لم يكن كورونا مجرد فيروس ليحسم أمره علميا فقط بل كان أمرا جللا أصاب العالم بالهلع والفوبيا وأحدث شللا تاما للحركة وأضر بالاقتصاد وطال أثره الحياة العامة والخاصة، لذلك تدخل المفكرون في كل أنحاء العالم للحديث في الموضوع وآثاره ومحاولة أرضنة هذا الوباء بعد أن ذهبت به جماعات إلى الخرافات.
قرأ كثيرون مقالات في مراجعات الجائحة لكثيرين بينهم المفكر الأميركي نعوم تشومسكي والمنظر الفرنسي جاك أتالي والفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك والفرنسيان إدغار موران وميشال أونفري وغيرهم، وتحدث الفيلسوف الألماني يروغن هابرماس عن ضرورة تدبرها فكريا.
وضمن هذا الاهتمام بالجائحة فكريا، ظهر كتاب جديد عن منشورات المتوسط بميلانو بعنوان “أجراس الوباء – الأناركية الاصطناعية وإعادة تكوين العالم” جمع عددا من المفكرين والمبدعين العرب وغير العرب لمناقشة ظاهرة الوباء الذي اكتسح العالم، وتكفل بتحرير هذا الكتاب الباحث والشاعر السوري نوري الجراح.
ويقدم الجراح الكتاب بصفته مشروعا مهد له بمقال تحريضي “أبناء نوح وطوفان الوباء” قائلا “كتب على أمل أن يفتح الباب لمحاولة تفاعل فكري -عربية وأوروبية جادة- تهدف إلى خلق نوع من التواصل بين مفكرين ومبدعين عرب ونظراء لهم في أوروبا أولا، وفي أطراف أخرى من العالم، انطلاقا من وعي يرى وجود أهمية استثنائية لفتح مجال فكري آخر بين العرب والأوروبيين في ظلال اللحظة الحاضرة الكئيبة التي أخذ يمليها علينا انتشار وباء مهول، لا تزال تداعياته الكارثية وأثره الدماري على مستقبل البشر في الطالع والمواجهة معه مفتوحة على احتمالات كارثية”.
هكذا يأخذنا نوري الجراح إلى سؤال مزمن حول دور المثقف ولكن هذه المرة عن دور مختلف لم يسبق أن طولب به المثقف العربي، وهو المساهمة الفكرية مع غيره من مفكري الكون في تدبر هذه الكارثة ومحاولة إنقاذ العالم من هذا الوباء والتصدي للسياسات الارتجالية التي ينتهجها أصحاب القرار.
يقول “سـبب أسـاسي يقـف وراء مثـل هـذه الدعـوة إلى التواصـل والحـوار مـع المثقفين الأوروبيين، هو ذلك الشعور المتجدد بالحاجة إلى خلق جدار أخلاقي من نوع فكري وأدبي ضميري، يقف في مواجهة هرطقات السياسيين المغامرين عبر قراراتهم المتخبطة بمصير البشر”.
ونتساءل ونحن نقرأ الكتاب، هل إقدام الكاتب على جمع المثقف العربي بالأوروبي الغربي ناجم عن لحظة العجز التي يعيشها الفكر الغربي في مواجهة الوباء فتساوى الفكران أو أن الكاتب والمحرر يؤمنان بأن المثقف العربي بإمكانه استعادة مكانته باعتباره منتجا للمعرفة وللمعنى وبإمكانه أيضا أن يقف بندية في حفلة العصف الذهني لتدبر مصير البشر الذي صار واحدا؟
كارثة صحية في قبضة السياسة
توقفت معظم المشاركات عند الانعكاسات السياسية لجائحة كورونا والأداء السياسي للدول وعلاقتها بشعوبها أثناء الجائحة، فيقول التونسي أبو بكر العيادي في قراءته “نحو أممية فكرية أخلاقية” إن الحكام أظهروا “قدرة غير مسبوقة على فرض قراراتهم ضد منطق الأسواق المالية والمجموعات الكبرى ومصالح المؤسسات، وحتى ضد حقوق المواطنين”.
ويضيف أنها مفارقة إذا ما قورنت بما كان سائدا حتى تلك اللحظة الفارقة، ونعني به عجز الدول أمام الأزمة المناخية، وعجزها عن كبح جماح النيوليبرالية والقضاء على التفاوت في توزيع الثروات، أي أن الفرضية التي تقول إن السياسة لا تستطيع شيئا أمام منطق الفصل بين التمايز الوظيفي اتضح أنها خاطئة.
وبعد محاولة رصد وتحليل ما يحصل في العالم ينتهي إلى أنه “لا أحد يستطيع أن يتنبأ بما سيكون عليه العالم بعد زوال الوباء” ولكنه يثق في الفعل أكثر من العلم، أي الفعل السياسي الإستراتيجي من خلال إصلاح عميق للمؤسسات وأساليب العمل الاقتصادي، وبناء نظام اجتماعي، لا يكون قانونه الأوحد البحث عن المصلحة الأنانية والشغف الذاتي بالربح.
