كونفدراليات القبائل في المجتمع الطوارقي.. الحب المستحيل وصدام التقاليد مع الحداثة

يختلف تعريف هوية الطوارق حسب السياقات التاريخية والمناطق الجغرافية، أما طوارق مالي فيربطون هويتهم غالبا بأسلوب حياتهم وثقافتهم، فهم سكان الصحراء سواء كانوا من الأمازيغ أو العرب أو الزنوج، من الذين ارتبطوا بهم عبر التاريخ، وتبنوا ثقافتهم ونمط عيشهم، ويتحدث الطوارق اللغة الأمازيغية (لهجة الطماشق) واللغة العربية واللهجة الحسانية، وأيضا بعض اللغات المحلية الأفريقية كالصونراي، ودينيا هم مسلمون سنة يميلون للتصوف.

وفي تقرير كتبه ياسين الكزباري لمجلة الجزيرة، نفى شيخ قبيلة “كل دبلة” محمد تقي الله تحدثه الفرنسية، وقال “نحن لا نتعلم إلا لغة القرآن”، وأضاف “ولكن الفرنسية أيضا قد تفيد، فمثلا إن أراد أحمد (ابن الشيخ) أن يسافر إلى أبيدجان (أكبر وأهم مدن ساحل العاج) فإنه سيحتاج إليها للتواصل مع الناس”، واستدرك “ولكننا لا نرسل أبناءنا إلى البلدان الأجنبية”.

كان الشيخ محمد تقي الله نموذجا حيا لأحد أكثر المجتمعات اعتزازا بتراثه وتقاليده وانضباطا لها، إنه المجتمع الطوارقي.

قبائل بعضها فوق بعض
وكغيره من المجتمعات التي سبق وجودها فكرة الدولة، يتكون المجتمع الطوارقي من قبائل، غير أن مؤسسة القبيلة تميزها خصائص لا توجد لدى كثير من المجتمعات القبلية، وتحدث مدير إذاعة أزواد أحمد البكاي لمجلة الجزيرة، قائلا “ينقسم المجتمع الطوارقي إلى كونفدراليات كبيرة، تتكون كل منها من مجموعة من القبائل، وكل قبيلة تنقسم إلى طبقات على أساس وظيفي”.

وعن الكونفدراليات الموجودة في منطقة أزواد، يضيف البكاي “هناك إيموشاغ أويلمدن أي محاربي أويلمدن، كل السوق (تنطق كلسوك)، كل إينصار، كل أدرار، شامايناس، كل إيغصر، شريفن، كل غزاف، إيدنان، إيفوغاس، تاغاتملت، وغيرها، وتحت كل واحدة من هذه تنضوي عشرات القبائل الفرعية”.

ثم تصنف كل تلك القبائل على أساس وظيفتها الأساسية ضمن الاتحاد، ويشرح أحمد البكاي هذه التصنيفات؛ “فهناك أولا النبلاء، أو إيماجغن بالأمازيغية، وهم القادة السياسيون والإداريون إن أمكن القول”.

وهناك المحاربون أو إيموشاغ، وهم الذين يشكلون في الأساس الجيش الذي يقاتل دفاعا عن البقية، ونجد في مقدمتهم أويلمدن، وأهل العلم والفتوى أو إنسلمن، ووظيفتهم طلب العلم والإفتاء وتعليم أبناء البقية، وفي مقدمتهم كل تاداماكت/كلسوك، والحدادون (ومعهم جميع الحرفيين) ويسمون بالأمازيغية إنهظن، وهناك قبائل تمارس أكثر من وظيفة داخل الكونفدرالية فتجدها تجمع بين العلم والقتال كقبيلة كل إينصار.

الحب المستحيل
ولفهم انعكاس هذه التقسيمات على حياة الناس، يقول إن التقسيمات لها أثر في الواقع، ويتجلى في مواضيع مثل الزواج والمصاهرة؛ “فابن قبيلة الحدادين إذا أراد أن يتزوج لا بد له أن يبحث عن زوجة من قبيلته، ولا يمكن أن يتزوج من ابنة إحدى قبائل النبلاء، والرجل يمكنه الزواج من قبيلته أو قبيلة أدنى”.

