنَ العربي الغيرةُ العلميةُ فكانت ردة فعله على ما سمعه من مُجالِسي والده ما عبّر عنه هو بقوله: “ونذرتُ في نفسي طِيَّةً (= نِيَّةً) لئن ملكتُ أمري (= بلغت سن الرشد) لأهاجرنَّ إلى هذه المقامات (= حواضر العلم بالمشرق)، ولأفدنَّ على أولاء الرجالات، ولأتمرسنَّ بما لديهم من.. المقالات”!!
تلك إذن كانت ردة الفعل النفسية التي قابل بها ابن العربي الإشادةَ بالكتب التي جلبها الإمام الباجي من المشرق، فدفعته -وهو فتى يافع- إلى رحلة علمية مشرقية مشابهة أنفق فيها 11 عاما من عمره العامر بالعطاء علما وعملا، وعاد منها سنة 496هـ/1103م بحصاد علمي وفير حقق به أمنيته الأثيرة!!
وفي هذا المقال؛ نرصد ظاهرة التأريخ لهجرة الكتب وانتقال الآراء والمذاهب من قُطْر إلى آخر ومن عصر إلى عصر، كاشفين معالم هذه الظاهرة الثقافية الفريدة التي تُبرز احتفاءَ المسلمين الشديد بكل كتاب جديد في فنه؛ مما جعلهم يخلّدون في دواوين تواريخهم أسماءَ وسِيَر من نقلوا تلك المعارف والمصنفات، ناسبين إليهم الفضل في السبق إلى تحقيق ذلك!
دوافع منهجية
يعود اهتمام مؤرخي الأفكار ورواد التاريخ الثقافي الإسلامي برصد أوَّليات انتشار المعارف وهجرات الكتب وترحال الآراء والمذاهب -من مواطن أصحابها إلى مختلف الأقاليم والأمصار- لعدة أسباب؛ أهمها حرصُ المسلمين على اتصال السند، واعتزازُهم بالرحلة ولقاءِ الأكابر، وتصنيفُهم لكتب طبقات علماء المذاهب والطوائف والمعارف، وتأريخُهم لأوائل العلوم والأشياء والأحداث.
ومن ذلك أيضا تأليفُهم لما يسمونه “البرامج” و”الفهارس” و”الأثبات” و”معاجم الشيوخ”، وهي كتب يوّثق فيها أحدهم -بذكر طُرُق الروايات والأسانيد- ما أخذه من كتب علمية وعمن أخذها من الشيوخ، وأين ومتى وكيف أخذها؟ فهذه المصنفات كان لها الإسهام الأهم في التأريخ للمعرفة وانتقال الآراء والمذاهب بين الأعصار والأمصار. وهو ما يساعد الدارسين في تحديد نشأة الأفكار والمذاهب والفرق، والتعرف على مسارات انتقالها وساحات انتشارها، ورصد تطور الحركة الثقافية والفكرية وما تولّد عنها من علوم وأعلام وأعمال.
ومحورية تلك الفهارس في ذلك ينبئنا عنها قول ابن إسحق النديم (ت 380هـ/991م) في مقدمة ’الفهرست’: “هذا فهرست كتبُ جميعِ الأمم من العرب والعجم، الموجود منها بلغة العرب وقلمها، في أصناف العلوم وأخبار مصنفيها، وطبقات مؤلفيها وأنسابهم وتاريخ مواليدهم، ومبلغ أعمارهم وأوقات وفاتهم، وأماكن بلدانهم ومناقبهم ومثالبهم، منذ ابتداء كل علم اختُـرِع إلى عصرنا هذا، وهو سنة سبع وسبعين وثلاثمئة للهجرة”!
ودلالةً على أهمية هذه التوثيقات والأسانيد؛ شاعت بين العلماء العبارةُ التي نقلها الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) -في ’فتح الباري’- عن بعض الفضلاء، وهي أن “الأسانيد أنساب الكتب”! كما يُنْبئنا العنوانُ الذي اختاره جلال الدين السيوطي (ت 911هـ/1506م) لأحد كتب معاجم شيوخه عن حضور هذا البعد التأريخي التوثيقي في أذهان السلف؛ إذ سمَّاه: ’أنشاب الكُثُب في أنساب الكُتُب’!
