لماذا حولتم آيا صوفيا إلى مسجد؟ الرئيس التركي يستعرض تاريخ إسطنبول

إثر قرار القضاء التركي بإلغاء قرار مجلس الوزراء الصادر عام 1934، الذي قضى بتحويل “آيا صوفيا” في مدينة إسطنبول من مسجد إلى متحف؛ ألقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خطابا تاريخيا استعرض فيه تاريخ إسطنبول وآيا صوفيا، وتحدث عن الإمبراطورية البيزنطية والفتح العثماني، وتناول وجود الكنائس في تركيا، وتاريخ منطقة البلقان الحديث.

وقال أردوغان “في الواقع لم يكن هذا القرار الذي تم اتخاذه خلال فترة الحزب الواحد عام 1934 خيانة للتاريخ فحسب، بل أيضا ضد القانون؛ لأن “آيا صوفيا” ليست ملكا للدولة ولا أي مؤسسة، فهي ملك لوقف السلطان محمد الفاتح، مؤكدا حقوق تركيا التاريخية والقانونية التي تعود إلى 567 سنة.

وأضاف “هناك بعض النواقص التي سيتم تلافيها، حيث ستقام بعض التحضيرات في غضون 6 أشهر، سننهيها إن شاء الله خلال تلك الفترة، وبالطبع نقوم بتحضيرات، فليأت من شاء من المسلمين وغير المسلمين والعالم المسيحي. وعندما يأتون جميعا سيرون أنه لا وجود للأقاويل المتداولة هنا، بل على العكس سنقدم لهم أفضل نموذج عن كيفية نقل التراث الذي تسلمناه من أجدادنا للمستقبل”.

وقال أردوغان لا شك أنه من حق تركيا تحويل “آيا صوفيا” إلى مسجد بشكل يوافق ما جاء في سند الوقف (الوقفية)، وعرض سند وقفية السلطان محمد الفاتح، مؤكدا أن “كل ما تضمه هذه الوقفية أساسٌ لنا”، ولفت النظر إلى أن هناك أكثر من 453 كنيسة في تركيا.

فتح القسطنطينية
واعتبر الرئيس التركي فتح إسطنبول وتحويل “آيا صوفيا” إلى مسجد من بين أنصع صفحات التاريخ التركي؛ فبعد حصار طويل يدخل السلطان محمد الفاتح مدينة إسطنبول فاتحا في 29 مايو/أيار 1453، ويتوجه مباشرة إلى آيا صوفيا. وعندها ساور السكان البيزنطيون الخوف والقلق بانتظار مصيرهم داخل آيا صوفيا، لكن الفاتح أعطاهم الأمان على حياتهم وحرياتهم.

وتابع أردوغان “ثم يدخل (محمد الفاتح) آيا صوفيا، ويغرس رايته كرمز للفتح في المكان الذي يوجد فيه المحراب، ويرمي سهما باتجاه القبة، ويصدح بأول أذان داخله، وهكذا يسجل فتحه، ينتقل بعدها إلى أحد زوايا المعبد فيسجد سجدة شكر ثم يصلي ركعتين، وبتصرفه هذا يكشف عن تحويل آيا صوفيا إلى مسجد. السلطان محمد الفاتح عاين بدقة المعبد الذي يعد لؤلؤة إسطنبول من أرضيته إلى سقفه”.

وأورد المؤرخون أن السلطان محمد الفاتح تلا بيتين من الشعر عند وقوفه أمام منظر الخراب الذي حل بالصرح، قال فيهما “عنكبوت ينسج ستارة في قصر قيصر.. وبومة تحرس في برج أفراسياب”.

وتابع أردوغان “نعم، هكذا تسلم السلطان محمد الفاتح مدينة إسطنبول وآيا صوفيا، حيث كانتا مدمرتين وخرابتين متداعيتين”.

وأضاف “آيا صوفيا” التي تسلمها الفاتح، كانت بنيت للمرة الثالثة على أطلال كنيستين دمرتا وحرقتا خلال فترة الاضطرابات”.

اعلان
وافتتح السلطان “آيا صوفيا” للعبادة بعد 3 أيام من فتح المدينة، عبر جهد مضن بذله ليقيم صلاة الجمعة فيه.

ولما دخل الفاتح المسجد مع جيشه ومسؤولي الدولة صدحت التكبيرات والصلوات في استقباله، وخطب الجمعة في ذلك اليوم، وصلى شيخه “آق شمس الدين” صلاة الجماعة.

وعندما فتح السلطان محمد الفاتح إسطنبول حصل أيضا على لقب الإمبراطور الروماني، وبالتالي أصبح مالكا للعقارات المسجلة باسم الأسرة البيزنطية. ووفقا لهذا القانون، تم تسجيل آيا صوفيا باسم محمد الفاتح والوقف الذي أسسه، كما صدرت في فترة الجمهورية نسخة رسمية من سند الملكية المعد بالأحرف الجديدة (التي تكتب بها التركية الحالية)، ليسجل وضعه القانوني بشكل رسمي.

