القاهرة – علي عطا
“الاغتراب في شعر سعدي يوسف: قراءة ثقافية”، عنوان كتاب للناقد المصري رضا عطية صدر حديثاً عن “الهيئة المصرية العامة للكتاب”. يحدد عطية بداية أن اختيار القراءة الثقافية أداة منهجية لدراسة تجربة سعدي يوسف الشعرية، هدفه هو اكتشاف ما وراء الجمالي من خلفيات سياسية واجتماعية وثقافية، والكشف عما يعتمل تحت “جلد” النص الشعري من أيديولوجية، أو بالأحرى صراع أيديولوجيات وفق المفهوم الماركسي للأدب بوصفه تمثيلا لصراع قوى متضادة. كما أن القراءة الثقافية لشعر سعدي يوسف كما يضيف عطية “تساعد على الكشف عن تشابكات الوعي الفردي للذات المبدعة بالوعي الجمعي للذات الكلية، والشخصية الجمعية للطبقة التي ينتمي إليها وللوطن عموماً”.
في هذه القراءة حاول رضا عطية أن يتلافى ما يقع فيه النقاد والباحثون عند تطبيقهم النقد الثقافي بتصور أن القراءة الثقافية ما هي إلا استخراج للأيديولوجي والسياسي والاجتماعي من النص من دون عناية بجمالياته. ومن هنا، أولى عطية عناية ملحوظة بالتحولات الفنية في شعر سعدي يوسف، والسمات التعبيرية المميزة لشخصيته الفنية، بقدر عنايته بتلمس التجليات الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية في مجمل منجز صاحب “مَن يعرف الوردة”.
ينقسم الكتاب إلى مدخل أول “في الاغتراب”، ومدخل ثان “في النقد الثقافي”، وثلاثة مباحث: عن الاغتراب في المكان الأول، الاغتراب في المكان الآخر، واستعادة المكان الأول، فضلاً عن خاتمة تكثف أهم النتائج المستخلصة من تلك القراءة.
تسبق ذلك كله مقدمة تعود إلى أوائل الخمسينات، حين بدأ سعدي يوسف نشر قصائده التي كانت غالبيتها عمودية، ثم ما لبث أن تحول بدءا من العام 1955 ليكتب معظم قصائده في قالب الشعر التفعيلي، وصولاً إلى نصوصه الشعرية التي كتبها في العام 2017؛ وقت الانتهاء من هذا الكتاب.
ومعروف أن سعدي يوسف المولود في إحدى قرى البصرة في جنوب العراق في عام 1934، قدّم على مدى أكثر من ستة عقود عشرات دواوين الشعر، وأسهم في ترجمة الكثير مِن عيون الأدب العالمي، ومنها: ديوان “أوراق العشب” لوالت ويتمان، وكتاب “الأمير الصغير” لأنطوان دو سانت إكســوبري، وأصدر في العام 1974 مجموعة قصصية عنوانها “نافذة في المنزل المغربي”، كما نشر كتباً عدة تتضمن شذرات من سيرته الذاتية، منها “يوميات المنفى الأخير”. وتناولت تجربته الإبداعية الممتدة دراسات عدة، منها: “النبرة الخافتة في الشعر العربي الحديث” لفاطمة المحسن، و”شعر سعدي يوسف دراسة تحليلية”، لإمتنان الصمادي، و”المرآة والنافذة: دراسة في شعر سعدي يوسف” لسمير خوراني، و”قامات النخيل” لشاكر النابلسي.
أما رضا عطية (1980)، فأصدر من قبل “العائش في السرد” عن أدب نجيب محفوظ، وفاز عنه بجائزة ساويرس لأفضل عمل نقدي في العام 2017، و”مسرح سعد الله ونوس: قراءة سيميولوجية”، و”تجربة المكان في نص سركون بولص”.