ولذا اهتم المسلمون مبكرا بتأليف كتب “الطبقات” فكانت سلاسل رواة العلم معروفة محفوظة، ومحطات انتقاله مدوّنة، وخرائط انتشاره مرسومة بعناية ومؤرخة بدقة، و”براءات” حمله ونشره في الأقاليم محفوظة بأسماء من تحملوا عبء ذلك، فحازوا بذلك “فضيلة السبق” التي منحها قاضي القضاة المؤرخ ابن خلّكان (ت 681هـ/1282م) -في ‘وفيات الأعيان‘- للخطاط الشهير ابن مقلة (ت 328هـ/939م) لأنه “كان أول” من طوَّر الخط الكوفي!
ولم يوّثق علماؤنا أنساب كتبهم وسلاسل مروياتهم فقط، بل تعدوا ذلك إلى توثيق حقوق وضع المصطلحات والمفاهيم العلمية! ومن ذلك ما نجده عند اللغوي أحمد بن فارس القزويني (ت 395هـ/1005م) حين ذكر قول ابن دريد الأَزْدي (ت 321هـ/933م) إن الأصمعي (ت 216هـ/831م) يُخطِّئ “قولَ العامة: ‘هذا مُجانِسٌ لهذا‘، ويقول: ليس بعربي صحيح”! فعلّق ابن فارس: “وأنا أقول: إن هذا غلط على الأصمعي لأنه الذي وضع كتاب ‘الأجناس‘، وهو أول من جاء بهذا اللقب (= المصطلح) في اللغة”.
وكذلك فعل برهان الدين الأبناسي الشافعي (ت 802هـ/1399م) -في ‘الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح‘- لما تحدث عن معنى مصطلح “المدبَّج” في أنواع الحديث النبوي، فنصَّ على أن الإمام “الدارقُطْنيَّ (ت 385هـ/996م).. أولُ من سمّاه المدبَّج، وأول من صنَّف فيه كتابا سمّاه ‘المدبج‘ في مجلد”.
أما علم أوائل الأشياء والأعمال وبدايات الأحداث والمسميات فقد برَّز فيه المسلمون وكتبوا فيه كتبا منوعة، وله حضوره الجليُّ في المصنفات التاريخية؛ فالإنسان بطبعه له اهتمام بذلك وتطلّع إلى معرفته، كما قال أبو هلال العسكري (ت 395هـ/1006م) في كتابه ’الأوائل’ الرائد في هذا الباب: “وقد رأيت أكثر الخاصة وجُلَّ العامة لَهِجِين (= مولَعين) بالسؤال عن أوائل الأعمال، ومتقدمات الأسماء والأفعال”!!
سفراء المذاهب
حين يرى الباحث تراث مذهب فقهي أو فِرْقَة فكرية في قُطْر من الأقطار الإسلامية؛ يخيّل إليه بداهة أن ذلك الثراء الفقهي والتنظيري والتاريخي قام به -في مبدئه- آلاف الفقهاء ومئات العلماء، والحقيقة أن ذلك الكم الهائل من المؤلفات والعلماء والمناظرات والنضال المذهبي يرجع في بداية أمره غالبا إلى رجل واحد، رحل من مسقط رأسه إلى شيخ المذهب الأول أو أحد تلاميذه الكبار وعاد بالمذهب، أو أن رجلا آخر هاجر من محل ميلاد المذهب وتغرب في مصرٍ من الأمصار فنشر فيه المذهب والعلم الذي ارتضاه.
فهذه مصرُ كانت غارقة في الولع بثقافة الملاحم وقصص المواعظ حتى قيّض الله لها إماما من أبنائها هو يزيد بن أبي حبيب النوبي (ت 128هـ/746م)، الذي يصفه الذهبي (ت 748هـ/1348م) -في ‘تاريخ الإسلام‘- بأنه “أحد الأعلام.. وكان أسود حبشيا.. وكان مفتي أهل مصر”! ثم يتحدث الذهبي عن الأوّلية المعرفية التي حظي بها هذا الإمام الحبشي بإحداثه تحولا تاريخيا في أرض الكنانة أصبحت به إحدى كبريات قلاع العلوم النقلية والعقلية في عالم الإسلام؛ فيقول إنه “هو أول من أظهر العلم والمسائل [الفقهية] والحلال والحرام بمصر، وقبل ذلك كانوا يتحدثون في الترغيب والملاحم والفتن”!!