وعلى هذا، فالمجتمع الطوارقي طبقي؛ فالنبلاء يلدون النبلاء، وابن الحرفي وإن شارك في الحرب كمقاتل فإنه لن يلد إلا حرفيا، وبسؤال أحمد إن كان يجد في الأمر طبقية وتمييزا مناقضين للدين؛ أجاب “من الناحية الواقعية نجد هذه الممارسات في العالم كله، فالوزير لا يزوج ابنته إلا لابن الوزير أو مسؤول أو رجل أعمال ذي نفوذ مثله، والطبيب لا يزوج ابنته إلا لطبيب أو مهندس أو صاحب وظيفة لها سمعة مقاربة لسمعة وظيفته، وهكذا فالناس جلهم يتعاملون مع موضوع الزواج بمعيار السمعة والنفوذ”.

اعلان
السمعة وأمجاد الأجداد وأشجار الأنساب أشياء لها قيمة كبيرة لدى الإنسان الطوارقي، وغالبا ما تجده يحفظ أسماء أجداده صعودا إلى الجد الخامس أو العاشر.

وتحدث تاجر عربي من قبيلة كنتة لمجلة الجزيرة بكل فخر عن قبيلته، وعن دورها في نشر الإسلام، ثم عدد أسماء أجداده ومناقبهم، وقال “نحن لدينا شجرة نسبنا وصولا إلى جدنا الأكبر، ولا أحد يستطيع أن يدعي انتسابه لقبيلتنا”.

وإن كانت المصاهرات بين القبائل الطوارقية نفسها تحددها قواعد ذات طابع طبقي، فإنها بين الطوارق وباقي الإثنيات أكثر صرامة، وعن ذلك يقول أحمد البكاي “بالنسبة للمصاهرات بين الطوارق والعرب فهي موجودة في الشمال، حيث كيدال وآظا وتيلمسي، ولكنها في الجنوب حيث غاوة وتمبكتو وماناكا نادرة، ويرجع السبب إلى أن طوارق الشمال ثقافتهم الشرعية أقوى، حيث إن قبيلة كلسوك المختصة بالعلم توجد هناك، وكذلك لأنهم أكثر احتكاكا بالدول العربية، ولكن الوضع يتغير مع الوقت، حيث الشباب اليوم أكثر انفتاحا وأكثر اختلاطا ببعضهم البعض، خصوصا أولئك الذين التقوا في الملاجئ في الدول المجاورة”.

وأما عن المصاهرات مع الإثنيات الأفريقية كالصونغاي، فيقول أحمد “في الجنوب حيث تمبكتو حصل تداخل بين العرب والصونغاي أكثر من أي مكان آخر، وهذا بسبب قبيلة كنتة، وفي الشمال حصل أيضا، خصوصا في قبيلة كلسوك، حيث الوعي الشرعي أعلى، أما في كيدال وآظا فقد قام الجيش المالي بعد ثورة 1963 بإجبار كثير من الطوارق على تزويج بناتهم بجنود من الجيش، الذين كانوا من إثنية البامبارا تحديدا، ونشأ جيل متداخل نتيجة هذه الزيجات”.

تقاليد حداثية
لكن في مقابل هذه التقاليد الصارمة -التي قد تبدو “رجعية”- فإن المجتمع الطوارقي يمتاز بتقاليد “حداثية”، خاصة في ما يتعلق بوضعية المرأة، وهي خصائص قد تحسدها عليها باقي النساء في العالم العربي.

أهم تلك الخصائص هي أن المجتمع الطوارقي لا يعرف التعدد، وحين سألت سيدي أحمد البكاي (تاجر طوارقي) عن شروط الزواج من المرأة الطوارقية، قال “أولا، نقول له: لا سابقة ولا لاحقة، وبالنسبة لمعظم النساء فهذا الشرط كاف ليوافقن على الزواج، كما أن للمرأة الطوارقية الحق في تطليق زوجها، وإذا حصل ذلك فإنها تحتفظ بالأبناء وممتلكات الأسرة، وبينما يغطي الرجال وجوههم معظم الوقت فإن نساءهم لا يفعلن ذلك، وفضلا عن حقها في الموافقة أو رفض الخاطب فإنه يحق لها أيضا أن تخطب عريسها، والمرأة عندنا أول من ينام وآخر من يستيقظ”، ثم علق مازحا “وبالتالي فإن المرأة الطوارقية معفاة من عناء تأسيس جمعيات حقوق المرأة والمساواة مع الرجل”.

