توافق هذه الأيام الذكرى السنوية الـ 25 لمذبحة سربرنيتسا التي قتل فيها أكثر من 8 آلاف مسلم بوسني -منهم الشيوخ والنساء والأطفال- من قبل جيش صرب البوسنة، فيما اعتبر واحدة من أسوأ عمليات الإبادة الجماعية في القرن العشرين.
وبينما يقضي راتكو ملاديتش، الجنرال الصربي المدان بأمر القتل الجماعي اليوم في محبسه في لاهاي الهولندية للعام التاسع على التوالي، يقول تقرير لصحيفة غارديان البريطانية إنه بعد ربع قرن من المجزرة اعتاد العالم على الفظائع ولم تعد عمليات القتل الجماعي في سوريا أو اليمن أو بورما (ميانمار) تتصدر الأخبار.
وفي البوسنة خيّم وباء كورونا على “مسيرة السلام” التي تقام سنوياً في البلاد لإحياء ذكرى ضحايا مذبحة “سربرنيتسا” وانطلقت مسيرة هذا العام، في منطقة “كرني فره” القريبة من مدينة زفورنيك البوسنية، بمشاركة محدودة، في إطار تدابير الوقاية من كورونا.
وكان من المقرر أن تنطلق المسيرة من منطقة “نزوك ” إلا أن تسجيل إصابة أدى إلى تغيير المسار، ويعرف هذا الدرب بين البوسنيين بـ “طريق الموت” حيث استخدمه أهالي سربرنيتسا عام 1995 للهرب من المذبحة، عبر الغابات.
لقاء مع مجرم حرب
كتبت جنين دي جيوفاني -وهي زميل أقدم بمعهد جاكسون في جامعة ييل الأميركية- أنها غطت حرب البوسنة منتصف التسعينيات وأنها تعي ما رأت، حيث سافرت إلى سراييفو المحاصرة ومناطق التطهير العرقي وإلى وسط البوسنة حيث قابلت ضحايا معسكرات الاغتصاب وحملات القصف والأمهات اللائي قتل أطفالهن وهم يبنون دمى “رجل الثلج” وأقارب الشيوخ الذين قتلهم القناصون وهم يقطعون الخشب للتدفئة من زمهرير البلقان.
وتقول الباحثة -في مقالها بصحيفة واشنطن بوست- إن هذه الأحداث تركت في نفسها آثارا مؤلمة بالكاد تستطيع تحملها، جزء كبير منها محاط بالذنب حيث عاشت وزملاؤها مع السكان المحليين وحاولوا جاهدين المحافظة على روايتهم المأساوية في أعين الناس. واعتبرت كل قذيفة سقطت وكل جثة محفوظة في برودة المشرحة حيث كانت تسير كل صباح لإحصاء القتلى فشلا شخصيا لحرب كان من الممكن وقفها مبكرا.
والآن، بعد ربع قرن تجد الباحثة نفسها في مواجهة اتجاه مقلق يعيد فيه الباحثون والصحفيون ولجان الجوائز إعادة كتابة تاريخ الفظائع التي عايشتها وكثيرون غيرها. ومن بين هؤلاء مؤلفة أميركية تدعى جيسيكا ستيرن نشرت كتابا مبنيا على مقابلاتها مع زعيم صرب البوسنة السابق رادوفان كاراديتش الذي حكم عليه بالسجن مدى الحياة لدوره في الإبادة الجماعية.
وأشارت جيوفاني إلى أن ستيرن اختارت تسمية كتابها “مجرمي الحرب: لقاءات شخصية مع مهندس إبادة جماعية” (My War Criminal: Personal Encounters with an Architect of Genocide)، ويشتمل على “لقاءات حصرية مع مجرم الحرب كاراديتش مهندس الإبادة الجماعية بالبوسنة، وذكرت أن ستيرن ذهبت إلى زنزانته وسمحت له بممارسة تعويذة دينية علاجية عليها وبلمسها واستسلمت لنوبة التنويم المغناطيسي التي مارسها عليها، واصفة إياه بأنه “طويل ووسيم وله شعر أحمر غزير وقوام بايروني”.