وأما بعد تبلور نشأة المذاهب الفقهية في النصف الأخير من القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي؛ فقد عرفت مصرُ -التي أنجبت الإمام الطحاوي الأزديّ (ت 321هـ/833م) أحدَ أعظم أئمة ومؤصلي المذهب الحنفي الذي نشأ بالكوفة- هذا المذهبَ عن طريق رجل ليس بتلك الشهرة التاريخية، ونقصد القاضي العراقي إسماعيل بن اليسع (ت 167هـ/783م) الذي هو “أول من أدخل مذهب أبي حنيفة مصرَ.. وكانوا لا يعرفونه”؛ كما في ’رفْع الإصْر‘ لابن حجر.
وغيرَ بعيد من الكوفة نفسها؛ نجد أن أول “من جلب رأي أبي حنيفة إلى البصرة” هو الفقيه يوسف بن خالد السَّمْتي (ت 190هـ/806م)، وهو أيضا -حسب ابن حجر في ’تهذيب التهذيب’- يعدّ “أول من وضع كتاب الشروط”، أي علم الوثائق الذي يعتني بقواعد كتابة السجلات وتوثيق المعاملات المدنية.
ومن الشام -التي نشأ فيها مذهب الإمام الأوزاعي (ت 152هـ/769م)- تحوّل الفقيه المحدّث صَعْصَعَةُ بن سلّام (ت 192هـ/808م) “إلى الأندلس، فاستوطنها في زمن عبد الرحمن بن معاوية (= عبد الرحمن الداخل ت 172هـ/788م) وابنه هشام (ت هـ181/796م)؛ وهو أول من أدخل علم الحديث ومذهب الأوزاعي إلى بلاد الأندلس”.
وفي المقابل؛ يقول الإمام الذهبي إن القاضي أبا زرعة الثقفي (ت 302هـ/914م) أدخل إلى بلاد الشام “مذهبَ الشافعي (ت 204هـ/820م) [حين تولَّى قضاءَ] دمشق وحَكَم به القضاةُ، وكان الغالبَ عليها قولُ الأوزاعي”. لقد كان هذا القاضي شديد الإخلاص لمذهب الشافعي “يوالي عليه ويصانع”! ومن نصرته له أنه “شَرَط لمن يحفظ «مختصر المزني» مئة دينار (أي نحو 16.6 ألف دولار أميركي الآن) يهبها له”! وكان رجلا غنيا “له مال كثير وضِيَاع (= عقار وأراض) كبار بالشام”.
رصد دقيق
ولم يحتجْ انتقالُ المذهب الشافعي إلى العراق المجاور للشام إلى دفع أموال لانتشاره كما فعل القاضي الثقفي في الشام؛ فقد قام بالمهمة الفقيه أبو عاصم الأنماطى (ت 288هـ/901م) الذي يخبرنا تاج الدين السبكي (ت 771هـ/1370م) -في ’طبقات الشافعية الكبرى’- بأنه أخذ المذهب عن تلميذيْ الشافعي إبراهيم المزني (ت 264هـ/878م) والربيع المرادي (ت 270هـ/883م)، ثم “اشتهرت به كتُب الشافعي ببغداد، وعليه تفقه شيخ المذهب [بالعراق] أبو العباس بن سُرَيج (ت 306هـ/918م)”.
ووفقا للذهبي في ‘السير‘؛ فقد وصل المذهب الشافعي إلى إقليم خراسان بواسطة الإمام محمد بن عبد الوهاب الثقفي (ت 328هـ/940م)، الذي قال إنه “هو أول من حمل علوم الشافعي ودقائق ابن سريج [من العراق] إلى خراسان”. وأما إقليم ما وراء النهر (= آسيا الوسطى)؛ فقد عرفتْ المذهب الشافعية على يديْ أحمد بن الحسين الفارسي (ت 305هـ/917م) بعد أن “تفقه على المزني.. [فكان] أولَ من درَّس مذهب الشافعي بِبَلْـخ (تقع اليوم بأفغنستان) برواية المزني”.
