تحولت العديد من الكنوز المعمارية في سوريا إلى ركام، لكن عمليات ترميم محدودة انطلقت أخيرا، بينما تعاني أغلبية المواقع الأثرية المتضررة من غياب الجهود لإعادتها إلى الحياة.
في تقرير نشرته صحيفة “الغارديان” البريطانية، قال الكاتب روان مور إن مركز حلب كان أعجوبة؛ إذ كان تجسيدا للثروة المادية والثقافية، التي جعلت من سوريا ذات يوم واحدة من أكثر البلدان حظا وتحضرا على وجه الأرض. فهي شبيهة بكاليفورنيا الشرق الأوسط، بمناخها وأرضها الخصبة وجمالها المادي، وموقعها بين البحر الأبيض المتوسط وطريق الحرير إلى الشرق.
هندسة سوريا المعمارية
وأضاف الكاتب أنه كان في حلب قلعة بُنيت أسوارها الضخمة على تل، إلى جانب الأسواق، وهي شبكة ضخمة من الأزقة والشوارع المغطاة والمساحات التي تجمع بين المنتجات والمبادلات التجارية وحرفية البناء، حيث يسطع بريق العمارة العريقة وسط الحركة والفوضى.
كان هناك أيضا الجامع الأموي الذي سمي على اسم الأمويين، الذين أسسوه في القرن 8 الميلادي، لكن نسيجه الباقي جاء من فترات لاحقة. وقد أصبح الحجر، وهو المادة التي يتكون منها تل قلعة حلب وكهوف الأسواق، السطح المصقول والعاكس للفناء الكبير.
تمثل هذه المعالم الثلاثة سوريا التي بنتها على مدى آلاف الأعوام مختلف الإمبراطوريات والسلالات. كانت سوريا دولة توثق روائعها المعمارية تاريخا كاملا: من مدينة تدمر الصحراوية ذات التأثير الروماني، مرورا بمساجد وقصور الأمويين والعباسيين والعثمانيين والقلاع الصليبية، وصولا إلى دير القديس سمعان في الريف خارج حلب الذي كان في القرن الخامس أكبر كنيسة في العالم.
وذكر الكاتب أن الهندسة المعمارية لسوريا تعكس روح الاختراع الحر والبهجة، التي تظهرها تيجان الأعمدة في دير القديس سمعان، حيث صُممت الزخارف ورقية الشكل للعمارة الكلاسيكية لتبدو كأنها تهب في مهب الريح. يوجد شيء مشابه في فسيفساء الجامع الأموي في دمشق، حيث تظهر جنة خضراء على خلفية ذهبية، أو في انسياب الأقمشة على تماثيل تدمر.
كانت سوريا أيضا بلدا متعدد الثقافات والأديان، وعاشت غالبا في ظل التسامح والتعاون، حتى حُبست في قفص الحدود القبيح الذي نصت عليه اتفاقية سايكس بيكو عام 1916. ومع تأجج الخلافات في البلاد بفعل السياسات الخاطئة والجهات الفاعلة الخارجية، أمضت سوريا العقد الماضي في تدمير نفسها أو في التعرض للتدمير، بحسب تعبير الصحيفة البريطانية.
محاولات الترميم
رغم استمرار الحرب وتفاقم الكارثة الاقتصادية بفعل العقوبات وانتشار فيروس كورونا، بدأت عمليات الترميم وإعادة الإعمار في الغالب بتمويل خارجي. فعلى سبيل المثال، يدعم صندوق الآغا خان للثقافة إعادة بناء بعض أسواق حلب. كما رُمم عدد من الكنائس بمساعدة الجماعات الأجنبية. في بعض الحالات، بذلت الشركات الفردية ما في وسعها للتنظيف والإصلاح وإعادة الفتح.
يجري ترميم الجامع الأموي، حيث تنتصب مئذنته التي انهارت عام 2013، كما تُقصي ألفا جزء منها وصُنفت ووضعت مثل أحجية الصور في الفناء. ويقع تمويل هذا العمل من قبل الحكومة الشيشانية لأسباب سياسية.
