هناك أكثر من 7 آلاف لغة حية في العالم، لكن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) تتوقع انقراض أكثر من نصفها بحلول نهاية القرن الحالي.
ويكشف أطلس لغات العالم المهددة بالاندثار الصادر عن المنظمة الأممية أن لغة تنقرض كل أسبوعين، وهذا يعني أن 25 لغة تنقرض سنويا، وإذا استمر الحال ستؤدي إلى اختفاء 90% من اللغات المهددة أو التي تعاني من خطر الانقراض.
ورغم أن مستقبل ومصير هذه اللغات والمئات غيرها يبدو قاتما، فإن اللغويين المتخصصين وعشاق اللغات في جميع أنحاء العالم يبذلون جهودا للحفاظ على هذه اللغات التي تكافح للبقاء في كلام البشر.
ومع موت عشرات اللغات كل عشرة أعوام، تختفي معها ليس القواعد اللغوية فحسب، بل طرق مختلفة لرؤية العالم.
لغات تختفي
في تقريره الذي نشرته صحيفة “لاكروا” الفرنسية، قالت الكاتبة أودري دوفري إن بضع ساعات من التسجيلات وعدد قليل من الكتب هي كل ما تبقى من لغة الوبخ، وهي لغة يتكلمها سكان شواطئ البحر الأسود. اختفت هذه اللغة في أوائل التسعينيات، مع وفاة آخر متحدث بها. على غرار لغة الوبخ، لا تستعمل العشرات من اللغات ويموت كل عقد العشرات منها بسرعة، وفقا لبعض أخصائي اللغة.
ووفقا لأطلس اللغات المهددة بالانقراض الذي نشرته منظمة اليونسكو عام 2010، اختفت حوالي 2500 من مجموع 7000 لغة مدرجة. منذ ذلك الحين، من المحتمل أن هذا الرقم تنامى أكثر.
ويقول ألكسندر فرانسوا، مدير الأبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي والمتخصص في اللغات الخاصة بالمحيط الهادئ، “عندما زرت فانيكورو في جزر سليمان عام 2005، وجدت أن لغتين من بين اللغات الـ٣ الأصلية في الأرخبيل، لم يكن يتحدثها إلا عدد قليل جدا من الأشخاص، 6 لإحداهما، و12 يتحدثون اللغة الثانية”.
وأضاف فرانسوا قائلا “في سنة 2012، لم يكن هناك سوى واحد من المتحدثين للغة تانيما و٤ يتحدثون لغة لونوفو”. وظلّت لغة فانيكورو الثالثة، التي تعرف باسم تينو، تنتشر تدريجيا بين جميع السكان المحليين، وهو الأمر الذي ساهم في تآكل اللغتين الأخريين.
في السياق ذاته، أردف المتخصص في اللغة فرانسوا “على نطاق إقليم صغير مثل هذا، نلاحظ تكرار هذه الظواهر في المجتمعات الأكبر بكثير جراء الهجرة واستبدال لغة بأخرى سائدة”. والجدير بالذكر أن تانيما ولونوفو وتينو لا تمثل ٣ أشكال مختلفة من اللهجة نفسها بل ٣ لغات مختلفة.
وأشارت الكاتبة دوفري إلى أن اللهجة تصبح في حد ذاتها لغة عندما لا يفهمها شخص لا يتحدثها. على سبيل المثال، يفهم سكان كيبك لغة سكان باريس لأنهم يتحدثون اللغة ذاتها. ولكن لا يفهم الفرنسيون والإنجليز بعضهم بعضا لأنهم يتحدثون لغتين مختلفتين. وينطبق الأمر ذاته على الأشخاص الذين يتحدثون لغة تينو ولا يفهمون الأشخاص الذين يتحدثون لونوفو.
انقراض سريع
تكرر سيناريو الانقراض السريع ذاته في الغابون، حيث حدّد أخصائي اللغة جان ماري هومبرت حوالي ٢٠ لغة يتحدث بها أقل من ١٠٠ شخص، وبالتالي من المرجح أن تختفي، وذلك رغم جهود الحكومة للحفاظ على تنوع اللغات في وجه اللغة الفرنسية التي فرضت نفسها في ظل الاستعمار. ووفق المختص في اللغة الأفريقية “يتخلى الناس عن اللغات إما لأن لغة رسمية فُرضت من قبل المستعمر أو الدولة، أو لأن لغة الجار لها قيمة اجتماعية أكبر”.