ونحن نجد أحيانا تحديدا دقيقا يرصد دخول هذا المذهب إلى مدن بعينها وليس الإقليم العام فحسب؛ فالذهبي ينصّ -في ’تاريخ الإسلام’- على أن دخول المذهب الشافعي إلى أَسْفَرايِين -الواقعة اليوم بإيران- من خراسان كان بواسطة الحافظ أبي عَوانة الأَسْفَراييني (ت 316هـ/928م)، فهو “أول من أدخل مذهب الشافعي وتصانيفه إلى أَسْفَرايِين، أخذ ذلك عن إبراهيم المزني والربيع” المرادي.
كما منح السبكي فضيلة السبق لنشره تحديدا في مدينة نيسابور -وهي من حواضر خراسان- إلى أحمد بن إسحق النيسابوري المعروف بالصبغي (ت 342هـ/953م)؛ “فإنه أول من حمل إليها علم المزني” تلميذ الشافعي، والصبغي هذا ممن حلّاهم الذهبي -في ‘سير أعلام النبلاء‘- بلقب “شيخ الإسلام”!
وفي اليمن الذي عاش فيه الإمام الشافعي بُرْهَةً وغادره إلى العراق سنة 184هـ/800م؛ كان الفقيه إبراهيم الخِداشي (ت 450هـ/1059م) “أول من نشر مذهب الشافعي [هناك]..، وكان [الخِداشي] فقيها كبيرا”؛ كما في ’قلائد النحر’ للطيب بامخرمة الحضرمي (ت 947هـ/1541م). وقد أرجع عفيف الدين اليافعي (ت 668هـ/1269م) -في ’مرآة الجنان’- ظهورَ المذهب الشافعي باليمن إلى عدد “من الفقهاء الجِلَّة” موردا أسماءهم.
مغادرة للمنشأ
ولعل المذهبيْن المالكي والظاهري هما أجدر المذاهب بتتبع الانتشار؛ فرغم نشأتهما بالمشرق فإنهما سرعان ما غرّبا فكان ازدهارهما خارج منطقة الميلاد! ففي مصر غير البعيدة من المدينة المنورة كان الفقيه الشاب عبد الرحمن بن خالد الجمحي المصري (ت 163هـ/880م)، “أول من أدخل مصرَ فقهَ [الإمام] مالك (ت 179هـ/796م)، وبه تفقه ابن القاسم (ت 191هـ/806م) قبل رحلته إلى مالك وكان من الصالحين”، وهو “من قدماء أصحاب مالك وكان معجبا به وبفهمه”؛ كما في ’تاريخ الإسلام’ للذهبي.
وفي بلاد الأندلس -التي هيمن فيها الدرس المالكي طوال تاريخها- نجد أن فقيهَها زياد بن عبد الرحمن اللخمي المعروف بشَبَطون (ت 193هـ/809م) كان “أول من أدخل مذهب [شيخه] مالك إلى الجزيرة الأندلسية، وقبل ذلك كانوا يتفقهون للأوزاعي وغيره”؛ طبقا للذهبي -في ’تاريخ الإسلام‘- الذي يضيف أن ابن القاسم قال: “سمعت زيادا فقيه الأندلس يسأل مالكا”! كما كان الفقيه الأندلسي عيسى بن دينار (ت 212هـ/827م) “أولَ من أدخل الأندلس رأي ابن القاسم” الفقيه المالكي المصري الأبرز.
وكان سفير مذهب أهل المدينة إلى المغرب الأقصى (المملكة المغربية اليوم) الفقيه الزاهد دَرّاس بن إسماعيل الفاسي (ت 357هـ/971م)؛ فهو -كما في ’جذوة الاقتباس’ لابن القاضي (ت 1025هـ/1616م)- “ممن أدخل مذهبَ مالكٍ المغربَ، فإنه كان الغالب على المغرب في القديم مذهبُ الكوفيين (= الحنفية)”.
