لا يزال الشاي مشروباً شعبياً ومشهوراً في كافة أنحاء العالم، وفي مطلع القرن الـ٢٠، كان يمثل أكبر صناعة تصدير في كل من الصين والهند المستعمرة.
ويمكن بتحليل المنافسة العالمية بين الشاي الصيني والهندي اكتشاف الكثير عن التاريخ الاقتصادي قبل التقدم التقني الغربي الذي يربط المؤرخون المعاصرون، في العادة، بينه وبين تطور الرأسمالية الحديثة.
وفي كتابه الصادر حديثاً عن جامعة ييل الأميركية بعنوان “حرب الشاي.. تاريخ الرأسمالية في الصين والهند”، يعتبر المؤلف أندرو ليو أن الممارسات التقليدية التي يكمن اكتشافها في تقاليد زراعة الشاي في الصين كانت أساسية لتراكم رأس المال في قارة آسيا، وليس التقنية الغربية الحديثة فحسب، ويوضح كيف أن الضغوط التنافسية أجبرت التجار الصينيين على تبني “مفاهيم صناعية” مجردة للوقت تشبه مفاهيم العمل والوظائف المعاصرة.
الرأسمالية والشاي
كان التجار الهولنديون أول من استورد أوراق الشاي إلى أوروبا عام 1609، ولكن بحلول أواخر القرن الـ18 كانت شركة “الهند الشرقية الإنجليزية”، بالاستفادة من حالة الاحتكار ودعم الدولة البريطانية، هي التي تسيطر على تجارة الشاي وتكتب صفحة مهمة غير مروية من تاريخ الرأسمالية الحديثة.
وخلال العصر الذهبي في القرن الـ18، كان الشاي يرمز إلى مكانة الحضارة الصينية البارزة في العالم، وحرصت الطبقات الأرستقراطية والبرجوازية الأوروبية على اقتناء السلعة الآسيوية المميزة التي ارتبطت بما أصبح يعرف “النمط الصيني” الذي يضم منتجات مثل الخزف والحرير الشرقي، وشكلت ثقافة مادية أعجبت بها البلدان الأوروبية وسعت لمحاكاتها.
وعلى مدار القرن الـ18، ضاعفت الأسرة الإنجليزية العادية استهلاكها من الشاي ٥ أضعاف، ومزجته بالسكر والحليب، وارتفعت الأرباح بشكل كبير، وكان الطلب على الشاي هائلاً لدرجة أنه أدى إلى إنشاء سوق عالمية مركزها بريطانيا وشكلت ضرائبها عُشر عائدات التاج البريطاني، مما كفل توسع الإمبراطورية في آسيا، وأعلن المدقق العام لشركة الهند الشرقية (الاستعمارية الإنجليزية) عام 1830 “أن الهند تعتمد بشكل كامل على أرباح التجارة الصينية”.
وبحلول أواخر القرن الـ18، بدأ المسؤولون الاستعماريون البريطانيون في تهريب الأفيون إلى مدينة كانتون الساحلية (المعروفة الآن باسم غوانغتشو)، وعندما حاول الإمبراطور دو غوانغ، الذي حكم من 1820 إلى 1850، فرض حظر طويل الأمد على المخدرات، أعلن المسؤولون والتجار البريطانيون الحرب تحت راية الدفاع عن حرية التجارة.
وافتتح الانتصار البريطاني في حرب الأفيون الأولى (1839-1842) ما يعرف اليوم في الصين باسم “قرن الإذلال”، وساعد الشاي في صعود الإمبراطورية البريطانية بينما بدأ أيضًا الانحدار الطويل للصين وسلالة تشينغ.
الشاي الصيني
كانت الصين تزرع نبات الشاي لأكثر من ألف عام، لكن إنجلترا دخلت المنافسة بسفنها المتطورة ومدفعيتها القوية وأول ثورة صناعية في العالم. وتشرح تجارة الشاي بعد حرب الأفيون الكثير عن تاريخ الرأسمالية؛ إذ تطورت الرأسمالية الحديثة في أماكن محلية وغير تقليدية.
وفي المناطق النائية الصينية، يعتبر المؤلف أن تراكم رأس المال لا يعتمد على الابتكار التكنولوجي المذهل ولا العلاقات الطبقية الخاصة، كما هو متعارف عليه، بل يظهر بدلاً من ذلك في منطق اجتماعي جديد للمنافسة العالمية.
