«لقد تحولت كل حرفة craft إلى وظيفة job، وصارت كل وظيفة تُرى باعتبارها وسيلة means». هذه مقولة مركزية ومؤسسة لكتاب ألان دونو، أستاذ الفلسفة في جامعة كيبيك الكندية، والمعنون بالفرنسية «La Médiocratie». تُرجم الكتاب حديثًا إلى العربية، واختارت مترجمته مشاعل الهاجري «نظام التفاهة» ترجمة لعنوانه. استوقفتني ترجمة المصطلح، لكنني، بعد قراءتي للكتاب، أعتقد أن «نظام التفاهة»[1] لم تكن فحسب ترجمة غير مناسبة للفظ «médiocratie» بالفرنسية، أو «mediocracy» بالإنجليزية، بل أنها أخلّت بعمق بفهم مقولة الكتاب. لقد تُرجم الكتاب من الفرنسية إلى الإنجليزية تحت عنوان ثانوي يحمل تفسيرًا للمعنى الذي يقصده الكاتب وهو «Mediocracy: The Politics of the Extreme Centre» أو «سياسات الوسط المتطرف».[2]
تترجم كلمة «mediocre» في العربية إلى «متوسط»، وتصف ما لا يعدو كونه كافيًا وذا جودة عادية، لكنها تحمل دلالة سلبية إذ تشي بأن حامل هذه الصفة غير متميز أو متفوق، وبالعامية هو ما يوصف بأنه «ماشي حاله» أو «مش بزيادة» أو ما يتراوح بينهما. وفي مثال أوردته إحدى القواميس الشارحة للّفظ، فإن C هي درجة «متوسطة» ينالها الطلاب الذين لا بأس بهم (ماشي حالهم). يقول دونو في مقابلة معه إن الـ«mediocracy» ليست سباقًا إلى القاع كما يعتقد أحيانًا، بل هي سباق إلى العادي (average). ولمصطلح «médiocratie» بالفرنسية سياق يعود إلى القرن التاسع عشر، كما يوضح دونو، حين كانت البرجوازية الفرنسية تستخدمها عندما بدأت الطبقة الوسطى بتثقيف نفسها، مبديةً اهتمامًا أكبر بالفن والسياسة. تبدلت معاني المصطلح واستخداماته، لكن تبقى ألفاظ الوسط والمتوسط تشكل المعاني الأوسع انتشارًا له بدلالاتها السلبية. ما يقصده الكاتب بالـ«mediocracy» هو الحالة العامة التي تقوم على حكم المعايير المتوسطة- العادية لمجمل إنتاجنا البشري؛ حالة تؤسس «لوسط لا يعود المعتاد هو محض توليفٍ مجردٍ .. بل يصبح هو المعيار الذي نضطّر للخضوع له». لا يدرس الكاتب هيمنة قليلي الكفاءة بقدر ما يدرس حالة الهيمنة التي يُنشئها هؤلاء في المجالات المختلفة. ويبني الكاتب على مقصده هذا سؤال الكتاب الأساسي: ما الذي يحدث حين تُرفع الحالة العامة التي تقوم على معايير متوسطة، عادية، فيها شيء من الضحالة، إلى مصاف السلطة وتجتاح مجمل جوانب حياتنا وطرق تفكيرنا وقدراتنا الفنية ومؤسساتنا الثقافية والتعليمية ونُظمنا السياسية والقانونية؟
إلى «الوسط-العادي» سر: عليك أن تلعب اللعبة
يرى دونو أن مَعْيَرة العمل بشكله الرأسمالي الحالي، بحيث يصبح لكل مهمةٍ منتجٌ نهائيٌ يحتل مكانًا في السوق ويخضع لمعاييره، أدت إلى جعل العمل مجرد وسيلة بسيطة بين وسائل السوق، تعلي من الجودة التقنية على حساب التفكير في العمل والمغزى منه. ويلخص دونو هذا بما يشبه صرخة غاضبة: لقد فُقدت الحرفة. يعود دونو إلى ماركس الذي لاحظ مبكرًا العملية التي يختزل فيها العمل من كونه علاقة اجتماعية إلى مجرد قوة عمل ثم إلى وحدة مجردة للقياس ثم إلى تكلفة. في هذا الشأن، يقول ماركس «إن السيرورة التي تسهم في خلق علاقة رأسمالية لا يمكن أن تكون إلا سيرورة انفصام العامل عن ملكية شروط عمله، إنها السيرورة التي تحول وسائل الحياة الاجتماعية ووسائل الإنتاج إلى رأسمال».