وقال أردوغان “لولا أن آيا صوفيا ملك السلطان محمد الفاتح، لما كان له الحق في تكريس هذا المكان بشكل قانوني”.

ويقول السلطان محمد الفاتح، في واحدة من مئات صفحاته الوقفية التي يرجع تاريخها إلى الأول من يونيو/حزيران 1453 ما يلي:

“أي شخص قام بتغيير هذه الوقفية التي حولت آيا صوفيا إلى مسجد، أو قام بتبديل إحدى موادها، أو ألغاها أو حتى قام بتعديها، أو سعى لوقف العمل بحكم الوقف الخاص بالمسجد من خلال أي مؤامرة أو تأويل فاسق أو فاسد، أو غيّر أصله، واعترض على تفريعاته، أو ساعد وأرشد من يقومون بذلك، أو ساهم مع من قاموا بمثل هذه التصرفات بشكل غير قانوني، أو قام بإخراج آيا صوفيا من كونه مسجدا، أو طالب بأشياء مثل حق الوصاية من خلال أوراق مزورة، أو سجله (المكان) في سجلاته عن طريق الباطل أو أضافه لحسابه كذبا، أقول في حضوركم جميعا أنه يكون قد ارتكب أكبر أنواع الحرام واقترف إثما.

ومن غيّر هذه الوقفية شخصا كان أو جماعة، عليه أو عليهم إلى الأبد لعنة الله والنبي والملائكة والحكام وكل المسلمين أجمعين، ونسأل الله ألا يخفف عنهم العذاب، وألا ينظر لوجوههم يوم الحشر، ومن سمع هذا الكلام، وواصل سعيه لتغيير ذلك، سيقع ذنبه على من يسمح له بالتغيير، وعليهم جميعًا عذاب من الله، والله سميع عليم”.

حماية الكنائس
واعتبر أردوغان أن السلطان محمد الفاتح حمل على عاتقه حماية الكنيسة الأرثوذكسية التي استبعدت من قبل المذاهب المسيحية الأخرى، وعمل على تطويرها، مؤكدا في الوقت ذاته أن “قباب هذا المعبد الكبير، وجدرانه، منذ ذلك اليوم (الفتح) وطوال 481 عاما، كانت مكانا للأذان والصلوات والتكبيرات والأدعية وختم القرآن والاحتفالات بالمولد النبوي الشريف. ومع فتح إسطنبول كانت آيا صوفيا رمزا له، عندما نهضت على قدميها من جديد بعد أن لحق بها الخراب طوال عصور، جراء الزلازل والحرائق والسرقات والإهمال”.

واعتبارا من السلطان محمد الفاتح، سعى كل سلطان عثماني إلى إضفاء مزيد من الجمال على مدينة إسطنبول وعلى “آيا صوفيا”، التي عرفت مع مرور الزمن بمسجد المدينة الكبير، بعد الإضافات التي ألحقت بها من أطرافها، لتغدو مجمعا يقدم خدماته للمؤمنين عبر العصور.

وقال أردوغان إن “آيا صوفيا” شهدت أعمال ترميم وصيانة متكررة، لتبدو بهذا الجمال، ولتغدو قرة عين الشعب التركي. وحتى اسمها الذي يعني “حكمة الرب” أبقي كما هو ولم يتم تغييره. وكما هو واضح، إن أجدادنا لم يكتفوا بتحويل هذا المعبد إلى مسجد بعد أن كان أطلالا لدولة متداعية آيلة للسقوط، بل أحيوه من جديد وأعلوا شأنه”.

عمارة الإمبراطورية
وعندما أنشئت آيا صوفيا في عهد “روما الشرقية” جلبت مستلزمات البناء من أطراف الإمبراطورية، من مصر حتى إزمير، ومن سوريا وصولا لبالكسير، أما السلاطين بعد الفتح فجلبوا أرباب الفنون من منطقة الأناضول وروميلي (الأراضي الأوروبية للدولة العثمانية) لإسطنبول من أجل بنائها وإعمارها من جديد.

والسلاطين العثمانيون عملوا على الاستفادة من الميراث الثقافي الذي ورثوه، وخير مثال على ذلك حفاظ محمد الفاتح على الفسيفساء الموجودة داخل آيا صوفيا.

هذه الفسيفساء ظلت على حالها على مدار سنوات طويلة، ثم تمت تغطيتها من أجل الحفاظ عليها من العوامل الخارجية، وهذا الفعل يتوافق مع جوهر الدين الإسلامي، وبما أوصى به النبي الكريم عندما طلب من المسلمين، عدم الاعتداء والتخريب عند تبليغ الرسالة.

وعندما دخل سيدنا عمر بن الخطاب القدس كفل حقوق المسيحيين واليهود، وحمى أماكن عبادتهم، وعلى نهج الدول التي أسسها الأجداد سار قادة الدولة العثمانية بعد الفتح ملتزمين بهذا الميراث.