وتقول جيوفاني: يبدو أن ستيرن أرادت فهم عقلية شخص يمكنه التحريض على جرائم لا يمكن تصورها. ومع ذلك اختارت أن تنسى الضحايا الذين ينبغي أن يكونوا في صلب القصة. وعلقت بأنها في محاولتها لإضفاء طابع إنساني على قاتل للآلاف، تكون ستيرن قد ارتكبت ظلما كبيرا لبلد ما زال ينزف حتى اليوم. ووصفت هذا النهج بالتهاون واعتبرته إحدى الطرق لتشويه الماضي وطريقة أخرى للإنكار الصريح.
اعلان
وضربت الباحثة مثالا آخر لتشويه التاريخ، ومحاولة إعادة كتابته في إشارة إلى منح لجنة أوسلو العام الماضي جائزة نوبل للأديب النمساوي بيتر هاندكه المعروف جيدا بجهوده في إنكار الإبادة الجماعية بالبوسنة وتشكيكه في حقيقة مذبحة سربرنيتسا في يوليو/تموز 1995 عندما قتل صرب البوسنة ثمانية آلاف رجل وطفل مسلم وكدست جثثهم في مقابر جماعية.
وأفاضت في سرد قصص الأهالي الذين قابلتهم وتحدثوا عن المآسي التي عايشوها عيانا بيانا، وتمنت لو أن هاندكه قابل الأشخاص الذين قابلتهم، وتساءلت عما إذا كان سيظل يقدم مثل هذه الادعاءات “لكنه على ما يبدو لم يبذل أي جهد لاختبار وجهات نظره ضد شهادة الناجين، ويعيش مثل المؤلفة ستيرن في واقع صنعه لنفسه”.
قصة حصار وحب
يؤرخ البوسني أدين كريهيتش في روايته “سراييفو قصة حصار وحب” يوميات الحرب التي شهدتها البوسنة والهرسك مطلع التسعينيات من القرن المنصرم. يكتب روايته كمن يدوّن مذكرات المحاصرين والمقاتلين والشهداء بتفاصيلها، وكأنه بصدد التحضير لسيناريو فيلم عن تلك الحرب المأساوية.
لا يخلو سرد كريهيتش في روايته -التي ترجمها عبد الرحيم ياقدي- من تشويق درامي، رغم الأسى المتخلل معظم الفصول والمقاطع، إذ يبدأ من نهاية الحرب، حيث يلتقي بطل الرواية “ياسمين” بحبيبته “ليلى”. يسرد جانبا من أحلام الوصال ومعاناة السنين الماضية، ثم يوقف المشهد قبل إتمام اللقاء، ويرجع بالسرد إلى الوراء ليحكي وقائع الحصار والحرب.
نيران الحب والحرب
يصف كريهيتش -الذي عمل إعلامياً بقناة الجزيرة- شراسة الحصار وضراوة القصف العشوائي وتخبطه، وكيف هرب الناس من المدينة، من القنابل والقناصين والجوع والبرد، ثم كيف باع منتفعو الحرب ما تبقى من الأشياء الثمينة من البيوت بأسعار زهيدة، وكان المسعى الدؤوب لرشوة الجنود الذين كانوا يؤمِنون النفق تحت مدرج المطار للخروج من المدينة.
ويشير إلى عادات جديدة تجتاح حياة الناس أثناء الحرب والحصار، وفي ظل فقدان الأمان، إذ يصبح الموت عادة، تجعل الحياة اليومية صلبة كالحجر، في أي لحظة يكون المرء مرشحا ليكون القتيل التالي، بحسب تقرير سبق نشره بالجزيرة نت للكاتب هيثم حسين.
ويسود يقين واقعي أن القذائف ستسقط، لكن السؤال: هل ستكون أنت في مكان يجب ألا تكون فيه في تلك اللحظة، حيث لا توجد قواعد للعبة. الكل يُقتلون. ويذكر أن الموت لاقى الكثيرين وهم نيام حيث ينعتون تاليا بالمحظوظين، أنهم لم يتعذّبوا في موتهم.
البلقان والشرق
يعتبر كتاب “البلقان من الشرق إلى الاستشراق” مقاربة حية لواقع الدول البلقانية التي عاشت سحر الشرق خلال الحكم العثماني ثم انتقلت إلى سيطرة قوى أخرى، لتشعر بحاجتها إلى إعادة اكتشاف هذا الشرق، سواء كمكون لحضارتها أو عنصر غريب عنها.