بحسب دونو، فقد أصبحنا جميعًا نعمل في وظائف ومهن ذات طبيعة امتثالية، تتطلب مقدارًا كافيًا من الكفاءة والجودة، نلتزم فيها بمتطلبات دقيقة ومعايير تقنية تخفي كسلًا فكريًا، وتقوم على منفعة متبادلة غير متكافئة بين الموظف وصاحب الشركة، والباحث ومؤسسته، والأستاذ وجامعته. «لقد انتصرت النزعة الإنتاجية وما يصاحبها من عمليات تراكمية»، يقول دونو. إذ يؤدي تحويل كل عمل لسلعة إلى هيمنة حالة «الوسط-العادي»، بسواعد وهمم قليلي الكفاءة الذين يديرون المؤسسات والحكومات ويحافظون على ديمومتها بشكلها الضحل هذا. نظام العمل السائد نفسه هو ما يشد العاملين إلى الامتثال إلى «الوسط-العادي»، وبحسب دونو «إن جعل أي فعل يمتثل لوسطه الأبسط»، يعني امتثال المجتمع ككل لمعايير هذا الوسط. لنأخذ مثالًا عمليًا: إن كنت موظفًا في شركة كمبيوتر، ستتعلم كيف تصلح عشرة أجهزة بشكل مقبول خلال أربعة أيام بدل أن تصلحها بشكل متقن خلال أسبوع، فمعايير الأداء والترقي مبنية على معادلة التكلفة والربح بشكل رئيس. وحين تتعارض أهدافك الشخصية والارتقاء الوظيفي مع العمل المتقن المفكر به، ستمتثل لـ«الوسط-العادي» ذي الجودة المحدودة أو الكافية. أن تلعب اللعبة، بالنسبة لدونو، يعني أن تساهم في مأسسة الامتثال إلى سلطة «الوسط-العادي» وجعله نظامًا عامًا. يشرح دونو ذلك بأمثلة عديدة منها العمل في التدريس، فصحيحٌ أن المدرسة قد تفصل مدرسًا لا يعرف شيئًا عن المنهاج الدراسي، لكنها قد تفصل أو تعاقب آخر يغير من قواعد التدريس بعمق بهدف أن يوصل التلاميذ الذين يعانون من صعوبات تعلم إلى مستوى المتفوقين. كلاهما قد يكتشفان أن «الوسط-العادي» المتمثل بالالتزام بالمنهاج والمعايير التدريسية السائدة المقبولة هو طريق النجاة ومسار الترقي.
تأخذ اللعبة أشكالًا مختلفة وتنتج جيوشًا، لا بل مجتمعات، من الخبراء والتقنيين الموظفين في مؤسسات مختلفة. تجدهم في الحكومات يديرون الدولة بمنطق الشركات وعقلية الـ«خبير بلا روح» على حد تعبير ماكس ڤيبر،[3] وفي الصحف يعيدون إنتاج خطاب السلطة على شكل تقرير صحفي «محايد»، وفي المستشفيات يصرفون للمرضى أدوية لا يحتاجونها بغية مكافأة عن كل إجراء طبي يقومون به، وفي الجامعات يكتبون ويتحدثون كأنهم آلات مبرمجة، يَدرسون الواقع بالشوكة والسكين. هذه اللعبة التي تكون أحيانًا «مجرد دهان ملطّف لضمير اللاعبين المُدلّسين»، نقبل اللعب ضمن شروطها من باب الضرورة والمتاح، ونعيد تعريف ذواتنا والأشياء وفقًا لقواعدها، فما هو غير مقبول يصبح ضروري، وما هو عنف علني يصبح سنّة الحياة: إنها تحيلنا إلى أغبياء وجشعين، يقول دونو.
حين يتسلل السوق إلى الجامعة
قبل قرابة 100 عام، ألقى ماكس ڤيبر محاضرته الشهيرة «العلم بوصفه حرفة»، في إطار سلسلة من المحاضرات نظمتها عصبة الطلاب الأحرار في ميونخ بعنوان «العمل الذهني بوصفه حرفة»، وكانت العصبة جزءًا من حركة تأسست كردة فعل على التغييرات التي طرأت على جوهر التعليم العالي في ألمانيا. يقول ڤيبر في بداية محاضرته «إن حياتنا الجامعية الألمانية آخذة بالتأمرك في عدة نقاط، شأن حياتنا بشكل عام»،[4] مقارنًا بين النظامين التعليميين الألماني والأمريكي، موضحًا سلبيات وإيجابيات كلٍ منهما، ومبديًا تخوفه من أن تخترق العلاقات التجارية الجامعة وتغير طبيعتها.