وتفصيلا لما أجمله ابن القاضي؛ يقول مؤرخ المذهب المالكي القاضي عياض (ت 544هـ/1149م) -في ’ترتيب المدارك’- إن الحنفية غلبوا على “إفريقية (= تونس) وما وراءها من المغرب.. إلى أن دخل علي بن زياد (العبسي ت 183هـ/199م) و[عبد الرحيم] بن أشرس والبهلول بن راشد (العبسي ت 183هـ/199م)، وبعدهم أسد بن الفرات (الفارسي ت 213هـ/828م) وغيرهم بمذهب مالك؛ فأخذ به كثير من الناس، ولم يزل يفشو إلى أن جاء سَحْنون (بن سعيد ت 240هـ/854م) فغلب في أيامه وفَضَّ حِلَقَ المخالفين”!!
وفي العراق الذي شهد نهضة مالكية في بعض عصوره؛ كان لدخول مذهبهم إلى البصرة قصة طريفة تسببت في نشأة علم “أصول الفقه”! ففي ’مناقب الشافعي’ للبيهقي (ت 458هـ/1067م) أن موسى بن عبد الرحمن بن مَهْدي قال: “أولُ مَن أظهر رأيَ مالك.. بالبصرة أبي (= عبد الرحمن بن مَهْدي ت 198هـ/814م)؛ [فإنه] احتجم ومسح الحجامة ودخل المسجد فصلى ولم يتوضأ، فاشتد ذلك على الناس، وثبت أبي على أمره! وبلغه خبر الشافعي ببغداد، فكتب إليه يشكو ما هو فيه، فوضع له كتاب ‘الرسالة‘ وبعث به إلى أبي، فَسُرّ به سروراً شديداً، قال موسى: فإني لأعرف ذلك الكتاب بذلك الخط عندنا”!!
تحولات وفرص
أما المذهب الحنبلي فربما كان أقل المذاهب الفقهية الباقية معلومات بشأن وضوح مراحل انتشاره وأوليات نقل مصنفاته؛ ورغم ذلك فإننا واجدون فيها إضاءات يتوازى حجمُها مع الحيّز الجغرافي المحدود الذي انتشر فيه هذا المذهب تاريخيا، فقد أفادنا الإمام السيوطي -في ‘حسن المحاضرة‘- بأولية خروج المذهب من العراق حيث نشأ وترعرع، فقال إن “الإمام أحمد (بن حنبل ت 241هـ/855م).. كان في القرن الثالث، ولم يبرز مذهبه خارج العراق إلا في القرن الرابع”.
ولا ينطلق السيوطي هنا من فراغ في تحديد بداية ظهور الحنابلة في المشهد العلمي خارج موطن نشأتهم العراق؛ إذ يقول الذهبي -في ‘السِّيَر‘- مسجلا الإسهام الحاسم من الإمام الحنبلي الخلّال البغدادي (ت 311هـ/923م) في جمع آراء هذا المذهب وصيانته من الاندثار: “ولم يكن قَبله للإمام [أحمد] مذهبٌ مستقلٌّ، حتى تتبع هو نصوص أحمد ودوَّنها وبرْهَنَها بعد [سَنة] الثلاثمئة (= 300هـ/912م)”.
وبحكم الجوار الجغرافي؛ كانت محطة الحنابلة التالية للعراق غربا هي الشام الذي سيُصبح معقلَهم الأهمَّ حين يفقدون قلعتهم الحصينة بالعراق جراء الاجتياح المغولي للبلاد 656هـ/1258م؛ فقد وصل التمدد الحنبلي إلى الشام -في النصف الثاني مع من القرن الخامس/الحادي عشر الميلادي- بواسطة الإمام عبد الواحد الشيرازي (ت 486هـ/1093م)، الذي “قَدِم الشام فسكن ببيت المقدس فنشر مذهب الإمام أحمد فيما حوله، ثم أقام بدمشق فنشر المذهب وتخرج به الأصحاب”؛ حسب ابن رجب الحنبلي (ت 795هـ/1393م) في ‘ذيل طبقات الحنابلة‘.
