تدخل اليوم المجلس المليء فتجد ما شئت من الرجال ذوي السمت والوقار لا يرجع بعضهم إلا بعضٍ القول؛ قد نكّسوا رؤوسهم، وغرسوا أبصارهم في أكفّهم التي تحمل هواتفهم، وانشغل بعضهم بمحاقدثة، وآخر بتصفح، وثالث بمشاهدة. وتمرُّ الساعات ثم يقومون ولم يستفد أحدهم فائدة، ولا ثبتت في أذنه حكمة، ولا توثّقت بينه وبين إخوانه مودّة، ولا انقضت لمحتاجهم حاجة، اجتمعوا اجتماع الأصدقاء، وتفرقوا تفرق الغرباء! هذا ما آلت إليه مجالسنا هذه الأيام، بعد أن صار الناس رهن الثقافة الرقميّة.
إن التخلف الذي نعيشه اليوم في وطننا العربي ليس محصورًا على وضعنا السياسيّ فحسب، وإنما هو في بعض وجوهه تخلّف اجتماعيّ، حيث يفشل المجتمع في إدارة نفسه بعيدًا عن الدولة ومؤسساتها، وهذا وإن كان في جانب من جوانبه بسبب تغوّل الدولة الحديثة وأجهزتها، فإنه في جزء من أجزائه بسبب تفريط مجتمعاتنا في بعض مؤسساتها الاجتماعية التي كان لها -في القديم الغابر- دور في رعاية فاعليتنا الاجتماعية وتقويتها.
وخطتنا في هذا المقال أن نعرض لبعض رسوم المجالس وآدابها في ثقافتنا، وكيف ساهمت هذه الرسوم في إنشاء نمط مميز من الثقافة الاجتماعية والحكمة العملية، وكيف جسّدت تلك المجالس مقولات هذه الثقافة التي تقوم على الأخلاق والعمل، ثم نعرض لذكر طبقة فريدة من طبقات المجتمع في الحضارة الإسلامية كان ظهورها نتيجة لتفاعلات أفراد المجتمع في مجالسهم. ومن خلال استعراضنا لهذه الرسوم سيلمح القارئ امتزاج القيم العربيّة بالهدْي الإسلامي، وكيف نجح المسلمون في دمج الجيّد من الثقافة العربية بتعاليم الإسلام ومبادئه، والأخذ من أسباب التحضر بكلّ ما يعينهم على القيام بدورهم الاجتماعي ورسالتهم الحضارية.
ثقافة مخضرمة
إن الأخلاق التي تشكل القيم العليا للإنسان العربي هي -في صميمها- أخلاق جماعية مثل الكرم والنجدة والمروءة، والثقافة العربية ثقافة تفاعلية حرّة لأن العرب كانوا قوما لَقاحاً لم يخضعوا لضبط السلطان وضغطه، ولم يعرفوا التراتبية الهيكلية في مجتمعهم، وإنما كانت سيادتهم الاجتماعية تقوم على خصال الشرف، والشرف وإن كان لديهم في جزء من تكوينه قائما عندهم على النسب فإنه يعتمد على استكمال المروءات والمكارم.
وهذا ميدان تُشكِّل المجالس فيه ركنَ أساسٍ وحجرَ زاويةٍ؛ ففيها ينبئ المرء عن عقله ورأيه، ويختبر حِلمه وكرمه، وهي معرضٌ لاستطلاع علمه وخبرته، وبهذا تصبح المجالس لدى العرب الأوائل نوعًا من المؤسسات الاجتماعية القائمة على التفاعل الجماعي وفرز قيادات وأعيان المجتمع، كما نجده مثلا في “دار الندوة” التي اتخذتها قريش ناديا و”ديوانية” لها بمكة.
وهكذا قدم الإسلام على قوم لهم أعرافهم وأدواتهم الاجتماعية فكان شأنه معها الترشيد والتقويم؛ إذ لم تكن رسالته تعني تنكُّراً لما في هذه الأعراف من فضائل ومناقب، ولذلك قال النبي ﷺ: “إنما بُعثتُ لأتمم صالح الأخلاق”؛ (رواه البخاري في ‘الأدب المفرد‘). وهذا ما نجده متجسدا في تعامله مع ظاهرة المجالس المجتمعية التي يعكس لنا حديث أبي سعيد الخدري (ت 74هـ/693م) -الوارد في ‘الصحيحين‘- مركزيّتها في الثقافة العربية؛ إذ يروي أن النبي ﷺ نهى الصحابة عن الجلوس في الطرقات، “فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بُدٌّ، نتحدث فيها! فقال رسول الله ﷺ: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقّه”!
ومن خلال العرض التالي لتقاليد ورسوم المجالس في تراثنا سنرى كيف التحمَ الإسلام بقيمه السامية مع الثقافة العربية في تقويم هذه الظاهرة الاجتماعيّة، وكيف رشّدها لتبلغ تمامها ولتكون مصنعًا للألفة المجتمعية، ومجالًا لتطوير أفراد المجتمع على مستوى التعليم والتزكية الروحية والأخلاق. فالإمام ابن عبد البر الأندلسي (ت 463هـ/1071م) ينقل -في كتابه ‘بهجة المَجالِس وأُنْس المُجالس‘- قول الإمام التبعي إبراهيم النَّخَعي (ت 96هـ/715م): “إن الرجل ليجلس مع القوم فيتكلم بالكلام يريد اللهَ فتصيبه الرحمة فتعُمّ مَن حوله، وإن الرجل يجلس مع القوم فيتكلم بالكلام يُسخِط اللهَ به فتصيبه السخطة فتعمّ مَن حوله”.
ولم يكن العربيّ الأول يرى في المجالس إلا مساحة لإدارة الرأي وتداول المعارف، ولهم في استعراضها طريقة مخصوصة وترتيب مرسوم؛ فقد سأل الخليفة الأموي الوليد بن يزيد (ت 126هـ/744م) كهلًا من الأعراب عن المسامرة، فقال: المسامرة إخبارٌ لمُنصِتٍ، وإنصاتٌ لمُخبِر، ومفاوضة فيما يُعجِب ويليق، فقال الوليد: أحسنت! لا أزيدك امتحانًا، فقل يُنصَتْ لقولك! فقال الكهل: يا أمير المؤمنين المسامرة صنفان لا ثالث لهما: أحدهما: إخبارٌ بما يوافق خبرًا مسموعًا، والثاني: إخبارٌ بما يوافق غرضًا مُقترَحًا، وإني لم أسمع من الأمير حديثا فأحذو على مثاله، ولا اقترَح عليّ الأميرُ سلوكَ طريقةٍ فأنحو نحوها”؛ حسبما في كتاب ‘السلوانات‘ لابن ظفر الصقلّي (ت 568هـ/1173م).