وإذ يفسر البعض هذه المزايا بأنها مقابل طبيعي لنمط الحياة الصحراوية الصعب الذي تتحمله، فإن البعض الآخر يرى أنها من آثار المجتمع الأمومي الذي كان يعيش وفقه مجتمع الطوارق قبل أن يتحول إلى مجتمع أبوي متأثرا بالثقافات التي احتك بها، وقد يبدو هذا صحيحا إن علمنا أن مؤسسة عاصمة الطوارق التاريخية تمبكتو كانت امرأة، وأن مؤسسة مملكة الهكار الطوارقية كانت امرأة أيضا وتدعى تين هينان، وأن الذي يتسلم سلطة زعيم قبائل الطوارق “الأمونوكال” حين يتوفى من دون أن يترك ابنا ليس شقيقه بل ابن أخته.

العالم ليس قرية صغيرة
ورغم المحافظة الشديدة التي تطبع المجتمع الطوارقي، فإن التغير والتحول سنة لا مفر منها، وعن ذلك تحدث شيندوك ولد النجيم (شيخ قبيلة أولاد النجيم) لمجلة الجزيرة، قائلا “الوضع الاجتماعي مرتبط بالوضع الاقتصادي، ولهذا فإنه منذ تدهور وضع الطوارق الاقتصادي مع دخول الاستعمار، ثم دخول الجيش المالي، ثم جفاف عامي 1973 و1982، فإن بناهم الاجتماعية تتأثر سلبا بشكل مستمر”.

وأضاف “لنأخذ حالتي مثالا، فأنا شيخ قبيلة عدد أفرادها المستقرين في المنطقة نحو 1500 فرد، وكشيخ قبيلة فإن لدي امتيازات ولدي واجبات تجاه أبناء قبيلتي، ولكنني سنة 2013 خرجت لاجئا إلى الجزائر، فكيف يمكنني القيام بواجباتي تجاههم وأنا نفسي لاجئ؟ وإن لم أقم بواجبي تجاههم فهل سيكون هناك سبب لأحصل على امتيازات معينة أو أدير شؤون أبناء القبيلة؟ بالطبع لا”.

وفي السياق نفسه، يستطرد “أغلب الطوارق رحل، لكن الجفاف أجبرهم على الاستقرار”. ويضيف “في سنة 1950 كان الطوارق والعرب في تمبكتو يشكلون 3 أرباع السكان ونصف سكان غاوة، لكنهم صاروا اليوم بضع عائلات فقط، وهذه العوامل -بالإضافة إلى الانفتاح والإعلام- كلها تغير باستمرار واقع الطوارق الاجتماعي ونمط حياتهم”. وقد كانت زوجة شيندوك أميركية، وكانت أول من أدخل الحاسوب إلى تمبكتو وأرسل بريدا إلكترونيا منها، مؤكدا أن العالم صار قرية صغيرة.

ولكن كثيرا من الطوارق -ورغم كل علوم الاجتماع والاقتصاد- عازمون على مصارعة الزمن، إذ لا يزالون يستعملون أسماء أمازيغية فريدة، من قبيل شيندوك، وإيفارورن، وآلوش، وماتاهيل رغم احتكاكهم بالثقافة العربية قرونا طويلة.

ولا يزال التاجر منهم يخبرك عن سعر البضاعة بالأوقية، قائلا “ألف”، فيما يكون عليك أن تدفع له بالفرانك 5 آلاف، لأن العملة لديهم لا تزال الأوقية، وسعرها لا يزال 5 فرانكات، رغم أن العمل بالأوقية انتهى رسميا مع دخول فرنسا قبل أكثر من 100عام، مبرهنين بكل ذلك على أن العالم لم يصبح بعد قرية صغيرة.