حسب الرواية الغربية التقليدية، كانت أوروبا خلال العصور الوسطى تخوض الحروب وتتاجر وتستكشف وتتطور، في وقت كانت فيه قارة أفريقيا تعيش في تخلف “ودون تاريخ”. ولكن المؤرخ فرانسوا كزافييه فوفيل كشف عكس ذلك، معتبرا أن الثقافات الأفريقية العظيمة ازدهرت خلال فترة العصور الوسطى.
في مقاله الذي نشره موقع هيستوري إكسترا (History Extra) البريطاني، قال الكاتب والمؤرخ وعالم الآثار الفرنسي فرانسوا كزافييه فوفيل إنه في 27 يوليو/تموز 2007 أشار الرئيس الفرنسي آنذاك نيكولا ساركوزي في خطاب ألقاه أمام 1300 ضيف في جامعة “الشيخ أنتا ديوب” في العاصمة السنغالية دكار، خلال زيارة لتعزيز العلاقات بين فرنسا والقارة الأفريقية، إلى أن “مأساة أفريقيا تتمثّل في حقيقة أن الأفارقة لم يدخلوا التاريخ بالكامل.. ولم يضعوا أنفسهم قط على طريق المستقبل”.
كان فوفيل يقيم في إثيوبيا في ذلك الوقت، وشهد ردود الأفعال الهائلة التي أثارها خطاب ساركوزي في أفريقيا، وبين صفوف المؤرخين وبين الشتات الأفريقي. وقد قرر العديد من زملائه الأكاديميين الرد على خطاب ساركوزي لإثبات أنه كان مخطئا عندما قال إن أفريقيا لا تمتلك تاريخا.
الحقائق الضائعة
أشار الكاتب إلى أنه أدرك أن المشكلة لم تكن مع ساركوزي شخصيا، ولا حتى مع حقيقة أنه تجرأ على إلقاء هذا الخطاب، بل في حقيقة أن المجتمع تقبل ما قيل. وعزى الكاتب ذلك إلى غياب الكتب التي تتناول التاريخ الأفريقي عن رفوف المكتبات ومحلات بيع الكتب، مما يعني أن مثل هذه النظرة الشائعة عن أفريقيا لم تكن خطأ السياسيين وإنما خطأ المؤرخين.
ترتبط النظرة الدونية لماضي أفريقيا باعتباره عصرا مظلما بلا تاريخ ارتباطا وثيقا بإرث العبودية، فهي جزء من أيديولوجيا تطورت في العالم الغربي منذ القرن السادس عشر وما بعده، عندما بدأت القوى “الغربية المسيحية” في تجارة العبيد مع أفريقيا، وبين أفريقيا والعالم الجديد (مثلث التجارة).
أوضح الكاتب أن هذه التجارة خلقت مفهوما عن الأفارقة باعتبارهم غير بشريين تقريبا، وشعوبا ومجتمعات ليس لها تاريخ. ورغم إلغاء تجارة الرق والعبودية، فإن هذه الأيديولوجية لا تزال إلى الآن راسخة في عقلية العديد من الناس في مختلف أنحاء العالم.
ولأن التاريخ الأفريقي يمثّل قضية حساسة، فإن الكتاب الذي ألّفه فوفيل ردا على خطاب ساركوزي بعنوان “وحيد القرن الذهبي.. تاريخ العصور الوسطى الأفريقية”، قد يكون محل بعض الانتقادات. ومع ذلك، من المفيد تطبيق مصطلح العصور الوسطى على أفريقيا. فهو يساعدنا على إعادة النظر في هذه الفترة الزمنية باعتبارها أكثر شمولا واتساعا وليست مجرد فترة من التاريخ الأوروبي.
تمثل العصور الوسطى جزءًا من التاريخ العالمي، يشمل حضارات البحر المتوسط والإمبراطورية البيزنطية والعالم الإسلامي. وقد شهدت العصور الوسطى تلاقح حضارات هذه المناطق. وإذا فهمنا الأمور من هذه الناحية، فإن ذلك سيساعدنا على رؤية أوروبا المسيحية في ذلك الوقت باعتبارها مجرد جزء من عالم القرون الوسطى.