وخلال بقية القرن الـ19، ارتفعت صادرات الشاي بشكل أسرع، حيث انضم المشترون من قارة أوروبا والولايات المتحدة إلى البريطانيين، وبحلول أوائل القرن الـ٢٠ استمرت تجارة الشاي في توظيف عدد أكبر من الناس – مثل أسر الفلاحين والنساء والأطفال والعمال الموسميين والحمالين في القرى- أكثر من أي من الصناعات الحضرية المبكرة في الصين.
واستجابة لذلك الصعود، ظهر الشاي لينافس الصين في الهند المستعمرة بريطانياً، وسريلانكا واليابان وتايوان وجزر الهند الشرقية الهولندية، وكانت تجارة الشاي الصيني تنمو بشكل أكبر من أي وقت مضى، مع تشابك خارجي أعمق.
ويعتبر المؤلف أن “تجارة الشاي الصيني تمثل بالفعل نقطة دخول الصين إلى الرأسمالية العالمية”، إذ تم تداول الشاي مع العديد من السلع عالمياً مثل الفضة البيروفية والسكر الكاريبي والمنسوجات الإنجليزية والأرز البورمي، وشكل هذا النشاط أول تقسيم عالمي حقيقي للعمل مدعومًا بالتخصص في المحاصيل و”أعاد هذا التقسيم العالمي للعمل تشكيل الريف الصيني بطرق ديناميكية وجديدة”.
ويعتبر المؤلف أن القصة المعتادة عن الرأسمالية ترتبط بمحركات الفحم ومصانع الصلب والتقدم في الهندسة الميكانيكية والكيميائية، لكن هذه الإنجازات التكنولوجية في الغرب التي ميزته عن بقية العالم، ومنه الصين، لا تنفي أن الرأسمالية وُجدت في الصين بطرق أخرى أسبق وفي مجالات مثل زراعة الشاي.
وأورد المؤلف كيفية إنتاج أوراق الشاي من خلال دورات عمل تضم أسر الفلاحين والنساء والمزارعين، وجامعي أوراق الشاي والعاملين في تحميصها وتسخينها وتعبئتها ومهام التخزين والغربلة وغيرها، معتبراً أنه “لسنا بحاجة إلى تحديد أحدث التقنيات لاكتشاف انتشار “الروح الرأسمالية”، بحسب مقاله لمجلة آيآون الإلكترونية.
الرأسمالية الحديثة
ويقول الكاتب “رغم أن تطوير الأدوات والتكنولوجيا كان السمة المميزة للصناعة الحديثة، فلا ينبغي لنا أن نركز عليها على حساب تحليل النشاط البشري والحياة الاجتماعية”.
وينقل عن ديفيد لانديس، مؤرخ الثورة الصناعية الأوروبية قوله “في الصين الإمبراطورية. كانت الفضيلة العظمى هي الانشغال والاجتهاد المتواصل في المهام”، مشيراً مع ذلك إلى غياب الساعات الميكانيكية وأجهزة ضبط الوقت في الصين، مقارنة بأوروبا، والتي يمكنها قياس الإنتاجية وتنظيمها بدقة.
ومع ذلك، يُظهر التاريخ الصيني عدم الحاجة إلى تحديد تقنيات متطورة محددة لاكتشاف انتشار ما أطلق عليه الفيلسوف الألماني ماكس ويبر “الروح الرأسمالية”، بما في ذلك تقسيم العمل وتراكم رأس المال ونمو الشبكات كثيفة العمالة واليد العاملة.
ويقول المؤلف إن قصة آسيا أساسية في تحولات الاقتصاد العالمي، لكن يجري تهميشها من قبل الدارسين، وبالمقابل يتبنى رواية أكثر تكاملية، تشمل الاعتراف بأن الصين وآسيا لم تكن مجرد متفرج على ولادة الرأسمالية في القرن الـ18 في أوروبا؛ بل ساعدت منذ البداية في تشغيل دوائر تراكم رأس المال المنتشرة في جميع أنحاء العالم، خاصة من خلال تجارة الشاي.
وفي الصين، كما في الهند ومعظم دول العالم، ترسخت الرأسمالية في الغالب من خلال إعادة استخدام التقنيات “التقليدية”، ولم تنشأ الرأسمالية الحديثة في ظروف تسليع الأراضي والعمل والمواد الخام وخصخصة الملكية المشتركة وحل الترتيبات الاجتماعية القديمة مثل الرق والإقطاع كما حدث في الغرب، وإنما عبر مسار بديل ترويه تجربة إنتاج الشاي في الصين وشرق آسيا.