ونوهت دوفري بأن اللغات الإقليمية الفرنسية واجهت المصير ذاته. وحسب أخصائي اللغة جان بول شوفو، “شهد القرن الـ٢٠ تصدّعات حادة، ففي عائلة واحدة، كنت تجد جيلا نشأ على اللغة البريتانية (لغة هندوأوروبية نشأت جنوب شرقي أوروبا قديما وانتعشت في فرنسا)، وجيلا لا يعرف إلا اللغة الفرنسية. وأردف المصدر ذاته قائلا “لم يعد المستقبل محليا بل وطنيا. كلنا درسنا وعملنا خارج حدود منطقتنا، وبالتالي تعلمنا لغة مشتركة”.
وذكرت أن هذه الاتجاه يتنامى في ظل ازدهار عصر العولمة والمسافات التي تتقارب باستمرار من خلال وسائل الاتصال والنقل. في الوقت الراهن، أضحى تعلم اللغة الإنجليزية ضروريا لإجراء حوار خارج الحدود الفرنسية.
وأوردت الكاتبة أنه إلى حد ما، تبدو صورة التنوع البيولوجي في خطر، حيث نلاحظ فقدان بعض اللغات المحلية شيئا فشيئا. في هذا السياق، يقول الباحث ألكسندر فرانسوا “عندما تختفي لغة ما، فإن طريقة لرؤية العالم تختفي، لأن كل لغة تقوم بتشكيل واقعها وتصنع عالمها الخاص وفقا لاحتياجاتها”. إلى جانب ذلك، بالنسبة له، فإن كل لغة تشبه الساعة، جميعها لديها الدور الأساسي ذاته، لكن لا تشير كلها إلى الوقت بالطريقة نفسها.
لغات تزداد فقراً بموت متحدثيها
أضافت الكاتبة أن الفروق المعينة بين نباتات متشابهة أو أوصاف معينة لظواهر جوية دقيقة ومحددة للغاية تعتمد على مفردات موجودة فقط بين الشعوب التي تتعامل معها. لذلك، تحمل اللغات أيضا فلسفة المتحدثين بها.
على ضوء ذلك، توضح العالمة اللغوية في جامعة كولونيا، كاترينا هاود، أنه “في ‘موفيما’، اللغة البوليفية التي أعمل عليها، تختلف أداة التعريف الموجودة أمام الاسم إذا كان الشيء أو الشخص الذي أتحدث عنه موجودا جسديا بجانبي أو إذا كان غائبا. إنها طريقة لوصف العالم غير الموجود في اللغات الأوروبية، وفي كل مرة يموت فيها أحد المتحدثين البالغ عددهم 200 تقريبا، تصبح اللغة أكثر فقرا”.
وأوضحت دوفري أنه في أفريقيا يمكن أن تستخدم لغات البانتو ما يصل إلى 25 بادئة للتعبير عن “الأجناس”، المذكر والمؤنث والمكان والشيء والطبيعة، كما سبق للغات السكان الأصليين الأسترالية استخدام تعابير الاتجاهات السماوية، أي الشمال والجنوب والشرق والغرب، بدلا من الجغرافيا التي ترتكز على المتحدث، أي الأمام والخلف واليمين واليسار.
ومن جانبها، تلخص كاتارينا هاود قائلة “يمكن ترجمة الأساطير والمعرفة المتعلقة باللغة والحفاظ عليها حتى لو ماتت اللغة، ولكن التاريخ المشترك وبناء العالم والثقافة يموت مع المتكلمين. اللغة الميتة هي في أفضل الأحوال لغة دون تطور، مجمدة مع استمرار العالم في التقدم، وفي أسوأ الأحوال لغة منسية، اختفت مع الحضارة التي استخدمتها”.
وأبرزت الكاتبة أنه بحسب الخبراء اللغويين، فإن حيوية المجتمع وثقافته هي التي تضمن الحيوية اللغوية قبل كل شيء. فعلى سبيل المثال، انهارت اللاتينية، رغم تدوينها، مع الإمبراطورية الرومانية. في المقابل، بحسب جان ماري هومبرت “في الغابون، هناك عدد قليل من اللغات فقط التي لديها شكل كتابي طورته البعثات التنصيرية، لكن هذا لا يمنع اللغات الشفوية من نقل معرفتها وقصص شعوبها وأراضيهم”.