إبقاء للأصلح
حضت تعاليم الإسلام على إشاعة معاني الأخوّة بالمجتمع وتوثيق أواصر المودة بين أفراده، والنصوص الشرعية في هذا أشهر من أن تُذْكَر، ولكن ما يهمنا هنا هو أن نرى كيف تمَّ توظيف هذه القيم وتنزيلها على الواقع في صيغة أعراف تطبيقية، ورسوم يتوخاها المسلم مع جليسه؛ فقد ندب القرآن الكريم إلى التفسُّح في المجالس لروادها وبيّن آداب البقاء فيها والانصراف منها، وقال ﷺ: “خير المجالس أوسعها” (مسند أحمد). وجاء عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب (ت 23هـ/644م) فيما نقله عنه ابن عبد البر: “إن مما يُصْفي وداد أخيك أن تبدأه بالسلام إذا لقيته، وأن تدعوه بأحب الأسماء إليه، وأن توسع له في المجلس”.
اعلان
ونقل أيضا عن الأحنف بن قيس (ت 72هـ/692م) قوله: “لو جلسَ إليّ مئة لأحببت أن ألتمس رضا كل واحد منهم”. وكان الأحنف -على بشاعة منظره وعيوبه الخَلقيّة- قد ثبت له السؤدد بتوفره على معرفة رسوم المجالس، وظهوره فيها بحِلمه وحسن رأيه، وبإتقانه فنون التودد للناس في المجالس؛ فقد حكى عنه ابن قتيبة الدينوري (ت 276هـ/890م) -في ‘عيون الأخبار‘- أنه كان “إذا أتاه رجلٌ أوسع له، فإن لم يكن له سَعَة [في مجلسه] أراه كأنه يوسع له”!
ومثله في هذا حبر الأمة عبد الله بن عباس (ت 68هـ/688م) الذي كان كثير الحرص على جلسائه وتوقيرهم وبذل المودة لهم؛ فها هو يقول -فيما روى عنه ابن عبد البر- حين سُئل: “مَنْ أكرمُ الناس عليك؟ قال جليسي حتى يفارقني”! وكانت له حساسية عالية في استشعار مبادرات الود وحقوق الصحبة، كما في قوله: “لجليسي عليّ ثلاث: أن أرميه بطرفي إذا أقبل، وأن أوسع له إذا جلس، وأصغي إليه إذا تحدّث”.
وتستوقفنا محادثة جرت بين الخليفة معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ/680م) والصحابي عُرابة الأوسي (ت نحو 60هـ/680م)؛ فقد سأل معاوية عرابة عن سبب مدح الشعراء له وكان يوصف بأنه أكرم أهل زمانه، فقال: “بإكرامي جليسي ومحاماتي عن صديقي”؛ كما في ‘أدب المجالس‘ لابن عبد البر. وقد كان والدُ عرابةَ -وهو أوس بن قيظي- من كبار المنافقين، ومع ذلك توفر عرابة على المكارم واستحق المدح بأخلاقه في المجالس وكرمه مع الناس.
وسار المسلمون على هذه الرسوم في اكتساب المودّات والتحبب للجلساء، يوصي بها السابق الاحق؛ فهذا يحيى بن خالد البرمكي (ت 190هـ/806م) -الذي يصفه الذهبي (ت 748هـ/1348م) في ‘سير أعلام النبلاء‘ بـأنه “من رجال الدهر حزما ورأيا وسياسة وعقلا”- يخاطب ابنا له فيما يرويه ابن عبد البر؛ فيوصيه: “يا بنيّ، إذا حدثك جليسك حديثًا فأقبل عليه وأصغِ إليه، ولا تقل قد سمعته وإن كنتَ أحفظَ له، وكأنك لم تسمعه إلا منه، فإن ذلك يكسبك المحبة والميل إليك”!
وهذه إحدى سُنن الكرام متروكة؛ فالفاضل منّا اليوم إذا سمت همّته التمس تعلّم الكلام، ولم يحفل بحسن الاستماع، وقد كان سلفنا شديدي العناية بحسن الإنصات، حتى إنهم جعلوا عليه أماراتٍ لا تخطئها العين؛ يقول المبرّد (ت 286هـ/899م): “الاستماع بالعين! فإن رأيت عين من تحدّثه ناظرة إليكَ فاعلم أنه يُحسن الاستماع”. وهذا أبو مُسْهِر (ت 218هـ/833م): “يقول ما حدثتُ رجلًا قطُّ إلا حدثني إصغاؤه أفَهِم أم ضيّع”! حسبما يرويه ابن قتيبة في ‘عيون الأخبار‘. ولذلك كان أبو مُسْهِر ممن أورثهم الذكاء الاجتماعي قبولًا كبيرًا لدى الناس، فالإمام أبو حاتم الرازي (ت 277هـ/891م) يقول في حقه: “ما رأيت أحدا أعظم قدرا من أبي مسهر! كنت أراه إذا خرج إلى المسجد اصطفّ الناس يسلمون عليه، ويقبّلون يده”!
فإن تحيّرتَ في الحد الفاصل بين وقت الكلام والسكوت؛ فقد جعل لكَ الحسن البصري (ت 110هـ/729هـ) علامة تعرف بها الوقت المحبَّذ للسكوت، حيث يقول فيما يرويه الإمام ابن أبي شيبة (ت 235هـ/849م) في ‘المُصنَّف‘: “حدّثوا الناس ما أقبلوا عليكم بوجوههم، فإذا التفتوا فاعلموا أن لهم حاجات”. فلا شيء أشق على النفس من السماع القسري الذي يفرضه عليك بعض الثرثارين في المجالس. وقد نهى عن هذه العادة البائسة الإمام المحدث مطرِّف ابن الشِّخِّير (ت 95هـ/714م) بأجمل عبارة، حيث قال كما في ‘عيون الأخبار‘: “لا تُطعِم طعامك من لا يشتهيه. يريد لا تُقبِل بحديثك على من لا يُقبل عليك بوجهه”!
تخيّر وانتقاء
وقد تقوى نفس المتحدث أحيانًا فيعاقب مستمعه على تفريطه في متابعة حديثه؛ قال الكاتب أبو عبّاد الرازي (ت 220هـ/835م) فيما رواه عنه ابن عبد ربه الأندلسي (ت 328هـ/940م) في ‘العِقد الفريد‘: “إذا أنكر المتكلم عين السامع فليسأله عن مقاطع حديثه، والسبب الذي أجرى ذلك له، فإن وجده يقف على الحق أتم له الحديث، وإلا قطعه عنه وحرمه مؤانسته”. ولعلنا لا نستغرب هذا السلوك الحادّ من أبي عبّاد إذا استحضرنا وصف الذهبي لأخلاقه، ومنها أنه “كان جوادا سمحا سَرِيًّا (= نبيلاً) إلا أنه كان منقبِضا عَبوسا”!