ليس بعيدا عن تفاؤل العيادي نجد أطروحة المفكر أحمد بقاوي أكثر تفصيلا ووضوحا والتي وردت تحت عنوان “يقظة الضمير” حيث فكك فيها الظاهرة فكريا وبيّن كيف أن كورونا كان فضيحة للأنظمة الرأسمالية وأثبت أن دول العولمة اليوم صارت “عاجزة عن الحفاظ على حياة الإنسان من خطر فيروس قاتل، عجزا عبر عنه واقع المستشفيات، ما يؤكد بأن مكانة الإنسان في عالم العولمة لم تعد تعني شيئا”.
وحاول بقاوي أن يعطي مفهوما جديدا للعالم الذي تحول في نظره إلى “عالم سلطة أخطبوطية ذات عدة رؤوس، ورأسها الأساسي هو الرأسمال الذي يتحكم في البشرية، من وراء كوة البنك، الذي لم يعد له وطن محدد، ولا مجال حيوي واحد لممارسة سلطته”.
وناقش بقاوي سيناريوهات محتملة بعد كورونا، بينها ظهور مد يساري ضد الرأسمالية، بعيدا عن التجربة الشيوعية السابقة وتأكيد الوعي المناهض لبقايا الدكتاتوريات الأيديولجية كالصين وسوريا وكوريا الشمالية وإيران، وثانيا العودة إلى الدين الشعبي ذي الماهية الأخلاقية، وأخيرا “تأكيد سلطة العلم باتحاده مع الطبيعة الأخلاقية الإنسانية له، ففصل العلم عن سعادة الإنسان، حسب رأيه، من أكبر الجرائم ضد الإنسانية”.
هذا الميل نحو رسم مستقبل يساري جديد للبشرية يمكن لمسه في مساهمة الناقدة والروائية العراقية لطفية الدليمي “إعادة تشكيل العالم” فالكاتبة تستعيد مصطلح “موت الرأسمالية” لترسم توقعاتها للمستقبل، ورغم إيمانها بأننا نعيش حالة من الخيال العلمي التي ستتعاظم في المستقبل نحو تكريس الفردانية فإنها ترى في تنامي الشعبوية السياسية مبشرا بنهاية الرأسمالية.
تقول “ثمة شعبوية سائدة اليوم أعلى شأنها صوت الراديكالية اليسارية ومنظرو أحزاب اليسار الجديد الذين اندفعوا في ترجيح كفة الخطاب الأيديولوجي على حساب الحقائق الراسخة على أرض الواقع، متخذين من الأزمات الدورية في الرأسمالية شاهدة على مصداقيتهم، مع أن هذه الأزمات ليست أعراضا سريرية منذرة باقتراب الموت، بقدر ما هي ملامح ملازمة لطبيعة آليات عمل الرأسمالية”.
وتنتهي في تحليلها لحال الأزمة أن النيوليبرالية ستنتهي لكن “السياسات الرأسمالية التي سيعاد تكييفها إلى حد، تبلغ معه مرتبة الرأسمالية التشاركية”.
وتؤكد الناقدة أن الجائحة سترسخ قيمة العلم وتعلي من شأنه “باعتباره ممارسة بشرية أبرز وجوهها الوجه البراغماتي، الساعي إلى تحسين حياة الإنسان على الأرض”.
ولكنها تزيد على التوقعات السياسية توقعات ثورية في عالم التعليم والبيئة كرقمنة البرامج التعليمية وتحويل الاهتمام بالبرامج البيئية من خطاب الترف إلى أسئلة الضرورة. وتشير إلى أن الأدب يتأثر أيضا وهو ما أنتج ما يسمى بالرواية البيئية التي تحظى باهتمام كبير الآن في العالم.
أما الكاتب إبراهيم الجبين فقد أكد في مساهمته التي جاءت تحت عنوان “البيت/الكهف نهاية خلاص الفرد وانتصار مناعة القطيع وقلق الفكر”، إلى أن العالم قد تغير ولا ينتظره تغيير.
يقول الجبين “لقد تغير العالم، غيّره الخطر، وغيّره أنه أصبح يعرف الجدوى الحقيقية من الأسوار التي بناها حول نطاقاته الضيقة، وأنها لن تقدم أو تؤخر حين يدنو الفناء التالي”.
واعتبر أن الطبيعة تصوب كل شيء وهي التي أعادت الكرة إلى ملعب الفكر، لتدفع الإنسان إلى إعادة إنتاج خطابه وتصوراته وابتكار فلسفات كونية جديدة قادرة على أن تعيش بين جميع البشر، وتوحيد جهود البشرية نحو النجاة.