ويعتبر محمد الأرناؤوط في مقدمة الكتاب -الصادر عن منتدى العلاقات العربية والدولية بالدوحة (عام 2014)- أن الإمبراطورية الرومانية بشقها الشرقي كانت المحدد الأساسي لتاريخ وحضارة البلقان، في حين شكلت الدولة العثمانية المحدد الثاني.
ويتحدث عن نهايات الوجود العثماني في البلقان، حيث جرى تداول عدة مشروعات، مثل فيدرالية بلقانية للتخلص من الحكم العثماني والوجود البشري الإسلامي هناك على اعتبار أن مسلمي البلقان كانوا جزءا من التركة العثمانية فيها.
ثم يتحدث الكاتب عن ازدهار بلغراد في ظل الحكم العثماني كمدينة شرقية المعالم والثقافة شبيهة بدمشق، مع مئات المساجد والمدارس والحمامات والمكتبات، وكيف أخذ مسلموها لقب “أتراك” على أساس أنهم يعتنقون دين الأتراك، وهو ما تم استخدامه لاحقا للتخلص منهم.
عهد جديد
وعن البوسنة، يذكر الأرناؤوط أن معظم سكانها اعتنقوا الإسلام خلال قرن واحد من قيام محمد الفاتح بفتحها بالكامل عام 1436، وذلك خلافا لسائر الأقاليم العثمانية، ثم عرفت ازدهارا ذا طابع شرقي، واكتسب المسلمون فيها لقب “حرس الحدود” كونهم أقصى امتداد للدولة العثمانية في الغرب.
لم تمر الإصلاحات العثمانية بسهولة في البوسنة حيث رأى فيها البعض تشبها بأوروبا، وأدت محاولة إجبارهم على قبولها إلى مقتل ونفي الآلاف منهم، ثم تم الأمر بمحاولات من شيوخ دين وعلماء ليبدأ عهد جديد مع مدارس وإدارات حديثة ومطابع وصلت البوسنة بأوروبا، غير أن هذه التطورات لم تؤد إلى المطلوب نتيجة الدعاية القومية الصربية والكرواتية.
ومع اتفاقية برلين عام 1878 انتقلت البوسنة عمليا إلى الإدارة النمساوية التي أخمدت مقاومة المسلمين لحكمها، لتصبح صلات هؤلاء بالشرق روحية فقط، ثم تبدأ هجرتهم باتجاه المناطق الخاضعة للعثمانيين، مما دفع النمسا إلى التقرب منهم لإصلاح صورتها، خاصة أنها كانت تطمع في التوسع جنوبا حتى سالونيك، وبدأت العمل بالولاية المزدوجة، وتقضي بنقل الحضارة الأوروبية إلى المستعمرات مقابل استثمار مواردها الطبيعية بالتوازي مع مساع ناعمة لفصل المسلمين عن الدولة العثمانية.
ومع انهيار إمبراطورية هابسبورغ وضم البوسنة إلى مملكة الصرب، عاش المسلمون ظروفا قاسية محاولين الحفاظ على وجودهم وهويتهم، بحسب عرض قدمه شادي الأيوبي للجزيرة نت.
كما ارتبطت السيطرة العثمانية على ألبانيا بنهضة عمرانية شرقية الملامح وثيقة الروابط بازدهار الأوقاف وانخراط الألبان في الهرمية الإدارية والعسكرية في الدولة، لكن الملك أحمد زوغو (1922-1939) ثم أنور خوجة غيرا تلك الملامح.
وفي 11 يوليو/تموز 1995، لجأ مدنيون بوسنيون من بلدة سربرنيتسا إلى حماية الجنود الهولنديين، بعدما احتلت القوات الصربية البلدة، غير أن القوات الهولندية أعادت تسليمهم للقوات الصربية.
ودفن الصربُ البوسنيين في مقابر جماعية، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها أطلقت البوسنة أعمال البحث عن المفقودين وانتشال جثث القتلى من المقابر وتحديد هوياتهم.
ودأبت السلطات البوسنية في 11 يوليو/تموز من كل عام على إعادة دفن مجموعة من الضحايا الذين توصلت إلى هوياتهم، في مقبرة “بوتوتشاري”.