وقد كان القوم يحرصون كل الحرص على مجالس الفائدة، وتعاف أنفسهم مجالس الثرثرة والبطالة، حتى قالوا: “إياك وكلّ جليس لا تصيب منه خيرًا”! وكانوا يحضّون على تجويد انتقاء الجلساء كما يستجاد اختيار الصاحب؛ فقد قال الحسن البصري: “انتقوا الإخوان والأصحاب والمجالس”! وهذا أبو الدرداء (ت 32هـ/653م) يحكي كَلَفَه بالمجالس التي يتخيّر أصحابها كلامهم اختيارًا ويتأنقون فيه تأنقًا، ويعرب عن توقه إلى “مجالسة أقوام يَنتقون جيد الكلام كما يُنتقى أطايب الثمر”!
كما كان الوعي حاضرًا بأهمية التنوّع في المجالس التي يحضرها المرء، وأن في ذلك زيادة للتجربة وتحصيلا للخبرات المختلفة؛ قال أبو أيوب الأنصاري (ت 52هـ/672م) كما في ‘بهجة المجالس‘: “من أراد أن يكثر علمه فليجالس غير عشيرته”. ولهذا كلما اتسع المجلس واشتمل على عدد كبير كان أحظى عندهم؛ ففي ‘عيون الأخبار‘ أن المهلب بن أبي صفرة (ت 82هـ/702م) كان يرى أن خير المجالس “ما بعُد فيه مدى الطرف وكثرت فيه فائدة الجليس”، وكان المهلب -وهو “الأمير البطل” كما يصفه الذهبي- لا يلتذّ بشيء التذاذه بالمجالس، حيث يقول: “العيشُ كلّه في الجليس الممتع”؛ حسبما في ‘العِقد الفريد‘.
ويحكي لنا الجاحظ (ت 255هـ/869م) -في ‘البيان والتبيّن‘- كيف أن إتقان آداب المجالس، والمحافظة على رسومها وتقاليدها من أدوات السيادة التي يحرص عليها أصحاب الطموح السياسي ويُنشَّؤون عليها؛ فقد روى أن رجلا من القرشيين ذَكرَ يوما عبد الملك بن مروان (ت 86هـ/705م) -وعبد الملك يومئذ شابّ- فقال: “إنه لآخذٌ بأربع وتارك لأربع: آخذٌ بأحسن الحديث إذا حَدّث، وبأحسن الاستماع إذا حُدِّث، وبأيسر المؤونة إذا خُولف، وبأحسن البِشر إذا لقي؛ وتاركٌ لمحادثة اللئيم، ومنازعة اللجوج، ومماراة (= مجادلة) السفيه، ومصاحبة المأفون (= ضعيف العقل)”.
ومن آداب المجالس اختيار المرء مكان جلوسه منها، وكرهوا كثرة التنقّل فيها لأنها مخلّة بالوقار، كما أنهم كانوا يتجنّبون المبادرة للجلوس في صدر المجلس لئلا يعرض طارئ يُضطر معه الجالس فيه إلى تركه؛ حتى إنهم قالوا “إياك وصدر المجلس فإنه قُلَعَة (= لا يتسقر صاحبه)”! وتباعد كعب الأحبار (ت 32هـ/653م) عن مجلس عمر فأنكر ذلك عليه، فقال: “إن في حكمة لقمان ووصيته لابنه: إذا جلست إلى ذي سلطان فليكن بينك وبينه مقعد رجل، فلعله يأتيه من آثـَرُ عنده منك فينحّيك، فيكون [ذلك] نقصًا عليك”!
كما كان من رسمهم -وخاصة في مجالس أكابر المجتمع- أن يكون التصدير في المجلس على حسب المكانة والفضل، وألا يستبدّ جالسٌ بشرف المجلس إذا عرف أن في المجلس من يفوقه علمًا وفضلًا؛ فالجاحظ يروي أن زياد بن أبي زياد (ت بعد 101هـ/720م) مولى عياش بن أبي ربيعة (ت 64هـ/684م) -وهو “العالم الرباني” كما يصفه الذهبي- كان يقول: “دخلت على عمر بن العزيز (ت 101هـ/720م)، فلما رآني تزحّل (= تنحّى) عن مجلسه، وقال: إذا دخل عليك رجلٌ لا ترى لك عليه فضلًا، فلا تأخذ عليه شرف المجلس”؛ هذا وزياد حينها عبدٌ مملوك قبل أن يدفع الناس أموالهم ليعتقوه إكراما لمكانته.
تنوع مرغوب
وكانوا يعدّون الثبات في المجلس وعدم مراعاة أهل الأقدار من الثقل المذموم وسوء الأخلاق، وربما أنشدوا فيه شطر بيت الفرزدق (ت 110هـ/728م) معرِّضين بالثقيل: “ثهلانُ ذو الهضبات لا يَتحلحلُ”! وما دمنا في ذكر الثقلاء؛ فعلى المرء أن يراعي الإشارات الخفيّة في مجلسه، وأن يكون عالي اليقظة في التقاطها، ويعلم متى يُستحسن بقاؤه ومتى يُستحبّ انصرافه.
ومن هذه العلامات إهماله من صاحب المجلس؛ قال سعيد بن سلْم (ت بعد 200هـ/815م) “إذا لم تكن المحدِّث أو المحدَّث فانهض”! ومن الثقل أيضًا ردّ ما يكرمك به جليسك من وساد أو فرش أو هدية، ولذا جاء في حديث ابن عمر -الذي رواه الترمذي (ت 279هـ/892م) في ‘السنن‘- النهي عن ردّ الوسائد. وقد قدّم أبو قِلابة الجَرْمي (ت 104هـ/723م) -كما في ‘بهجة المجالس‘- وسادة لأحد جلسائه، فردّها إليه؛ فقال له: “أما سمعت الحديث: لا تردّن على أخيكَ كرامته”؟!
وقد أجملَ لنا ابن عبد ربه -في ‘العِقد الفريد‘- بعض الرسوم التي ينبغي على المرء مراعاتها فيما يرتاده من مجالس المجتمع؛ فقال: “ومن حُسن الأدب ألا تغالب أحدًا على كلامه، وإذا سُئل غيرك فلا تُجب عنه، وإذا حدّث بحديث فلا تنازعه إياه ولا تقتحم عليه فيه، ولا تُرِهِ أنك تَعلمه، وإذا كلمتَ صاحبَك فأخذتَه (= غلبته) بحجّتك فحسّن مخرج ذلك عليه، ولا تُظهر الظفر به، وتعلّم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام”!
ومما تعارفوا عليه أيضا استحسان أن يُصحَب المجلسُ بدعوة إلى طعام -دون تكلُّف- في نهايته لتمام الإكرام، ويُستقبح تأخيره -إذا وُجِد- عن الجلساء، لقولهم الذي حكاه أبو حيان التوحيدي (ت بعد 400هـ/1010م) في ‘البصائر والذخائر‘: “ثلاثة تضني: سِراج لا يضيء، ورسول بطيء، ومائدة يُنتظر بها من يجيء”! وقد اختلف رأيهم في شأن الحديث على الطعام فاستحسنه قوم وكرهه قوم، وتوسط آخرون فقالوا إنه من صاحب المنزل والمائدة أحسن منه من الأكيل الزائر؛ كما في ‘أدب النديم‘ لأبي الفتح ابن شاهك الرملي المعروف بـ‘كشاجم‘ (ت 360هـ/971م).