وفي القرن السادس الموالي؛ وصل إشعاع المذهب الحنبلي إلى مصر بعد أن أزال السلطان صلاحُ الدين الأيوبي (ت 589هـ/1193م) الدولةَ الفاطمية، وعزَّز ذلك ما عُرف به هذا السلطان من احتضان لأهل الحديث. ويُفهم من كلام السيوطي أن سبب تأخر دخول الحنابلة مصر هو تزامن خروجهم من العراق مع سيطرة الفاطميين عليها، ثم زال السلطان الفاطمي عنها “أواخر القرن السادس فتراجعت إليها الأئمة من سائر المذاهب” السُّنّية!
وحين ذكر السيوطي “مَنْ كان بمصر من أئمة الفقهاء الحنابلة”؛ قال: “هم في الديار المصرية قليلٌ جدا، ولم أسمع بخبرهم فيها إلا في القرن السابع وما بعده..، وأول إمام من الحنابلة علمتُ حلولَه بمصر [هو] الحافظ عبد الغني المقدسي (ت 600هـ/1203م)”.
أما المذهب الظاهري؛ فقد نقله من العراق -حيث عاش إمامه داود الأصبهاني (ت 270هـ/884م)- إلى الأندلس -التي احتضنته قرونا على حذَر-ٍ الإمامُ عبد الله بن محمد بن قاسم بن هلال القرطبي (ت 272هـ/888م)؛ فقد جاء في ’تاريخ علماء الأندلس’ لابن الفَرَضي الأزدي (ت 403هـ/1013م) أن ابن هلال هذا “رحل ودخل العراق، ولقي أبا سليمان داود بن علي القِياسي (= داود الظاهري ولعل وصْفه بـ‘القياسي‘ هنا نسبة إلى القياس الفقهي لكونه يرفضه كما قالوا ‘قدري‘ في نسبة من ينفي القَدَر) فكتب عنه كُتُبَه كلها، وأدخلها الأندلس فأخلّت به عند أهل وقته”.
اهتمام محايد
ولم يقتصر مؤرخو الثقافة والمعارف على التأريخ لبدايات انتشار المذاهب الفقهية، بل اهتموا كذلك برصد انتقال العلوم والعقائد وأصول الفِرَق والطوائف؛ فهذا الحافظ ابن حجر يترجم -في ‘لسان الميزان‘- للمحدِّث الشيعي البارز إبراهيم بن هاشم القُمِّي (توفي في النصف الأول من القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي)، فيقول إن “أصله كوفي وهو أول من نشر ‘حديث الكوفيين‘ (= المرويات المنسوبة لأئمة آل البيت) بِـقُمْ..، روى عن.. أصحاب [الإمام] جعفر الصادق (ت 148هـ/765م)”.
وفي المقابل؛ يفيدنا الذهبي -في ’تاريخ الإسلام’- بأن الإمام النضر بن شُمَيْل (ت 204هـ/820م) كان نزيل مدينة مَرْو (تقع اليوم بتركمانستان)، وهو “أولُ من أظهر السُّنَّة بمَرْوَ وجميع خراسان”، وأن الحافظ حميد بن زَنْجُويَه الأزدي (ت 247هـ/861م)ـ هو الذي أظهر السُّنَّة بِنَسَا (كانت تقع بتركمانستان)”.
وفي كتاب ’الثقات’ لابن حِبّان (ت 345هـ959) أن أبا قُدامة عُبيد الله بن سعيد السَّرَخْسي (ت 241هـ/855م) “هو الذي أظهر السُّنَّة بسَرَخْس (تقع اليوم بتركمانستان) ودعا الناس إليها”، كما كان الْمُهلب بن الأخطل الْأَزْدِيّ (ت 259هـ/873م) “أولَ من أظهر السُّنَّة بتست (كذا في المصدر؟ ولعلها: بُسْتْ التي هي اليوم لشكر كاه بأفغانستان)، ودعا إِلَيْهَا النَّاسَ على عبَادَة دائمة وورع شَدِيد”!!
