خالد أبو الليل*
“المصري ابن نكتة”، تدفعنا هذه الجملة، ونحن نفتتح مقالنا هذا، إلى طرح سؤال مشروع: هل تنطوي هذه المقولة على وصف إيجابي أم سلبي للمصريين، بوصفهم شعباً محباً للتنكيت والسخرية؟ يرى الكثيرون أنه وصف إيجابي، في حين إنني أرى أنها مقولة تنطوي على معانٍ سلبية كثيرة.
من أهم هذه المعاني، أن السخرية هنا تمثل أحد أشكال مواجهة القهر والظلم والبطش الاجتماعي والسياسي. فالنكتة- بأشكالها المتعددة الشفاهي والإلكتروني- ثقافة مواجهة، بل إنها أضعف آليات المواجهة الاجتماعية أو السياسية، فهي “أضعف الإيمان”.
ولعل أهمية النكتة تتمثل في قدرتها على خلق نوع من التوازن الاجتماعي المطلوب لمواجهة الكبت والإحباط على مستويات عدة، بانتصار وهمي عبرها. فالعجز عن مواجهة الفساد، يدفع إلى خلق نكتة للسخرية من المفسد، بدلاً من مواجهة هذا المفسد بفساده. ولذلك، فإن كثيراً من هذه المضحكات، أو الأشياء التي تدفعك نحو الضحك، هي في الحقيقة هي مبكيات، والأحرى أنها تدفعك نحو البكاء. وهو ما يتوافق مع ما سبق أن طرحه المتنبي منذ فترة طويلة، تعود إلى عصر الدولة الإخشيدية، حين قال، واصفاً المصريين: “وكم ذا بمصر من المضحكات/ ولكنه ضحك كالبكا”. وهو ما أكده الشاعر حافظ إبراهيم في العصر الحديث بقوله: “وكم ذا بمصر من المضحكات” كما قال فيها أبو الطيب. فالشاعران يقرنان ارتباط الضحك بالمصريين بأنه سخرية من واقع بائس، تعذر تغييره باليد، فتم اللجوء إلى النكتة للسخرية من هذا الواقع الذي استعصى عليه التغيير. ولفتت صفة “المصري الساخر” منذ القِدم، أذهان الكثيرين، فتوقفوا عندها بغية استنباط أسبابها. فردَّها ابن خلدون إلى عدم انشغال المصريين كثيراً بعواقب الأمور. فلما رأى أهل مصر قال: “أهل مصر كأنهم فرغوا من الحساب”، يعني بذلك أنهم لا يطيلون النظر في العواقب. وتبعه في ذلك تلميذه المقريزي، الذي يقول: “من أخلاق أهل مصر الإعراض عن النظر في العواقب، فلا تجدهم يدخرون عنده مزاداً كما هي عادة غيرهم من سكان البلاد، بل يتناولون أغذية كل يوم من الأسواق بكرة وعشياً. وعدم الإمعان في حساب العواقب، يستتبع الفرح والمرح؛ لأن الإنسان إذا لم يفكر في العواقب لم يحمل هماً فيكون مجال النكت عنده فسيحاً”.
وتنطبق هذه الصفة، أعني صفة عدم التفكير كثيراً في عواقب الأمور، وعدم الانشغال بالمستقبل، الذي لا يعلمه إلا الله إلى حد كبير، على معظم المصريين. ولذلك، كثيراً ما تتردد مقولة “سايبينها على الله”، على ألسنة المصريين، وهو ما يعضده المثل الشعبي المصري: “احييني النهاردة، ومِّوتني بكرة”. فالمصريون يحكمهم قانون “رزق كل يوم بيومه”؛ ومن ثم فهم لا يشغلون بالهم بالمجهول، خصوصاً ما يتعلق منه بالرزق، فهم مؤمنون بأنه “ماحدش بيموت من الجوع”، و”ماحدش بياخد رزق حد”. وقد حسمها المثل الشعبي بقوة عندما قال: “اجري يا ابن آدم جري الوحوش غير رزقك لم تحوش”. وهو الأمر الذي يجعلهم نفسياً أكثر هدوءاً وراحة بال. وربما يكون هذا القانون أكثر انتشاراً بين المصريين من ذوي الأوساط الفقيرة والأشد بؤساً. فمن غريب ما نلاحظه في هذا الباب- وفق قول أحمد أمين في قاموسه- “إن أشد الناس بؤساً، وأسوأهم عيشة وأقلهم مالاً وأخلاهم يداً، أكثر الناس نكتة، ففي المقاهي البلدية حيث يجلس الصناع والعمال ومن لا صنعة لهم ولا عمل، وفي المجتمعات الشعبية حيث يجتمع البؤساء والفقراء، نجد النكتة بينهم تحل محلا ممتازاً”.