ويُستطاب في أحاديث المجالس إيرادُ المُلَح والطُرَف، وأن يختلط المُزاح بالجِد إذا كان في المجلس أقران، وكرهوه مع وجود الشيوخ؛ فقد قال قائل للخليفة المأمون (ت 218هـ/833م): “أيأذن أمير المؤمنين في المداعبة؟ فقال: وهل العيش إلا فيها”! وفقا لما يرويه الرقيق القيرواني (ت نحو 425هـ/1034م) في ‘قطب السرور‘. واستحسنوا ألا يقتصر المجلس على لون واحدٍ من الحديث، وإنما ينبغي أن يتنوّع بتنوّع حاضريه لتكون لكل منهم مشاركة فيه، وقد قال بشار بن برد (ت 168هـ/785م) حسبما أورد الحُصْري القيرواني (ت 453هـ/1062م) في ‘زهر الآداب‘: “لا تجعلوا مجلسنا غِناءً كلَّه، ولا شِعرًا كلَّه، ولا سَمَرًا كله، ولكن انتهبوه انتهابا”!
ومن آداب المجالس أن تستأذن جليسك إذا هممت بالانصراف، ولا تخرج من غير إشعار له بانصرافك؛ فقد روى الحافظ ابن عبد البر -في ‘بهجة المجالس‘- أن النبي ﷺ قال: “إذا جلس إليك رجل فلا تقومن حتى تستأذنه”. وروى ابن أبي شيبة -في ‘المصنّف‘- أنه جاء رجل إلى الحسن بن علي (ت 49هـ/670م) “فقال له جلستَ إلينا على حين قيام، أفتأذن”؟ وذلك حتى لا يظن أن انفضاض المجلس كان بسبب قدومه، فإن ذلك مما يوغِر الصدر.
صنعة النديم
عرفت العرب في جاهليتها شخصية “النديم” الذي جاء اشتقاق اسمه “من النَّدَم لأنه يُندَم على فراقه”؛ كما يقول الرقيق القيرواني في ‘قطب السرور‘. وفي صدر الإسلام؛ كانت مجالس الخلفاء الراشدين تنعقد على نمط رشيد لا يُصَدُّ عنها العوام ولا أصحاب الحاجات، ولا يختلف بشيء عن مجالس الناس المفتوحة؛ فلما قام الاستبداد السياسي مع الأمويين والعباسيين تغيرت رسوم مجالس السلاطين فاستولت عليها الفخامة مقلِّدين بذلك قياصرة الروم وأكاسرة الفرس.
ثم تعقّدت بروتوكولات المجالس أكثر حينما مالت الحضارة الإسلامية إلى الدعة والترف، على نحو ما نجده مبثوثا في كتب التاريخ والأدب والمسامرات، حتى إن الثقافة العربية صارت مدينة لمجالس الوجهاء -من أمراء ورجال دولة بل وعلماء ومثقفين- بالفضل الكبير في إنتاجها لكتب في غاية النفاسة والطرافة، مثل كتابيْ التوحيدي ‘الإمتاع والمؤانسة‘ و‘المقابسات‘، وكتابيْ القاضي أبي علي التنوخي (ت 384هـ/995م) ‘نشوار المحاضرة‘ و‘الفرج بعد الشدة‘.
كما كتبوا في “أدب النديم” الذي كان يقع عليه عبء محادثة الملوك ومسامرتهم في مجالس أنسهم، وشرحوا ما ينبغي أن يحوزه من جميل الصفات ومتنوع الثقافات، ليكون مُعينًا لأصحاب الجاه في استكمال لذاذاتهم وبلوغ مسراتهم. وتسعفنا كُتب هذا الفنّ بالتعريف برسوم مجالس المنادمة وما يشترطه أربابها في “النديم”؛ ومن أقدم وألطف ما وصلنا مما وُضع في ثقافة النديم وآدابه ما جمعه الشاعر كشاجم -المتقدم الذكر- في رسالته ‘أدب النديم‘.
فقد كان علية القوم من رجال الدولة يتحرّوْن في انتقاء الندماء، عاملين بما يرويه المسعودي (ت 346هـ/958م) -في ‘مروج الذهب‘- عن الكاتب كلثوم العتابي (ت 220هـ/835م) الموصوف بـ”براعة البيان ومُلوكِية المجالسة”، وهو قوله: “كاتب الرجل لسانُه، وحاجبُه وجهُه، وجليسه كلُّه”. كما أن من ينال هذه المكانة يؤكّد صلته ويوثّق مودته بمضيفه ومنادمه الذي غالبا ما يكون رأس الدولة أو أحد مسؤوليها الكبار.
ولذا أصبح “النديم” لقب رسمي يطلق على كل من يتولى وظيفة “النِّدامة” فيحظى بصِلاتها وينعم بامتيازاتها وقد يتحمل تبعاتها. وللصلة القوية القائمة بين طرفيْ حرفة “النِّدامة” سمَّوْا المنادمة “الرضاع الثاني” كما جاء في ‘طبقات الشعراء‘ لابن المعتز (ت 296هـ/909م) من قول الشاعر عصابة الجَرْجَرائي (ت نحو 250هـ/865م) مخاطبا أمير فارس الحسن بن رجاء البغدادي (ت 244هـ/859م):
أقْرِ السلامَ على الأمير وقل له ** إن المنادمة الرضاعُ الثاني!
إن المـــنادمة التي نادمـــــتني ** رفعت عناني فوق كل عنان
واشترطوا في النديم أن يتوفر على نوع من الذكاء الاجتماعي العالي والفطنة، وأن يضم بين جنبيه أخلاقا متضادة ليكون قادرًا على مواكبة أحوال مضيفه المتقلبة؛ “فيكون فيه مع شرف الملوك تواضعُ العبيد، ومع عفاف النُّساك مجونُ الفُتَّاك، ومع وَقار الشيوخ مُزاحُ الأحداث”؛ وفقا لما يقوله كشاجم. ويكون له كذلك “من قوة الخاطر ما يفهم به ضمير الرئيس الذي ينادمه، على حسب ما يبلوه (= يختبره) من أخلاقه، ويعلم من معاني لحظه وإشاراته ما يغنيه عن تكلف عبارته والإفصاح بهـ[ـا]، فيسبقه إلى شهوته ويبدره إلى إرادته”.
معيارية غريبة
ومن طريف ما اقترحوه في أخلاق النديم وجمعه بين الصفات المتضادة؛ قولُ كشاجم إن “من صفة النديم أن يجمع إلى الصبر على مَضَض (= شدة) الجوع، احتمالَ كِظَّة (= ضغط) الازدياد على الشبع، لأنه مدفوع إلى مؤاكلة أحد رجلين: إما سخيّ شديد المحبة لأن يُؤكَل طعامه فيطالبه بالإكثار..، فإذا فعل ذلك حظي عنده وقرُب من قلبه بالمشاكلة (= المشابهة)، فإن قصّر أنزل ذلك منه على التبخيل له وتعمد التنغيص عليه…؛ أو لئيم طعامُه عنده بمنزلة سمعه وبصره، فإن أسرع فيه [النديم] أو تناول من أطايبه فكأنما يأكل من جوارحه”!!