وغالبا ما يكون ظهور السُّنَّة في بلد مرتبطا بانتشار رواية الحديث النبوي الصحيح فيه؛ ولذلك رصد مؤرخو العلوم الشرعية أوّلياتٍ في هذا الباب، فقال السبكي -في طبقات الشافعية‘- إن “أول من اشتهر بحفظ الحديث وعلله بنيسابور -بعد الإمام مسلم بن الحجاج (ت 261هـ/875م)- إبراهيم بن أبي طالب (النيسابوري ت 295هـ/911م)”، الذي وصفه الذهبي -في ‘السير‘- بأنه “إمام المحدّثين في زمانه”!
وقد أرَّخوا لنا أيضا نشأة المذهب المعتزلي فقالوا إن “أول من قال في [نفْي] القَدَر بالبصرة مَعْبَد الجهني (ت 80هـ/699م)”؛ كما في ‘طبقات الشافعية‘ للسبكي. ويحدثنا ياقوت الحموي (ت 626هـ/1229م) -في ’معجم الأدباء’- بأن مدينة زَمَخْشَر -التي أنجبت الإمام الزَّمَخْشَري المعتزلي (ت 538هـ/1143م)- عَرفت فكر المعتزلة عبر شيخ له اسمه محمود بن جرير الضبي (ت 508هـ/1114م)، كان هو الذي أدخل “إلى خوارزم مذهب المعتزلة ونشره بها، فاجتمع عليه الخلق لجلالته وتَمَذْهَبوا بمذهبه، منهم أبو القاسم الزمخشري”.
فِرَق مغرِّبة
وكان للمذهب الأشعري -الذي عمَّ طوال الألفية الماضية أرجاءَ العالم الإسلامي- أئمةٌ ناشرون؛ فالمحدث أبو ذر الهروي (ت 435هـ/1044م) كان “أول من حَمَل الكلام إلى الحَرَم [المكي] وأول من بثه في المغاربة”؛ كما في ’درء تعارض العقل والنقل’ لابن تيمية (ت 728هـ/1328م) الذي أدرك محورية الهروي في نشر الأشعرية، فقال: “وأهل المغرب كانوا يحجّون فيجتمعون به ويأخذون عنه الحديث وهذه الطريقة (= الأشعرية)..، فيرحل منهم من يرحل إلى المشرق” فيأخذها عنه.
وفي ’أزهار الرياض’ للمقري (ت 1041هـ/1632م) أن قاضي المرابطين أبا بكر المرادي الحضرمي (ت 480هـ/1087م) “كان أول من أدخل علوم الاعتقاد إلى المغرب الأقصى”، ومعروف أن المرادي هذا كان أشعريَّ المُعتقَد.
وعن حضور فرقة الخوارج في الغرب الإسلامي الذي كان أولى المناطق التي استطاعوا إقامة دولة فيها أواسط القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي، بعد أن قويت في إقليمه شوكتُهم حينا من الدهر؛ يخبرنا الحافظ ابن حجر -في ’تهذيب التهذيب’- أن إمام التفسير عكرمة البربري (ت 107هـ/726م) مولى ابن عباس (ت 68هـ/688م) “كان أول من أحدث فيهم -أي أهل المغرب- رأيَ الصُّفْرية (= فرقة من الخوارج)”!!
ويروي مؤرخ المذهب الإباضي يحيى بن أبي بكر الوارَجْلاني (ت 471هـ/1078م) -في كتابه ‘سِيَر الأئمة وأخبارهم‘- عن أحد أئمتهم أن “أول من جاء.. [بـ]ـمذهب الإباضية [إلى إفريقية/تونس].. سَلَمَة بن سعد (الحضرمي ت نحو 135هـ/752م)، قدِم.. من أرض البصرة هو وعكرمة مولى ابن عباس وهما راكبان على جمل واحد حملا عليه زادهما؛ سلمة.. يدعو إلى الإباضية، وعكرمة.. يدعو إلى الصُّفْرية”!!
وإن تعجبْ من وصول رجل مثل عكرمة -كان ملازما لترجمان القرآن ابن عباس ودُفن بالمدينة- إلى ذلك الإقليم القصيّ والعَصِيّ؛ فإن الحافظ الذهبي يجيبك -في ’تاريخ الإسلام’- بأن عكرمة كان “كثير التطواف، كثير العلم، ويأخذ جوائز الأمراء”! كما يصفه ابن حجر بمرح الروح فيروي أن عكرمة ما عُلم أن “أحدا ذمَّه بشيء الا بدُعابة كانت فيه”؛ فيا له من “خارجي” فنان!!