وكأغلب المتدخلين يرى خلدون الشمعة أن العولمة تحتضر ويربط ذلك بواقع النظام السوري، يقول “توضح لنا المقتلة السورية المنسية عولميا في صدامها مع النظام السائد أن النزاع ليس مع الرأسمال الذي تحتاج إليه البلاد، بل مع الجائحة الإنسانية السابقة على الجائحة المرضية.. هذه الجائحة المدمرة للبشر والحجر التي تمثل أكبر ظاهرة إنسانية وسياسية في القرن الواحد والعشرين تثير قدرا غير قليل من الاستغراب”.
ويتساءل لماذا يتجاهل بعض مناهضي العولمة، بمحمولها المعرفي الديمقراطي، مقتلة راح ضحيتها ملايين السوريين؟ فالجائحة في الحالة السورية لا تعني شيئا مقارنة بمهرجان القتل الذي يمارس على الشعب السوري منذ سنة 2011.
إن النزعة إلى البحث عن موقع لليسار عند المتدخلين جعلت الكاتب ممدوح فراج النابي يتحدث عن اشتراكية المرض فالكورونا، حسب رأيه، قد حققت العدالة في توزعها بين الناس ولم تميز بين فقير وغني والمواطن والمسؤول، واستشهد بدخول بوريس جونسون وأنجيلا ميركل الحجر.
الكورونا والقطيعة التاريخية
يجمع كل المتدخلين على أن الكورونا ستكون قطيعة تاريخية ولكن هذه القطيعة لا تبدو ملامحها واضحة لأحد، وسيتغير العالم لكن لا أحد يعلم كيف سيتغير، وستموت العولمة كما ردد الجميع لكن كيف ستموت وما البديل؟
الكاتب ممدوح فراج النابي يقترح الفردية بديلا، وتمثلت أساسا في جشع رجال الأعمال والبحث في تجميع المال بشكل مخزٍ من البشر، والشيء نفسه مع الأنظمة حيث أبانت الجائحة قصور الاتحادات الاقتصادية والسياسية كالاتحاد الأوروبي الذي ترك إيطاليا مثلا تتخبط في أزمتها وحيدة.
يقول “مثلما أن الفيروس غير مرئي، فإن ترتيبات ما بعد الجائحة أيضا غير مرئية، خاصة أن الأزمة كما وصفها الأمين العام للأمم المتحدة بقوله إن كورونا هو أعظم اختبار واجهناه معا منذ تشكيل الأمم المتحدة، وهو ما دفعه إلى تقديم خطة لمعالجة الآثار الاجتماعية والاقتصادية المدمرة لكوفيد-19”.
بؤس الفكر وانتعاشة الدين
بدا البعض متشائما من دور المفكر والفيلسوف، ويتساءل حميد زناز “ماذا عسى الفيلسوف أن يقول ونحن نعيش أزمة وبائية تجبرنا على المكوث في بيوتنا وتجنب أبناء جلدتنا؟!”.
ويستشهد زنار بآراء الفلاسفة والمفكرين الغربيين أمثال أندري كومت سبونفيل وناعوم تشومسكي وجورجو أغامبين وبيار زاوي وألان باديو، معلنا ما أسماه “استقالة الفيلسوف واستحالة الفلسفة أمام الجائحة”.
وبينما رأى البعض أن الجائحة تعلن نهاية الماورائيات والفكر الديني والميتافيزيقي، يرى آخرون أن الخوف وفوبيا الموت أعادت مركزية الدين كملاذ أخير يستجير به الإنسان من خوفه ومن العالم الديستوبي (الخيالي الفاسد المخيف) الذي وجد نفسه فيه.
تتدافع أفكار المتدخلين في هذا الكتاب من نقاد وأدباء ومفكرين لتقول في الغالب ذلك الشك وذلك الغموض الذي أسس له الخوف، بينما تجنح بعض الأفكار نحو العدمية واللامبالاة الناجمة عن احتياطي من الشعور باليأس، كما ترجع بعض الآراء إلى ما يحدث في محيطها وكأن الكورونا كانت ذريعة للحديث عن أسئلة الهويات الصغرى في ظل ما يعتقد من تصدع للعولمة.
كما كانت الكورونا ذريعة لفتح مواضيع متعلقة بالفساد والاستبداد والهيمنة والرأسمالية المتوحشة ومكانة العلم في مجتمعات دينية وأخرى خرافية، بدا الكتاب لبنة أولى مهمة في انتظار عصف ذهني أكبر وأعمق، طارحا أسئلة جديدة باحثة عن أجوبة خارج المتداول، لأن ما يجري ليس متداولا، لكي ننتج فكرا جديدا لعالم جديد ظل مجهولا حتى على المفكرين.