ومن عجائب الأخبار أن تكون القدرة على التهام الطعام قاضية لترقّي شخصٍ دون آخر في هيكلة الدولة ومناصبها، وهذا ما حصل للقاضي أحمد بن أبي دُؤاد (ت 240هـ/855م) فيما يحكيه لنا منافسه في البلاط العباسي الوزير محمد بن عبد الملك الزيات (ت 233هـ/848م)؛ فإنه قال فيما حكاه كشاجم: “أُعينَ عليّ أحمد بن أبي دؤاد بأشياء لم أُعَنْ عليه بمثلها، حتى إنه أعين عليّ في تمكّن حاله عند [الخليفة] الواثق (ت 232هـ/847م) بأنه كان طيّب الأكل طَحون الضرس هَضوم المعدة، وكنت على خلاف ذلك. فحضرته [يوما] يؤاكل الواثق وليس معهما ثالث، ودعاني الواثق إلى الطعام فأقبلت أنقر على حسب عادتي وخُمود شهوتي، وهما يتباريان في تكبير اللُّقَم وجودة الأكل، فما رأى أحمد مني ذلك قال: يا أمير المؤمنين ما جلوس هذا المُحْتَمِي (= متّبِع الحِمْية) معنا يحصي علينا اللُّقَم..؟ فقال الواثق: صدق أحمد، فكُلْ أو دع! فما تمالكت أن نهضت”!
كما استحسنوا من النديم أن يكون -مع ثقافته العامة الواسعة- محيطًا ببعض المعارف الممتعة الخفيفة، ولذلك “يُستظرَف منه أن يصف اللونَ (= الوجبة) الغريب من الطبيخ، والصوتَ البديع، والشِّعر الشجيّ، واللحن من الغناء”. ويشير كشاجم إلى محورية هذه المعارف في أدب المنادمة حتى إن المرء ليتأخر عندهم بتفريطه فيها؛ فيقول: “ورأيت المِلاح من أهل هذه الطبقة يقولون: إن من لم يَشْدُ عشرة أصوات، ويُحْكِم من غرائب الطبيخ عشرة ألوان، لم يكن عندهم ظريفًا كاملًا ولا نديمًا جامعًا”!!
وفي الأناقة وحسن الهندام اشترطوا أن يجري النديم مع موضة عصره التي سنأتي على بعض تفاصيلها؛ يقول كشاجم: “لا يستحق النديم هذا الاسم حتى يكون له جَمال ومروءة، أما جَماله فنظافةُ ثوبه وطيبُ رائحته وفصاحةُ لسانه، وأما مروءتُه فكثرة حيائه في انبساط جميل، ووقار مجلسه مع طلاقة وجهه”. وكان من موضة العصر القديم لِبْسُ العمائم والأخفاف في مجالس الملوك خاصة: “أما العمامة والخفّ فسبيله (= النديم) ألا يُخِلّ بهما وله أن يُلْطِفَهما ويخففهما، وإنما الغرض في ملازمتهما ألا ينحسر الرأس وتبدو القدم”، احتراما لمقام السلطان ومكانته.
ومع هذه الأوصاف الخارجية التي تريح الناظر؛ استوجبوا في النديم أن يتوفر على مهارات المحادثة وإدارة النقاش وحسن السؤال، ويضع لنا كشاجم وصفًا دقيقًا لما ينبغي أن يكون عليه من حسن الإنصات فيقول إن “حسن الاستماع إمهال المحدّث حتى ينقضي حديثه، وقلة التقلب إلى الجواب، والإقبال عليه بالوجه، والنظر والوعي لما يقول. ولا تسابقه إلى حديث يبدأ به لمعرفتك بذلك الحديث، بل تريه الارتياح له والتعجب منه، ما توهمه أنه لم يخطر ببالك ولا وقر في سمعك”!
ومن كمال إتقانهم لصَنْعة الحديث استهجنوا تناثره والانتقال بين المواضيع بدون موجب، وإنما هديهم في هذا “ألا يُقْتَضَب [الحديث] اقتضابًا ولا يُهْجَم عليه، وأن يُتوصّل إلى اجتراره بما يشاكله، ويسبب له ما يحسن أن يجري معه في غرضه”؛ فيكون تسلسل الأحاديث والمواضيع في المجلس أكثر تنظيمًا وانسيابًا. وكان من ضوابطهم في ذكر الأخبار ألا تطول، وأن تكون مختصَرة مؤدِّية للغرض الذي سيقتْ لأجله، فـ”من رسوم القصص ألا تطول حتى ينقضي باقتصاصها زمن المجلس، فإن ذلك بمجالس القُصّاص أشبه منه بمجالس الخَوَاص”!!
ظرف وظرفاء
بعد أن تعززت ثقافة المجالس في الحضارة الإسلامية باستمدادها العربي وتقويم الإسلام لها، وهبّت عليها نسائم الحضارات الأخرى فلقحت منها ما استحسنته عقول العقلاء، وأنتجت ثقافة “النِّدامة” و”أدب النديم”؛ أفرزت ثقافة مجالس النخبة طبقة كانت زينة للمجتمع عامة هي طبقة “الظرفاء”، فصارت لهم رسوم خاصة بهم وآداب اجتماعية (إتيكيت Etiquette) في السلوك العام والعلاقات الشخصية والكلام واللباس والزينة والمهاداة.
وعلى نحو ما خصص كشاجم رسالة تشرح “أدب النديم”؛ نجد معاصره الشاعر أبا الطيب الوشّاء (ت 325هـ/937م) يخصص كتابه ‘الظرف والظرفاء‘ (يسمى أيضا: المُوَشىَّ) لرصد هذه الظاهرة المجتمعية، ولعله استعان في تأليفه بخبرته في تثقيف موالي الملوك الذي يدلنا عليه قول الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1071م) في ‘تاريخ بغداد‘ إن الوشاء “روت عنه مُنيةُ جاريةُ خلافة أم ولد المعتمد على الله (ت 279هـ/892م”. وهو ما أتاح له مخالطة أوساط هذه الطبقة، والاطلاع على قواعد حياتها الخاصة ساعدته في رسم منهجية عمليّة لطالب الظَّرف، والمحب للالتحاق بهذه الطبقة المترفة والمرهفة.
ولعله كذلك استفاد من مصنفات سبقته بالحديث عن الظرفاء لكنها لم تصلنا؛ مثل كتاب ‘أخبار المتظرفات‘ الذي ذكره النديم (ت 384هـ/995م) -في ‘الفهرست‘- ضمن مصنفات الشاعر أبي الفضل أحمد بن طيفور (ت 280هـ/894م) الذي كان “من أولاد الدولة”، وبالتالي خبر مجالس كبرائها وما يدور فيها من رسوم الظرف؛ وكذلك تأليف ابنه عُبيد الله بن أحمد (ت 313هـ/926م): ‘كتاب المتظرفات والمتظرفين‘.