ومن ثم، فإن مسجد آيا صوفيا وصل إلى اليوم الحالي بعد مرور 481 عاما، محتفظا بمحرابه ومنبره ومآذنه ومقصورته السلطانية ولوحاته ونقوشه وشمعداناته وسجاداته وكافة مرافقه الأخرى.

وعلى مر التاريخ في إسطنبول، كان مسجد آيا صوفيا أكثر الأماكن اكتظاظا بلقاء الجموع، حيث كان مكانا يتم فيه الاستمتاع بمناظر الجموع الغفيرة حقا خلال أيام استثنائية، مثل التراويح وليلة القدر والأعياد، لذا فإن حق الأمة التركية في آيا صوفيا ليس أقل من البناة الأوائل.

وقال أردوغان إنه مع فتح إسطنبول تحولت المدينة إلى مدينة سلام، يعيش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود، مؤكدا أن “التاريخ شاهد على الكفاح الكبير الذي أبديناه من أجل إرساء الازدهار والأمن والسلام والتسامح في كل مكان قمنا بفتحه، واليوم هناك الآلاف من المعابد التاريخية لمختلف الأديان بجانب مساجدنا في كل ركن من أركان بلادنا”.

وبالإضافة إلى ذلك، هناك كنائس وكنس في أماكن تجمع منتسبيها، وفي الوقت الراهن هناك 435 كنيسة وكنيسا مفتوحة للعبادة في بلادنا. هذا المشهد الذي لا يمكننا رؤيته في مناطق جغرافية أخرى يعد تعبيرا عن فهمنا الذي يرى اختلافاتنا على أنها ثروة؛ ومع ذلك -كأمة- لم نتمكن من تجنب الأمثلة المعاكسة حتى في تاريخنا الحديث.

تاريخ البلقان
وقارن أردوغان بين وجود الكنائس في تركيا وما جرى في أوروبا الشرقية ومنطقة البلقان التي اضطر العثمانيون إلى الانسحاب منها، وقال “لم يبق إلا عدد قليل من الأعمال التي بناها أجدادنا طيلة قرون قائمة، وانطلاقا من عبارة لا يمكن أن يكون مثالا، فإننا لا نعير أي اعتبار لهذه الأمثال السيئة، حيث نحافظ بحزم على موقف حضارتنا المبنية على التشييد والإحياء”.

ومن الجدير بالذكر أن الجدل حول آيا صوفيا يعود تاريخه إلى قرن من الزمن، فخلال أعوام احتلال الأناضول وإسطنبول دار نقاش حول تحويل آيا صوفيا إلى كنيسة، وكخطوة أولى تعكس النوايا، حطت وحدة احتلال مجهزة بالعتاد الكامل عند باب آيا صوفيا.

وفي ذلك الوقت، قال القائد الفرنسي لهذه الوحدة العسكرية للضابط العثماني حينها إنه يريد التموضع في المكان، وعلى الجنود الأتراك مغادرة المسجد، حسب الرواية التي استعرضها أردوغان.

لكن الضابط العثماني حينها، وهو الرائد توفيق باي، المكلف بحماية آيا صوفيا مع عساكره، قال للضابط الفرنسي لا يمكن الدخول إلى هنا ولن تدخلوها، لأن هذا المكان معبدنا، وإن حاولت الدخول عنوة فإن هذه الأسلحة الثقيلة ستعطيكم الرد الأول، ومن ثم سيأتيك الرد الثاني من مختلف أركان المسجد، وإن كنت واضعا نصب عينيك انهيار آيا صوفيا على رأسك، تفضل وحاول الدخول؛ ليخيّب برده هذا آمال المحتلين بالاستيلاء على آيا صوفيا.

وتابع أردوغان “من المعروف أن اهتمام الأجانب بآيا صوفيا استمر في السنوات اللاحقة بمختلف الأعذار، من قبيل أعمال ترميم الفسيفساء”.

وسبق أن أصدرت الحكومة في فترة الحزب الواحد (في بداية تأسيس الجمهورية التركية) بالبلاد مرسوما وضعت فيه قاعدة أن تكون المسافة بين مسجد ومسجد 500 متر على الأقل، لتغلق “آيا صوفيا” بذلك أمام العبادة.

وبعد فترة، وفي تاريخ الأول من فبراير/شباط 1935، تم الإعلان عن تحويل المكان إلى متحف، وفتحه أمام الزوار.

واعتبر الرئيس التركي أن “آيا صوفيا” أمانة تركها السلطان الفاتح، وتحولها إلى مسجد بعد 86 عاما “ما هو إلا انتفاضة جديدة متأخرة، وهذا المشهد بمثابة أجمل رد على الاعتداءات والهجمات الوقحة التي تستهدف قيمنا الرمزية في كافة أنحاء العالم الإسلامي”.