المصري، بالفعل، كان “ابن نكتة”، يواجه بنكاته ما يعجز عن مواجهته بيده، وكانت النكتة أشد وقعاً على مَن تُوجه إليهم النِكات من وقع السلاح والأيدي. كانت النكتة سلاحاً قوياً في مواجهة ما ينبغي مواجهته، عندما تعجز القوى الشعبية عن مواجهته بقوة السلاح، فكانت قوة اللسان؛ حيث السخرية والتندر والفكاهة، فيتحول القوي ضعيفاً لا حول له ولا قوة، ويحتفل الضعيف بانتصار وهمي، ويحتفل أمثاله معه بهذا الانتصار بترديد هذه النكات والسخريات اللاذعة.
هكذا سخر المصريون من حكم قراقوش، الذي أجهد المصريين وأتعبهم لفترة قصيرة تاريخياً، فسخروا منه طيلة تاريخهم، فعمر النكتة أطول من عمر الظالم. وهكذا جاء كتاب الشربيني “هز القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف”. وهكذا استمرت النكت التي سخرت من مواقف أو حكام أو وزراء وعاشت، فالعصر الملكي في مصر انتهى ولا تزال نكاته تروى، سواء بصيغها نفسها، أو بتعديلات فيها مع العصور التالية عليه.
شهدت النكتة تحولات عدة، بعضها بفعل عوامل سياسية، كالانتقال من عصر إلى عصر، وبعضها بفعل تغيرات اجتماعية، كالانتقال من الشفاهي إلى المكتوب، أو من المكتوب إلى المرئي في عصر التكنولوجيا، ووسائل التواصل الاجتماعي. ولكن، يلاحظ في الوقت الراهن عزوف المصريين عن النكتة بمعناها التقليدي؛ إذ لا وجود للعفوية والتلقائية مما كان يميز النكتة الشفاهية التقليدية، ولكننا أصبحنا أمام النكتة الموجَّهة، التي تعتمد على القصدية في التوجيه؛ لاشتعال الصراعات السياسية. وساعدت التكنولوجيا الحديثة، بوسائلها المتعددة على دعم هذه القصدية في النكات الموجهة، فأصبح لكل تيار كتائبه الإلكترونية، التي توجه نكاتها المسموعة أو المرئية إلى خصومها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لم يعد المصريون غير مشغولين بعواقب أمورهم؛ إذ صاروا- رغماً عنهم- مدفوعين نحو هذا التوجه؛ نظراً إلى غلاء المعيشة الذي يعيشونه. فهم مضطرون إلى تغيير نمط حياتهم وتفكيرهم، الأمر الذي يترتب عليه أن الذهن المصري لم يعد خالياً مِن التفكير في عواقب الأمور، والنفس لم تعد هادئة، بل قلقة، بل صار المصري مدفوعاً نحو العمل لسد رمقه ورمق أولاده، ولم يعد لديه مجال للراحة أو الاستكانة لكي يعيد جلساته حول “منقد النار”، ليأكل مع أسرته “كيزان الذرة” في ليالي الشتاء الباردة. مثل هذه الجلسات، أصبحت جزءاً من الماضي، الذي تستدعيه الذاكرة كلما ملَّت واقعها المعيش، وحنَّت إلى ماضيها الطفولي. ولم تعد لديهم القدرة على إحياء مثل هذه الجلسات الاجتماعية والجماعية، التي كانت تربة خصبة لمثل هذه الفنون الشعبية، وعلى رأسها النكتة، سواء لأسباب اقتصادية (الغلاء والاستغلال)، أو أسباب اجتماعية (وسائل التواصل الاجتماعي) أو أسباب نفسية (التفكير طوال الوقت في العواقب، والبال لم يعد صافياً).
*أستاذ الأدب الشعبي في “كلية الآداب” – “جامعة القاهرة”.