ويخبرنا الوشاء عن كتابه هذا بأنه ليس كتابًا غريبًا ولا دراسة شاذة، وإنما جاء نتيجة لبحث ميدانيّ جمع ما تحفل به مجالس تلك الطبقة من قواعد سلوك اجتماعي، أصبحت لهم “شرائعَ محدودة.. متى حالوا (= تغيّروا) عنها سموا بغير اسم الظرفاء عند أهل الظرف”؛ فها هو يقول: “وما اخترعنا في كتابنا هذا عِلمًا من عند أنفسنا..، ولكنا ألّفناه وجمعناه من أقاويل جماعة من الظرفاء والمتظرفات، وأهل الأدب والمروءات سمعناهم يتكلمون به ويستعملونه، فأحببنا أن نجمع ذلك”. ثم إنه يحدد لنا مختاراته في ذلك بأنها عبارة عن “أخبار طريفة، وأشعار ظريفة، وأشياء نمت إلينا من زِيّ ظرفاء الناس في الطعام والشراب والعطر واللباس، ومذهبهم فيما اجتنبوه من ذميم الأفعال، واستحسنوه من جميل الشيم والأخلاق”!
وإذا نحن أردنا أن نصوغ تعريفًا جامعًا للظَّرف؛ فينبغي علينا أن ننظر إلى مجموع ما ذكره الوشّاء من الصفات والخصائص التي يتوفر عليها الظرفاء، مستحضرين أنه لا يعني هنا الظَّرف بمفهومه العام المنصرف إلى “الظرافة” بمعنى امتلاك حس الفكاهة والقدرة على صناعة النكتة المضحكة. ويبدو لنا في بداية الأمر أن للظرف -بمعناه الخاص عند الوشّاء- ارتباطا عضويا بمفاهيم الأدب والمروءة، وبذلك تشي عبارته التالية: “فإنه لا أدب لمن لا مروءة له، ولا مروءة لمن لا ظرف له، ولا ظرف لمن لا أدب له”.
ثم نجده يعدد بعض الصفات والتعريفات لهذا الظرف فيقول: “اِعْلم أن عماد الظرف عند الظرفاء وأهل المعرفة والأدباء: حفظ الجوار، والوفاء بالذِّمار (= العهد)، والأنفة من العار، وطلب السلامة من الأوزار. ولن يكون الظريف ظريفًا حتى تجتمع فيه خصال أربع: الفصاحة والبلاغة والعفة والنزاهة”؛ فنحن نرى في تعريفه هذا للظرف كلاما على صفاتٍ ذاتيّة، وكمالاتٍ أدبيّة، ومهاراتٍ اجتماعيّة.
أعراف وآداب
وفي بعض هذه التعريفات نجد أن الظريف مرادفٌ لما نسميه اليوم “المثقّف”؛ ذلك أن “الظريف [هو] الذي قد تأدب وأخذ من كل العلوم فصار وعاء لها، فهو: ظَرْفٌ” لها. وهذا الظرف شاملٌ أيضًا لأهم معارف العصر التي كانوا يعبرون عنها بـ”الأدب” بمفهومه الذي أوضحه ابن خلدون (ت 808هـ/1406م)، حين قال -في ‘المقدمة‘- إن “الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف”. كما يشتمل الظرف على مهارات شخصية واجتماعية، كالخطابة والفصاحة والتودد وحسن الاستماع. وينصر اعتبارَ الظرف جامعا لكل هذه الأمور ما ذكره الوشّاء من أنه “لا بد للظريف من استعمال كل ما ذكرناه من حدود الأدب وشرائع المروءة”.
ومن هنا نفهم سرّ دعوة الشيخ الرئيس ابن سيناء (ت 428هـ/1037م) -في ‘كتاب السياسة‘- إلى أن يُسند تثقيف الأبناء وتأديبهم إلى أحد المنتمين لطبقة الظرفاء، حتى تشيع هذه الثقافة في المجتمع وتنمو مع أفراده منذ الصغر فتنتشر وتترسخ؛ فقد اشترط هذا الفيلسوف الطبيب “أن يكون مؤدِّبُ الصبي عاقلا ذا دين، بصيرا برياضة الأخلاق حاذقا بتخريج الصبيان، وقورا رزينا.. ذا مروءة ونظافة ونزاهة، قد خَدَم سَراةَ (= أعيان) الناس وعرف ما يتباهون به من أخلاق الملوك، ويتعايرون به من أخلاق السفلة، وعرف آداب المجالسة وآداب المؤاكلة والمحادثة والمعاشرة”.
وفيما يلي نعرض لطالبي الظرف من قرائنا موجَزًا مختصَرًا لحدود الأدب وشرائع المروءة، وبعض بنود مدونة السلوك والذوق المدني التي التزم بها الظرفاء في أزهى عصور الحضارة الإسلامية؛ فأول ما يبدأ به طالب الظرف -عند الوشّاء- هو اعتيادُ مجالس أهل العلم والأدب، والالتزام برسومها وتحصيل المعارف بـ”مجالسة ذوي الألباب، والنظر في أفانين الآداب، وقراءة الكتب والآثار، ورواية الأخبار والأشعار، وأن يُحْسِن السؤالَ ويتثبّت في المقال، ولا يُكثر الكلام والخطاب، إن سُئل عما يعلمه أجاب، وإن لم يسأل صَمَتَ للاستماع”.
كما يوصَى طالب الظرف بالحرص على السؤال وإجادة استدرار الحديث، ومن مبادئ الظرف العناية بالوقار وقلة المُزاح والبعد عن السُّخْف؛ قال الوشاء: “إن من زِيّ الأدباء وأهل المعرفة والعقلاء وذوي المروءة والظرفاء: قلة الكلام في غير أرَب (= حاجة) والتجالل (= الترفع) عن المداعبة واللَّعِب، وترك التبذل بالسخافة والصياح بالفكاهة والمُزاح، لأن كثرة المُزاح يذل المرء ويضع القدر ويزيل المروءة ويفسد الأخوة”.
فإذا تحقق المرء بهذه الأوصاف من أسباب الظرف صارت مجالسه جَنّة للجليس، وروضة للضيف، وتحصل من مجالسته متعة عظيمة وفائدة جليلة يتهافتٌ عليها كبار الناس وخاصتهم؛ فكما يقول الوشاء فإنه “ليس شيء أسرّ إلى ذي اللب ولا أحسن موقعًا في القلب من محادثة العقلاء ومجالسة الأدباء، فإن ذلك مما تُفتق به الأذهان وينفسح به الجَنان ويزيد اللبّ ويحيا به القلب”.
