وفي تقريره الذي نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، قال الكاتب ديفيد هادجو إنه في العاشر من أغسطس/آب 1920، ذهب بيري برادفورد ومامي سميث، وهما موسيقيان من أصل أفريقي، إلى ستوديو في نيويورك وغيّرا مسار تاريخ الموسيقى. قامت سميث، التي كانت آنذاك مغنية ناجحة بشكل متواضع من سينسيناتي، بتسجيل أغنية جديدة لـ برادفورد بعنوان “كرايزي بلوز”.
كانت الأغنية بمثابة صرخة صاخبة غاضبة من قبل امرأة دُفعت إلى حد الجنون بسبب سوء المعاملة. وكانت الأغنية موجهة للمستمعين السود في جميع أنحاء البلاد، الذين دمرتهم انتهاكات جماعات الكراهية العرقية والشرطة والقوات العسكرية في العام السابق، خلال ما يُعرف “بالصيف الأحمر” المشؤوم لعام 1919.
وذكر الكاتب أن “كرايزي بلوز” كانت أغنية ناجحة بنسب لا مثيل لها وتركت تأثيرا عميقا في المستمعين. ففي غضون شهر من صدورها، بيعت حوالي 75 ألف نسخة منها ووصلت المبيعات إلى أكثر من مليوني نسخة بمرور الوقت. لقد ساهمت الأغنية في تأسيس موسيقى البلوز كفن شعبي ومهدت الطريق لقرن من التعبير عن مشاعر السود في جوهر الموسيقى الأميركية المتأجج.
كانت أسطوانة “كرايزي بلوز” قادرة على قول أشياء نادرا ما تُسمع في العروض العامة. في الظاهر، تتناول الأغنية قصة امرأة هجرها زوجها، ولكن عند الاستماع إليها بإمعان، يتبين أن الأغنية تتحدث عن امرأة قتلت شريكها الذي يسيء معاملتها.
باعتبارها من البلوز، وظفت الأغنية لغة الصراع الداخلي لسرد قصة عنف وقهر عرفها الأميركيون السود أيضا خارج المنزل، في عالم من الاضطهاد الذي يسلطه عليهم البيض.
وفي الواقع، تعتمد موسيقى البلوز على الرموز في مستويات متعددة، حيث إن ترجمة “رجلي” أو “الرجل” يُقصد بها “الرجل الأبيض” أو “الأشخاص البيض”.
وأوضح الكاتب أن سميث، ذات الصوت النسائي المنخفض المصحوب بحس درامي، قد جلبت الوضوح والبراعة للكلمات التي قد يعتبرها مستمعو اليوم تقليدية فقط لأنه حدث تكرارها ومحاكاتها بأشكال لا حصر لها على مدار القرن الماضي “لا أستطيع النوم ليلا/ لا أستطيع تناول الطعام/ لأن الرجل الذي أحبه/ يسيء معاملتي”.
وبسبب يأسها الذي دفعها إلى فقدان ركيزتها، تتحول المغنية إلى العنف ضد مضطهدها كحل لمأساتها، ويتجلى ذلك في الكورس الذي يعطي الأغنية عنوانها “الآن الطبيب سيفعل كل ما في وسعه / لكن ما ستحتاج إليه هو حانوتي/ لم يكن لدي أي شيء غير الأخبار السيئة/ الآن أشعر بالحزن الدافع للجنون”.
حقيقة أن امرأة أدت هذه الأغنية جعلتها رسالة قوية للغاية للاحتجاج على قوى السلطة، سواء كانت ذكورية أو بيضاء، منزلية أو اجتماعية سياسية.
بفضل أغنية “كرايزي بلوز” فتحت مامي سميث الباب أمام موجة من المطربات اللواتي يتمتعن بصوت قوي، واللاتي تحدين تقاليد اللباقة الشديدة لجعل البلوز ظاهرة شائعة في عشرينيات القرن الماضي. أصبح البلوز بذلك هوسا عاما، حيث يستطيع المستمعون من كل لون شراء أسطوانات الموسيقى والاستماع إليها في المنزل على أنها “أسطوانات عرقية”.
كان النموذج الموسيقي مرتبطا في البداية بالنساء بشكل حصري مثل سميث ومارايني وإثيل ووترز وبيسي سميث. سجلت هؤلاء النسوة، إلى جانب العديد من المغنيات الأخريات، مئات الأسطوانات التي بيعت ملايين النسخ منها على مدار أكثر من عقد، وذلك قبل وقت طويل من دخول رجل البلوز روبرت جونسون إلى ستوديو التسجيل لأول مرة، في نوفمبر/تشرين الثاني 1936.
قبل “كرايزي بلوز” كانت بعض أسطوانات البلوز تحتوي على أغان من مختلف الأنواع مع كلمة “البلوز” في العنوان، ولكن جميعها تقريبا كانت تسجيلات لآلات موسيقية غالبا ما يعزف عليها الموسيقيون البيض. كان الشعور بالصدق عند التعبير عن مشاعر السود جزءًا من سر نجاح “كرايزي بلوز”. ولكن حتى نهاية الأغنية المزعجة والقوية كان لها دور في نجاح الأغنية، حيث توظف سميث التعابير المجازية لوصف الظروف المظلمة، قائلة “هناك تغيير في المحيط/ تغيير في أعماق البحر الأزرق”.
وسُجلت أغنية “كرايزي بلوز” في أعقاب أعمال العنف المروعة ضد الأميركيين من أصل أفريقي، ولم تكن فقط منفذا للسخط في مواجهة “الأوقات العصيبة”. كانت أيضا صرخة تحد باللغة الموسيقية السوداء ودعوة إلى الإنصاف من خلال العنف المتبادل.
بعد 100 عام، ظلت موسيقى البلوز تمثل جوهر الموسيقى الأميركية، من موسيقى روك آند رول، وموسيقى الريف التي تُعزف على ثلاثة أوتار، إلى هيب هوب، آر آند بي المعاصرة.
منذ أيامها الأولى، قدمت موسيقى البلوز العديد من الأشياء في نفس الوقت وأحيانا بطريقة متناقضة، فكانت منفذا للغضب ووسيلة للتخلص منه. ورغم أنه بالكاد اختفى العنف والكراهية من المشهد الأميركي، فإن موسيقى البلوز لم تختف.