الخروج من الظلام
يُقرّ المؤرخ الفرنسي بأن البحث في التاريخ الأفريقي وكتابته يمثل تحديا من نواح عديدة. فعلى سبيل المثال، تعد المصادر المكتوبة حول التاريخ الأفريقي قليلة مقارنة بالمصادر التي تتحدث عن أوروبا الغربية المسيحية أو العالم الإسلامي. ويرجع ذلك جزئيا إلى أن العديد من المجتمعات الأفريقية لم تشعر بالحاجة إلى توثيق تاريخها، لذلك يتعين على المؤرخين في العديد من المناطق اللجوء إلى الوثائق المكتوبة التي أُنشئت خارج تلك المجتمعات.
كما يتعين عليهم استخدام أنواع أخرى من المصادر، خاصة المصادر ذات الطابع الأثري. ويشمل ذلك المواقع الأثرية المعروفة منها وغير المعروفة، بالإضافة إلى القطع الأثرية المأخوذة من هذه المواقع. يمكننا أيضا العمل على الفن الصخري واللسانيات المقارنة والشهادات الشفوية والتقاليد.
إن التحدي الذي يواجهه المؤرخون الأفارقة بالعمل مع الأدلة المجزأة، يختلف تماما عن التحدي الذي يواجهه مؤرخو تاريخ أوروبا الغربية في العصور الوسطى أو المجتمعات الحديثة.
رغم الطبيعة المجزأة للأدلة المتاحة لنا اليوم، من الممكن تتبع اتجاهات أوسع نطاقا في تاريخ أفريقيا العصور الوسطى. وتمتعت العديد من مناطق القارة، رغم عدم ارتباطها بعضها ببعض، بنمط العلاقات نفسه مع العالم الخارجي. وقد استند الكثير منها إلى التجارة الإسلامية التي تأسست في القرن السابع أو الثامن بعد الميلاد. يمكننا تتبع رحلات المسافرين مثل الأمازيغ والعرب والقادمين من مناطق أكثر تنوعا مثل مصر وبلاد فارس والهند إلى مدن أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
أدت هذه العلاقات التجارية إلى خلق تغييرات في جميع أنحاء القارة في مختلف جوانب الحياة، بدءا من الأيديولوجية السياسية والأنظمة القضائية وصولا إلى أنماط الهندسة المعمارية. وقد ارتبطت العديد من هذه التغييرات بالإسلام الذي لا يمثل دينا فحسب، بل نظاما قانونيا كاملا. وقد ازدهرت الممالك الإسلامية في السنغال ومالي والتشاد وإثيوبيا والمناطق المحيطة بها في القرنين العاشر والحادي عشر الميلادي.
وأشار الكاتب إلى أن هذه القصة لا تتعلق فقط باعتماد الأفارقة على ثقافات إسلامية، بل إنها تتعلق أيضا بتكيفهم مع هذه الثقافة، وهي عملية يمكننا ملاحظتها بوضوح في الأشكال المحلية المميزة جدا للهندسة المعمارية الإسلامية في أجزاء مختلفة من القارة. لذا فإن هذه العلاقة عن بعد بين البلدان الأفريقية وبقية العالم هي قصة اعتماد وتكيف مع الأفكار والمنتجات الخارجية.
السمو والغموض
مثلت العصور الوسطى حقبة ذهبية من الحضارات العظيمة. فعلى سبيل المثال، لم تكن مقديشو خلال العصور الوسطى (والتي تمثل في الوقت الراهن عاصمة دولة الصومال الحديثة) مدينة معقدة مزقتها الحرب مثل ما هي عليه اليوم، بل كانت تمثل منطقة سلمية للتجارة والتعايش بين مختلف الديانات والخلفيات العرقية.
وأعرب الكاتب عن إعجابه بمملكة مالي، التي تأسست في القرن الثالث عشر تقريبا وسقطت في حوالي القرن الخامس عشر. وعلى الرغم من أن بداية تلك الفترة ونهايتها لم توثق جيدا، فإننا نعرف قدرا كبيرا مما حدث في الفترة الفاصلة بينهما لأننا محظوظون بما يكفي لوجود عدد من الشهادات الهائلة من المسافرين والمؤرخين العرب. ففي عام 1324، مرّ السلطان المالي منسا موسى عبر مصر في رحلة حج إلى مدينتي مكة المكرمة والمدينة المنورة، وتوقف في القاهرة لعدة أسابيع.