علاقات ممتدة
ولما كان الظرف -باعتباره إحدى ظواهر الذكاء الاجتماعي- صفة تترسّخ بالممارسة وتتوطّد بالمداومة؛ أصبح اتخاذ الإخوان واختيار الأصدقاء أكبرَ مُعين لطالبه على تمكّنه في نفسه واتصافه بأخلاقه، فإحاطة المرء نفسه بالإخوان دافعٌ له إلى اصطناع المكرمات والقيام بالمروءات التي تنمو وسط دفء الجماعة؛ فقد روى القاضي أبو بكر الدينوري المالكي (ت 333هـ/945م) -في ‘المجالسة وجواهر العلم‘- عن الإمام العابد محمد بن النضر الحارثي الكوفي (ت نحو 180هـ/797م) قولَه إن “أول المروءة طلاقة الوجه، وثانيها التودد إلى الناس، وثالثها قضاء الحوائج”.
على أن تكون هذه الصحبة والأخوّة مجانبة لإكثار الزيارة، لأن كثرتها جالبة للملال والاستثقال، حتى قالوا -حسب الوشّاء- إن “مَن أدمن زيارة الأصدقاء عدِم الاحتشاد عن اللقاء”! ثم إن الظرف يفرض على صاحبه التزاما صارما بآداب اجتماعية تميز طبقة الظرفاء حتى “لا يطمع في عيبهم العائب، ولا يقدر على مثالبهم الطالب”، ومن ذلك أنهم في مجالسهم ولقاءاتهم “لا يتبصقون ولا يتثاءبون.. ولا يتجشّؤون..، ولا يوّقّعون أكفهم ولا يشبكون أصابعهم ولا يمدّون أرجلهم، ولا يحكّون أجسادهم ولا يمسّون آنافهم، خاصة إذا كان أحدهم بين يديْ خليله.. أو حبيبه، أو من يحتشمه (= يحترمه) ومن يكرمه”.
وصاحب الظرف يتعاهد نفسه دائما محتفظا بجمال المظهر وحسن الهندام وأناقة الهيئة ونظافة البدن؛ فمن رسومهم أن “من تكامل ظرف الظريف.. ظهور طيب رائحته.. ونظافة بدنه، ولا يتّسخ له ثوب ولا يدْرَن له جيب، ولا ينفتق له ذيل، ولا يُرى.. في سراويله ثُقب، ولا يطول له ظفر ولا يكثر له شعر، ولا يفوح لإبطه دَفْرٌ (= رائحة نتنة)..، ولا يسيل له أنف، ولا يسودّ له كفّ..، ولا يرشش له بُصاق”.
وحين يسلك الظرفاء دروب الحياة العامة في جنبات المجتمع فإنهم “لا يَدخل أحدهم الخلاء من حيث يراه أحد..، وليس من زِيّهم.. السرعة في المشية، ولا الالتفاف في طريق قصدوه ولا الرجوع في طريق سلكوه..، ولا يشربون ماء الأحباب (= جِرَار الماء) ولا الماء في دكاكين الشراب، ولا ماء المساجد والسبيل..، ولا يدخلون دكان هرّاس (= بائع الهريسة) ولا دكان روّاس (= بائع الرؤوس المطبوخة)..، ولا يأكلون شيئا مما يُتَّخَذ في الأسواق، ولا يأكلون على قارعة الطريق ولا في مسجد ولا في سوق..، ولا ينبغي لظريف أن يمشي بلا سراويل..، ولا يماكس في الشَّرْي، ولا يركب حمار الكَرْي”!!
ومن خصال الظريف أنه يحرص على بناء علاقات صحية مع الناس، ويتوخى كل ما يبعدها عن المنغصات؛ يقول الوشّاء: “اعلم أنه من كمال أدب الأدباء وحسن تظارف الظرفاء صبرُهم على ما تولّدت به المكارم واجتنابهم لخسيس المآثم..، وأنهم لا يداخلون أحدًا في حديثه، ولا يتطلعون على قارٍ في كتابه، ولا يقطعون على متكلمٍ كلامه، ولا يستمعون على مُسِرٍّ سِرَّه، ولا يسألون عما وُورِيَ عنهم عِلمُه”! ثم إن الظريف مطالب كذلك بأن يحفظ للآخرين سلامة علاقاتهم البينية فلا يسعى في تنغيصها ولا إفسادها؛ ولذلك فإنه “ولا يغتاب أحدا ولا يذكر بسوء أخاً ولا يَنِمُّ بسريرة..، ولا يخون عهدا ولا يخلف وعدا..، ولا يُفسِد بين خليلين ولا يسعى [بوشاية] إلى سلطان ولا يهتك حرمة..، ولا يتحلى بالكذب”.
تحف وهدايا
يحكي لنا الوشّاء عما تستحسنه هذه الطبقة من “زِيّ الفريقين من الظرفاء والمتظرفات”، محددا بالتفصيل تفضيلاتهم في أنواع الثياب حسب بلد الصنع وجهة الاستيراد؛ فيقول: “اعلم أنه من زيّ الظرفاء… الغلائل الرِقاق، والقمص السفاق (= الغلاظ) من جيد ضروب الكتان، الناعمة النقية الألوان”. ويبدو أن إقبالهم على الملابس ذات الألوان الناصعة -كالبياض بدرجاته- كان أكثر من تفضيلهم غيرها، “وليس يُستحسن لبس الثياب الشَّمِعة الألوان المصبوغة بالطيب والزعفران”، كما كانت العناية بتناسق ألوان اللباس حاضرة عندهم بشدة، حتى وضعوا في ذلك قواعد منها أن “أحسن الزيّ ما تشاكل واتفق وتقارب واتفق”.
أما النعال فقد كانوا يستحسنون منها ما جمع لونًا آخر مع الأسود كالأحمر والأصفر ويكرهون الأحمر الخالص، ويستحسنون من الأحذية ما لبس معه جوارب من الحرير. وكانوا يتختّمون بالعقيق الأحمر والفيروز الأخضر والفضة، ويتجنب رجالهم التختّم بالذهب لأنه من عادة النساء. أما التطيّب والتعطر فقد اقتصروا منه على سبعة ألوان، منها المسك الممزوج بماء الورد، والعود المخلوط بماء القرفة المخمّر، وكانوا يتجنبون كلّ طيب يصبغ الثياب بلون لأن ذلك من طيب النساء. ومن رسمهم في الطعام تصغير اللُّقَم وتجنّب الشَّرَهَ والنَّهَم، وترك كل ما في أكله انتثار أو رائحة “ولن يقع الثوم في قِدر فيذوقونه ولا البصل فيقربونه”!!