وكما وصل الإباضية إلى الغرب الإسلامي دخله الشيعة أيضا؛ فهذا المؤرخ العُماني الصُّحاري (ت 511هـ/1117م) يقول -في كتابه ’الأنساب’- إن علي بن الحسين البَجَلي هو “الذي أدخل مذهب أهل البيت في المغرب وانتهى إلى السّوس (= جنوبي المملكة المغربية)..، وكان متفننا في العلوم كثيرَ الرواية عن رجال أهل البيت”.
نزوح ورسوخ
في كتابه ’المدارس النحوية’ أرخ العلامة شوقي ضيف (ت 1426هـ/2005م) لما أسماها المدرسة الأندلسية والمصرية في النحو، وكانت تلك الكتب اللغوية -التي رصدنا تواريخ وصولها إلى الأندلس والغرب الإسلامي- هي البذرةَ الأولى لتلك المدرسة المتميزة، التي خدمت لغة القرآن وارتقت بالدراسات اللغوية في تلك الأقطار.
ومثل الأندلسِ في انتقال الكتب مصرُ؛ فممن نقل علوم اللغة إلى أرض الكنانة الإمام النحوي الوليد بن محمد التميمي المعروف بولّاد (ت 263هـ/877م)، كان “أصله من البصرة ونشأ بمصر، ورحل إلى العراق وعاد إلى مصر، وهو الذي أدخل إليها كتب اللغة ولم تكن بها قبله، [فقد] لقي الخليل [الفراهيدي] بالبصرة ولازمه وأخذ عنه”.
وممن خدم اللغة في مصر أبو الطيب السبتي المالكي (ت 695هـ/1300م) “نزيل قوص كان من العلماء العاملين الفقهاء…، وهو الذي أدخل شرح ابن أبي الربيع (السبتي ت 688هـ/1289م) [لكتاب ‘الإيضاح‘ لأبي علي الفارسي (ت 377هـ/988م)] إلى مصر”؛ كما في ’الوافي بالوفيات’ للصفدي (ت 764هـ/1364م). والسبتي هذا ومعه تلميذه أبو حيان الأندلسي (ت 745هـ/1345م) وغيرهما ممن نزح إلى مصر بسبب الاضطرابات في الأندلس؛ كانوا هم أساس النهضة النحوية والأدبية في مصر التي ورثت الزعامة الثقافية للعالم الإسلامي غداة أفول نجم العراق والشام وتهاوي الأندلس!!
وكما حصل في العلوم النقلية؛ لم يغب التأريخ لانتقال كتب العلوم التجريبية -في أقطار الإسلام شرقا وغربا- عن دائرة رصد المهتمين بحركة الأفكار والعلوم وتنقُّـل مصنفاتها بين البلدان والأقاليم البعيدة؛ ففي المجال الطبي يحدثنا ابن أبي أصيبعة ضمن ترجمته -في ‘عيون الأنباء‘- للطبيب الأندلسي الكبير أبي العلاء بن زُهر (ت 525هـ/1131م) عن أنه “في زمانه وصل كتاب ‘القانون‘ لابن سينا (ت 428هـ/1038م) إلى المغرب..، [وذلك] أن رجلا من التجار جلب من العراق إلى الأندلس نسخة من هذا الكتاب قد بولغ في تحسينها، فأتحف بها لأبي العلاء بن زهر تقرُّباً إليه ولم يكن هذا الكتاب وقع إليه قبل ذلك، فلما تأمله ذمَّه واطَّرَحه”!!
ويذكر ابن أبي أصيبعة أيضا أنه في سنة 632هـ/1235م “وصل إلى دمشق تاجر من بلاد العجم (= فارس إلى آسيا الوسطى)، ومعه نسخة من شرح ابن أبي صادق (النيسابوري ت نحو 470هـ/1077م) لكتاب ‘منافع الأعضاء‘ لجالينوس (ت 216م)، وهي صحيحة.. من خط المصنف، ولم يكن قبل ذلك منها نسخة في الشام”!!