وإذا كانت حياة سعدي يوسف – وفق رضا عطية – توسم بالقلق وعدم الاستقرار والوقوع تحت ضغط ملاحقة النظام العراقي وسعيه لسحق الشيوعيين وإفنائهم، فإن اختيار تيمة الاغتراب في شعر سعدي يوسف يأتي لأن تبديات الاغتراب بأشكاله وأنواعه المختلفة تتمثل بوضوح في خطابات يوسف (1934) فضلاً عن أن تجربة المنفى أسهمت في تعميق الشعور الاغترابي لديه. تجربة سعدي يوسف (المقيم في المملكة المتحدة منذ العام 1999) الممتدة طولياً في الزمن لنيف وستين عاماً مع الشعر، وأفقياً مع الفن عموماً، إذ كتب إلى جوار الشعر، المسرح والقصة والرواية، ومع السياسة ونضاله من أجل الوطن والحرية، هي بمثابة مرآة عاكسة للتحولات السياسية الإقليمية والعالمية منذ منتصف خمسينات القرن العشرين. يقول عطية: “يمكننا أن نتمثل في خطابات سعدي يوسف الشعرية التيارات الفلسفية والسياسية والمجتمعية، فضلاً عن الصياغات الفنية وتحولات كل هذا على مر الزمن”.
حمل شعر سعدي يوسف في مرحلته الأولى ألوية التحرر الوطني في حقبة ما بعد الكولونيالية في أعقاب الحرب العالمية الثانية واعتناقه الأيديولوجيا الشيوعية وإيمانه بالمنهج الماركسي في تثوير الحياة السياسية وانخراطه في الحركات الثورية المدافعة عن حقوق العمال والكادحين والمهمشين في مناداتها بثورية بروليتارية تؤسس لعدالة اجتماعية وحرية سياسية.
ومع ذلك، فإن موقف صاحب “الشيوعي الأخير يدخل الجنة” المرتاب في “الربيع العربي”، والذي عبَّر عنه في مقال تغلفه روح الشعر، وضعَ علامات استفهامٍ حول ما إذا كان “تراجعَ” عن ثوريته القديمة، أو ربما عن انتمائه الراسخ إلى اليسار. فبتاريخ الثاني من أيار (مايو) 2011، وفي ذروة انتفاضات شعبية عارمة في تونس ومصر وليبيا، كتب سعدي يوسف تحت عنوان: “أي ربيع عربي؟”: “الدجاج، وحده ، سيقول: ربيعٌ عربيّ. هل خلَتِ الساحةُ من طفلٍ؟ أعني هل خلت الساحةُ من شخصٍ يقول الحقَّ صُراحاً؟ أيّ ربيعٍ عربيّ هذا؟ نعرف تماماً أن أمراً صدرَ من دائرة أميركيّة معيّنةٍ. وكما حدث في أوكرانيا والبوسنة وكوسوفو إلخ… أريدَ له أن يحدث في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. الفايسبوك يقود الثورة في بلدانٍ لا يملك الناس فيها أن يشتروا خبزَهم اليوميّ! هذا المدقع حتى التلاشي، الأمّيّ، التقيّ… هذا الذي لا يستطيع أن يذوق وجبةً ساخنةً في اليوم. هذا الذي يعيش على الأعشاب والشاي وخبز الحكومة المغشوش. هل يعرف الإنترنت؟ ومَن هؤلاء القادةُ الفتيانُ؟ عيبٌ والله! أحسنتْ مصرُ صنعاً، رئيساً (أعني حسني مبارك) وشعباً… وأحسنتْ تونسُ صُنعاً: سمِعْنا وأطَـعْـنـا. لقد قرأت مصرُ الرسالةَ. والتوانسةُ قرأوا الرسالة. أمّا طرابلس الغرب فإنها تتلقّى الحقيقةَ بالقنابل: معنى الربيع العربيّ”.