وذكر الكاتب أن مبادرة التراث السوري جمعت أرشيفا يتكون من 200 ألف صورة لمواقع سورية التقطت قبل الحرب من أجل مشروع إعادة الإعمار والترميم. وقد وثقت المباني التاريخية والأضرار التي لحقت بها. وهي تقدم أشكال وتخطيطات الأحياء السكنية، حتى يعاد بناؤها على نفس النمط.
يجلب هذا العمل خيارات ونقاشات حول الفرق بين تدمر وحلب، حيث كانت تدمر مدينة زاخرة بالتراث السوري؛ لكن جزءا من هذه المدينة رغم جمالها -كما كانت قبل الحرب الأهلية- يعد من وحي خيال علماء الآثار خلال الاحتلال الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى، الذين أزالوا منازل العرب، التي شيدت من الأنقاض على مدى قرون؛ ليعيدوا تشييد الهياكل المهدمة. وبذلك صنعوا نسخة من تدمر لم تكن موجودة من قبل.
تعددية التراث الثقافي
شبه ستيفان ويبر، مدير متحف الفن الإسلامي في برلين، حلب ببرشلونة أو فلورنسا قائلا: “لقد تميزت المدينة بالتعددية الدينية، وتراثها غير المادي وموسيقاها ومطبخها”.
ومن جانبها، تقول ديما ديوب، وهي مهندسة معمارية من حلب تعمل الآن في برلين لصالح مبادرة التراث السوري، إن “الأولوية ليست للكنائس أو المساجد، بل إلى عودة الناس إلى ديارهم، نحن بحاجة لمساعدتهم لإعادة بناء منازلهم وسبل عيشهم”.
وتقول الصحيفة البريطانية إن الأسواق، التي تحوّل بعضها إلى حفر بسبب القنابل، هي الأكثر أهمية بالنسبة للأحياء السكنية. وحسب تييري غراندين، وهو مهندس معماري يعمل لصالح صندوق الآغا خان للثقافة، فإن ترميم بعض الأسواق قد ترافق مع بعض الجهود لضمان عودة أصحاب المتاجر الأصليين. كما أنهم يساعدون النحاتين المحليين على تطوير تقنياتهم، و”تدريب الناس حتى يدرّبوا غيرهم”، وبذلك لا تندثر الحرف في المستقبل.
وأقر الكاتب بأن هذه المهمة صعبة في بلد ما يزال يركز في الغالب على البقاء، ففي عملية استغرقت 5 سنوات إلى الآن، وقع إعادة ترميم وبناء 650 مترا من السوق المغطى، من إجمالي 9 كيلومترات. ويقول غراندين إن الأمر سيستغرق “من 10 إلى 20 عاما، على الأقل لإكمال الأشغال”.
وتقول ديوب “إن المستوى الفني يمكن تحسينه بالنظر إلى الخبرة والتمويل المتاحين الآن”. في الوقت الحالي، لا توجد استراتيجية شاملة، فقط جهود الأفراد والوكالات، وبالنظر إلى أن النظام الفاسد ما يزال في السلطة، فإنه من المستحيل معرفة مدى حسن إدارته لمصالح النسيج الحضري للبلاد.
ويبقى التحدي الأكبر هو التحلي بالعزيمة لإعادة إعمار المدن السورية وترميم معالمها، في أصعب الظروف التي يمكن تخيلها.
تدمير الآثار
دمر تنظيم الدولة مواقع أثرية في مدينة تدمر، التي يزيد عمرها على ألفي عام، في حين قامت قوات النظام السوري بنقل آثار من المنطقة بعد خروج تنظيم الدولة منها إلى مخازن في العاصمة السورية، وترددت أنباء عن بيع قطع منها في السوق السوداء لصالح ضباط سوريين نافذين.
وفي عام 2012، دمّر هجوم للنظام السوري قلعة تلبيسة (شمال حمص)، في حين أدى هجوم قواته على حلب إلى اشتباكات مع فصائل المعارضة؛ تسببت بأضرار بالغة لمواقع أثرية مهمة، بما في ذلك الجامع الأموي وقلعة حلب التاريخيين خلال المعارك بين قوات النظام ومقاتلي المعارضة عامي 2012 و2013.