وأورد المؤرخ الفرنسي “نحن نعرف عن هذا السلطان الكثير لأنه بعد حوالي 25 عاما، أجرى المؤرخ العربي شهاب العمري مقابلات مع أشخاص التقوا بالسلطان المالي. بفضل عمله، نحن قادرون على قراءة وصف حساس للغاية لشخصية السلطان وأفعاله كحاكم، بالإضافة إلى وثائق نادرة عنه وعن مملكته”.
يعد ميناء عيذاب، الذي يعود إلى القرون الوسطى، من بين أفضل الأماكن التي يمكنك زيارتها، وهو يقع اليوم في منطقة مثلث حلايب المتنازع عليها من قبل مصر والسودان على ساحل البحر الأحمر. مع ذلك، كان الميناء في العصور الوسطى مكانا تلتقي فيه مجتمعات مختلفة، من بينهم العرب واليهود والهنود والإثيوبيون.
يقول فوفيل إنه جرى تداول الذهب والعبيد شمالا، وذهب الملح جنوبا، ووصف العرب أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بأنها “السودان” أو أرض السود، وفي كل فصول الكتاب تقريبا هناك إشارة إلى التجار العرب ورحلاتهم في “السودان”.
ورغم أن مؤلف الكتاب بدا متحاملا على العرب الذين اعتبرهم مستعمري القارة السمراء قبل الأوروبيين، فقد أشاد باللغة العربية التي جلبوها لأفريقيا باعتبارها لغة عالمية فتحت فرصا تجارية وثقافية واسعة.
أبعاد جديدة
قال الكاتب إن هذه ليست سوى بعض القصص التي تتناول تاريخ أفريقيا في العصور الوسطى، مشيرا إلى أن هدفه من تأليف هذا الكتاب هو استكشاف مختلف أبعاد التاريخ الأفريقي، والمصادر والأساليب المختلفة، ودعوة المؤرخين الآخرين لكتابة قصص أخرى وتشجيع القراء على قراءة المزيد عنها. إلى حد الآن، لا يزال هناك العديد من المجالات التي يجب استكشافها، والعديد من العمل الذي يجب القيام به لاستعادة ماضي أفريقيا.
وذكر الكاتب أن التاريخ يجب أن يحظى باهتمام الجميع. فمن المفيد، بالطبع، للمجتمعات والأمم الأفريقية أن يكون لديها تاريخ لتسرده على الصعيد المحلي والعالمي، لأن أفريقيا غالبا ما يُنظر إليها على أنها أرض المآسي على غرار الأوبئة والجفاف والمجاعات والحروب والحكومات الفاسدة، حيث يُنظر إلى شعوبها على أنهم مجرد ضحايا.
وأكد الكاتب أن “وجهة النظر هذه تغيرت للأفضل في العقود الأخيرة. لكن ما أجده لافتا هو أن العديد من الأشخاص خارج القارة، حتى أولئك المتعلمين جيدا، يحبون التفكير في الأفارقة كأشخاص متجذرين في الطبيعة أكثر من الثقافة”.
ويمكن ملاحظة اللمسة الغربية للأفلام الوثائقية التي تسلط الضوء على الحياة البرية الأفريقية، التي تغيب عنها الشخصيات الأفريقية تقريبا بشكل تام. في المقابل، يعلمنا التاريخ درسا مختلفا، فهو يُظهر الأفارقة الذين كانوا ملوكا ودبلوماسيين وتجارا ورجال دين ومعماريين شيّدوا معالم لا تزال قائمة إلى اليوم ومفتوحة أمام الزوار”، بحسب المؤرخ الفرنسي.
وخلص الكاتب إلى أن العالم يحتاج إلى تغيير طريقة طرح التاريخ العالمي. نحن بحاجة إلى أن نفهم أن المجتمعات الأفريقية كانت دائما جزءا فعالا في العالم. لقد كان الأفارقة دائما شركاء اقتصاديين ومنافسين وحلفاء في مجتمعات أخرى. كانت المجتمعات الأفريقية في العصور الوسطى مشاركة بالفعل في محادثة سياسية واقتصادية وفكرية نابضة بالحياة، محادثة لا يزال بإمكاننا سماعها اليوم، إذا أنصتنا بإمعان.