وبالعودة إلى كتاب رضا عطية، نجد أنه يؤكد أن تجارب سعدي يوسف في منافيه، عمَّقت شعوره الاغترابي، بفقد الوطن من ناحية من ناحية، ومعاينة تهميش الآخر في المنفى من ناحية ثانية. ويضيف المؤلف أنه بالنظر إلى ما يحفل به شعر سعدي يوسف من تيارات سياسية وثقافية ومجتمعية، نجد أنه بمثابة “دفتر” لتجليات الوعي الجمعي في تمثيله للشخصية العراقية على امتداد ما يناهز ثلثي قرن مرَّ خلالها العراق والعالم بتحولات فارقة. ويقول عطية: “يتبدى بمعاينة تجربة سعدي يوسف أن تشخيص حال اغترابه سيفضي بنا إلى أن ثمة غير مظهر أو غير نوع من الاغتراب عايشَه. صحيح أن إيمانه بالماركسية وإعلائه الانتماء إلى الشيوعية الذي يبدو طاغياً لديه لدرجة أن لا يكف عن وسم نفسه بالشيوعي الأخير، يجعله منتمياً إلى الاغتراب الماركسي” المتفاقم بطبيعة الحال في ظل انحسار الشيوعية. ويرى عطية أنه مع رفض الذات التخلي عن ماركسيتها، فإن ثمة وعياً تشاؤمياً في الآن نفسه بتراجع الماركسية إزاء إقرار الماركسيين أنفسه بذلك، فيقول سعدي: “إريك هوبسباوم يساري، كان منذ الخامسة عشرة عضواً في الحزب الشيوعي الألماني، وظلَّ على مذهبه ثابتاً. لكنه هنا أيضاً يظل مرتدياً مسوحَ المؤرخ، لا بزة المحارب”. ويضيف في القصيدة نفسها المتضمنة في ديوانه “أنا برليني؟”: “التفاؤل صفة السياسي الكاذب. وإريك هوبسباوم، مؤرخ، لا سياسي. إنه شيوعي، بالرنين الأول للكلمة”.
وعلى أية حال، يخلص رضا عطية إلى أن “تجربة سعدي يوسف ثرية في ما تسفر عنه من مقولات الاغتراب وتمظهراته، فالذات لديه تعاني من غير نوع من الاغتراب؛ سواء بمفهومه الماركسي الأيديولوجي، حيث عانت معاناة العمال الكادحين وحملت الحلم الشيوعي الذي بدا متراجعاً مع الزمن، أو الاغتراب بالمفهوم الوجودي حيث تعاني الذات غالباً من وحدتها الوجودية وعزلتها الكونية وما شابَ ذلك الإحساس من حس رومانسي ونزعة تشاؤمية، أو الاغتراب بالمفهوم الهيغلي والنفسي بمعنى إحساس الذات الغالب بانشطارها وتناقضها الكينوني أحياناً”. أما على صعيد مكاني- يقول رضا عطية- فقد ظل الشعور بالاغتراب يلازم الذات سواء في مكانها الأول، أو في مكانها الآخر، فيقول سعدي يوسف في قصيدة مؤرخة في 24 تشرين الأول (أكتوبر) 2015، تضمنها ديوانه “محاولات في العلاقة”: “أن تعيش هنا/ بين من لا يطيقون لونَك/ أو أن تعيش هناك، مستفرداً/ بين من لا يطيقون قولَك/ ذاك الصراط إذاً، هو ما كنتَ تسمع عنه”.
ويرى عطية أن تجربة سعدي يوسف كشفت عن الملامح الثقافية والسمات المميزة للشخصية الجمعية العراقية وما مرت به من تحولات مصيرية كبرى على مدى ثلثي قرن من مناهضتها الإمبريالية في الحقبة ما بعد الكولونيالية إلى الكفاح اليساري المطالب بالحرية وحقوق العمال الكادحين وصولاً إلى تجربة الوقوع تحت الاحتلال الأميركي ونسخ الهوية القومية العراقية وتشرذم العراق.
*عن “الحياة”