وبخلاف الأضرار الناجمة عن الاشتباكات والقصف، يتعرض التراث الثقافي السوري لعمليات نهب واسعة النطاق.
ويؤكد خبراء الآثار أن الأماكن الأثرية عرضة للخطر من كافة الأطراف المتصارعة في الساحة السورية، إضافة إلى لصوص الآثار الذين يستهدفون المتاحف ومواقع الحفريات للبحث عن الآثار ونهبها مستفيدين من حالة الانفلات الأمني في البلاد. ويرجح هؤلاء الخبراء أن تكون القطع الأثرية المسروقة تُهرب عبر دول الجوار لتباع في السوق السوداء العالمية.
وأدرجت منظمة اليونسكو 6 مواقع أثرية سورية على لائحة التراث العالمي، وهي أحياء دمشق القديمة، وحلب القديمة التي تُعد أقدم مستوطنة بشرية موجودة حاليا في العالم وواحدة من أكبر المراكز الدينية في العالم القديم، وقلعة المضيق، وقلعة الحصن، ومدينة بصرى القديمة، ومدينة تدمر، والقرى الأثرية (شمالي وشمال غربي البلاد)، حيث المناطق الواقعة (شمال الهضبة الكلسية)، وتضم مئات الأديرة والكنائس القديمة.
وتؤكد منظمة اليونسكو أن عمليات التنقيب والنهب تجري في أنحاء متفرقة من سوريا، وفي مواقع أثرية مهمة، مثل مدينة ماري السومرية القديمة ومدن إيبلا وتدمر الصحراوية وأفاميا التي “دُمرت تماما”، وأن بعض المواقع الأثرية دُمرت أو نُهبت بالكامل. وتصف عمليات التنقيب هذه بالأمر “الخطير والمدمر للغاية”.
مواقع أثرية مهددة
تشير التقديرات إلى أن ثلث المباني في سوريا دُمر خلال سنوات الحرب، وشمل ذلك مواقع مهمة أبرزها:
قلعة حلب القديمة التي تقع على تلة مرتفعة تعاقبت على بنائها حضارات قديمة منذ الإغريق والبيزنطيين وحتى المماليك والأيوبيين، وربما يعود أغلب البناء الحالي للعصر الأيوبي خلال القرنين 12 و13.
وهي واحدة من أقدم القلاع في العالم، وأصبحت أحد مواقع التراث العالمي لليونسكو منذ عام 1986، ودمرت الحرب المناطق المحيطة بالقلعة وأجزاء منها.
وفي تدمر -التي عانت من الدمار الذي خلفه تنظيم الدولة وقصف النظام أيضا- ما يزال الخطر يهدد آثار المدينة التي تعود إلى أكثر من ألفي عام، وتضرر مبنى المتحف جراء قصف القوات الحكومية في 2016، ودمر تنظيم الدولة آثارا مهمة في المدينة، وقام بتفجير معبدي بل وبعل شمين.
وشهدت مدينة بصرى الشام دمارا كبيرا، وكانت المدينة التاريخية مركزا دينيا وتجاريا على طريق الحرير، ومحطة مهمة للحجاج في طريقهم إلى مكة، كما تعرّض مسرحها الروماني لأضرار بسبب القتال.
ودمرت الحرب حلب التاريخية في (الشمال)، وتعرض الجامع الأموي فيها لأضرار بالغة، وأصبح الآن ممتلئا بالركام، ودُمرت مئذنته التي تعود إلى القرن 11 الميلادي.
وفي الجنوب، تضررت أحياء مدينة دمشق القديمة، التي تعد أقدم عاصمة مأهولة في العالم، ونالت القذائف من مبانيها التي تعود لعصور يونانية ورومانية وبيزنطية وإسلامية.
وأصبحت دمشق القديمة مع نظيراتها من المواقع السورية المصنفة على قائمة اليونسكو للتراث الإنساني على قائمة “مواقع التراث العالمي المهددة”.