وكان لهم في الهدايا سمت عجيب وعادات طريفة فاستحقت بذلك عندهم أن تفرد بالتأليف، ومن هنا جاء تأليف رسالة ‘التُّحف والهدايا‘ للأخويْن الأديبين الخالدييْن: أبي عثمان ابن هاشم (ت 371هـ/982م) وأبي بكر ابن هاشم (ت نحو 380هـ/991). وكان من آداب الظرفاء في الهدايا أنهم يستقبحون أن تكون في هداياهم ثمرة أتْرُجّ لأن باطنه خلاف ظاهره فهو طيب الرائحة حامض الطعم، ولا زهر السوسن لأن الاسم يحتوي على معظم أحرف لفظ “السوء”، ولا الياسمين لاشتماله على كلمة “اليأس” فكانوا يتشاءمون منه.
وهم يستحسنون إهداء الورد وزهر البنفسج في هداياهم، ويفضّلون من الثمار هدايا الخوخ والتفاح؛ وهذا الأخير “ليس في هداياهم ما يعادله.. لغلبة شبهه بالخدود المورّدة، والوجنات المضرّجة”! وكذلك “تهادى أهل الظرف المساويك، وأقاموها مقام الرهينة والتذكرة والوديعة والقُبلة، كما فعلوا باللُّبان الممضوغ والتفاح المعضوض (= المقضوم)”!! ولكنهم اختلفوا في إهداء الخاتم فـ”قد تطير بعض الظرفاء من هدية الخاتم وزعموا أنه يدعو إلى القطيعة، وتهاداه آخرون وأقاموه مقام التذكرة والوديعة..، والعلة فيما كرهه الظرفاء.. من هدية.. الخاتم.. أن الواحد إذا أهدى إلى خليله.. وأرسل إلى حبيبه بخاتمه.. ففُقِد ذلك من يده أو حوزته، بعثه باعث من غيرته على قطيعته وهجرته”!!
ثم إنهم كانوا إذا كتبوا رسائلهم اتخذوا لها “طرائف المناديل الرِقاق.. وطيبوها بالمسك..، وعَنْوَنوها بمتظرفات الأمثال والنوادر، وختموها بالغالية (= طِيب)”؛ حسبما يقوله الوشّاء. كما كانوا يختارون “مستظرَفاتِ الأشعار، ومُستحسَنَ الأخبار، ومُتنَخَّلَ الأبيات، ومنتخَبَ المقطَّعات، ونوادرَ الأمثال، ومُلَحَ الكلام”؛ ويكتبون بعض تلك المختارات على مقتنياتهم من “الفُصوص والتفّاح، والقناني والأقداح، وفي ذيول الأقمصة والأعلام، وطُرُز الأردية (= جمع رداء) والكِمام والقلانس.. والعصائب..، وعلى المناديل والوسائد والمخادّ والمقاعد.. والأسرّة..، وفي المجالس والإيوانات وصدور البيوت والقِباب، وعلى السُّتور والأبواب، والنعال..، وعلى الجِباه.. وعلى الخدود بالغالية والعَنبر..، والطبول والمَعازف والنايات والأقلام”!!
ومن نماذج تقليد كتابتهم على مقتنياتهم الشخصية أن أحد هؤلاء الظرفاء كتب على مخدته:
يا راقدَ اللـــــيلِ ممّن شَفَّهُ السَّقَمُ ** وهَــــدَّه قلقُ الأحـــــــزانِ والألمِ
جُدْ بالوصال لمَنْ أمسيتَ تملكه ** يا أحسنَ الناس مِن قَرْنٍ إلى قَدَمِ!
نقل واقتباس
وقبل الختام؛ لا بد أن نلفت نظرك -أيها القارئ الكريم- إلى ما تشير إليه معطيات مؤلَّفات النِّدامة والظَّرف من ارتياد أصحابها لبلاطات الحكم وصلاتهم بالطبقات المخملية في المجتمع العباسي انتماءً أسَريا أو مخالطةً وظيفيةً أو هما معاً، على نحو ما رأينا في الشاعريْن ابن طيفور والوشّاء؛ وهنا ينبغي لنا أيضا التعريج على شخصية ثالثة كانت ذات أثر كبير في هذا الشأن، ونعني الموسيقار العراقي زرياب الموصلي (ت 243هـ/858م) الذي غادر بلاط الخلافة العباسية ببغداد إلى جنان أندلس الأمويين فوصلها سنة 206هـ/822م، مستصحبا معه خلاصة ما وصلت إليه الحياة البغدادية من أبهة وأناقة في أذواق العوائد وأطباق الموائد.
فقد قال المقّري التلمساني (ت 1041هـ/1632م) -في ‘نفح الطيب‘- إن زرياباً “جمع إلى خصاله هذه [في معارف المعازف] الاشتراكَ في كثير من ضروب الظَّرف وفنون الأدب، ولطف المعاشرة، وحوى من آداب المجالسة وطيب المحادثة ومهارة الخدمة الملوكية ما لم يُجِدْه أحد من أهل صناعته، حتى اتخذه ملوك أهل الأندلس وخواصّهم قدوةً فيما سنَّه لهم من آدابه، واستحسنه من أطعمته، فصار -إلى آخر أيام أهل الأندلس- منسوبا إليه معلوما به”!
وقد كانت صيحات الموضة البغدادية -في عالم الأزياء والزينة وتصفيف الشَّعر- من أول أصداء مَقدم زرياب وقْعاً في الأندلس فصارت أقواها انتشارا وأبقاها آثارا؛ فالمقري يروي أن زرياباً “دخل إلى الأندلس وجميعُ مَن فيها -من رجل أو امرأة- يُرسِل جُمَّتَه (= شَعَر مقدَّم الرأس) مفروقا وسط الجَبِين عامًّا للصُّدغيْن والحاجبيْن، فلما عاين ذوو التحصيل تحذيقه هو وولده ونساؤه لشعورهم، وتقصيرها دون جباههم، وتسويتها مع حواجبهم، وتدويرها إلى آذانهم، ولإسبالها إلى أصداغهم.. هَوَتْ إليه أفئدتهم واستحسنوه”!
وأما الأزياء فإن الأندلسيين عرفوا بمقدم زرياب عادة تخصيص كل فصل من فصول السنة بما يناسبه من الثياب نوعا ولونا، ووضع لهم حدودا زمنية معروفة بينهم لذلك؛ فقلّدوه في “لبسه كل صنف من الثياب في زمانه الذي يليق به، فإنه رأى أن يكون ابتداء الناس لِلِباس البياض وخلْعهم للملوّن من يوم.. ست بقين من شهر يونية الشمسي من شهورهم الرومية، فيلبسونه إلى أول شهر أكتوبر الشمسي منها ثلاثة أشهر متوالية، ويلبسون بقية السنة الثياب الملونة. ورأى أن يلبسوا في الفصل الذي بين الحر والبرد -المسمى عندهم الربيع- من مصبغهم جِباب (= جمع جُبَّة) الخَزِّ (= نوع من حرير).. والدراريع التي لا بطائن لها..؛ وكذا رأى أن يلبسوا في آخر الصيف وعند أول الخريف.. خفائف الثياب الملوّنة..، إلى أن يقوى البرد فينتقلوا إلى أثخن منها من الملونات، ويستظهرون من تحتها إذا احتاجوا إلى صنوف الفراء”!