يستعرض دونو في كتابه التغيرات التي طرأت على بنية الجامعات في الغرب بشكل ما كان ممكنًا لڤيبر أن يتخيله قبل قرن من الزمن. اختار دونو الجامعات، بوصفها مؤسسات من المفترض أنها لا تخضع لمعايير السوق، كمثال مركزي يبيّن عبره التأثير الحاد للسوق على المؤسسة وإنتاجها والعاملين فيها. فقد أُجبرت الجامعات، كالعديد من المؤسسات، على الامتثال لسلطة «الوسط- العادي»، سواء في أسلوب إدارة الجامعة، أو اتجاهات البحث فيها أو توظيفاته، أو في شروط القبول والتخرج.
بالنسبة لدونو، أن تلعب اللعبة يعني أن تساهم في مأسسة الامتثال إلى سلطة «الوسط-العادي» وجعله نظامًا عامًا
ضمن اقتصاد كهذا، يقول دونو، أصبحت الجامعات تدار بعقلية الشركات وصارت جزءًا من مكونات النظام المالي والصناعي والأيديولوجي. فالجامعات الكبرى الممولة من قبل الحكومات صارت مصنعًا للشركات، تعمل على إنتاج ما تحتاجه من معرفة وتقنيات وكوادر بشرية. «العقول ينبغي أن تفصّل وفق احتياجات سوق العمل»، يقول رئيس جامعة مونتريال عام 2011. بحسب دونو، من الطبيعي أن يصدر هذا الاقتباس عن رئيس جامعة يديرها مدراء بنوك، وشركات صيدلة وطاقة وصناعة، ويشغلون مقاعد في مجالس صنع القرار فيها.
يشير الكتاب إلى عدة أمثلة توضح كيف تتصرف الجامعات كشركات، إذ يذكر حالات فشل ذريع وخسارات بالملايين، كانت الجامعات قد استثمرتها في أكثر الملاذات الضريبية إثارة للجدل في العالم. ويعطي دونو عددًا من الأمثلة لجامعات كبرى في أمريكا الشمالية وبريطانيا كانت قد استثمرت عشرات الملايين في صناديق خارجية (Offshore) ومشاريع مشتركة لتطوير الاستكشافات البترولية، الأمر الذي كشفته أوراق برادايس عام 2017. من جهة أخرى، لم تعد الجامعات تبيع للشركات أبحاثها وتصدّر لها خبرائها بعد أن ضيقت تخصصاتها على مقاس السوق فحسب، بل أصبحت شريكة في التلاعب بالرأي العام بعدما باتت أيضًا أداة أساسية لشركات الضغط السياسي.
في الجامعات أيضًا، يقول دونو، عليك أن تلعب اللعبة. متطلبات النشر ومعايير الترفع، تفرض على الأساتذة إنتاجًا مستمرًا ذا جودة مقبولة، أو إعادة تدوير أبحاث قديمة، أو سرقة جهد طلابهم ومساعديهم الذين يعملون بأجر قليل دون تثبيت وظيفي «tenure»، ولا تأمين صحي أو مزايا أخرى. واقع المساعدين هذا ينطبق على أكثر 40% من أعضاء هيئة التدريس في الولايات المتحدة، يقول دونو، شارحًا متطلبات التوظيف والترقي ومعايير المنح وانعكاسها على شكل العلاقات الاجتماعية في الجامعات بالاعتماد على تجارب وأفكار عدد من الأساتذة الجامعيين، من ضمنهم عالم الاجتماع البريطاني أليكساندر أفونسو، الذي كتب بحثًا عنوانه «كيف تشبه الأكاديميا عصابة المخدرات».
ما يميز الكتاب أيضًا منهجُ دونو وأسلوب كتابته المتمردين على الصيغ السائدة في الأكاديميا. كأنه يريد أن يرينا الفرق بين الكتابة الممتثلة لـ«الوسط-العادي» والمُمَعيرة بدقة على مقاسه، وبين نقيضها. يشن الكاتب هجومًا مدعمًا بالأمثلة على الأكاديميين المتواطئين مع معايير الكتابة الأكاديمية المقبولة والمرحب بها. «لقد استسلموا»، يقول دونو، لأسلوب يفرض على الكتابة أن تراوح المنطقة الوسطى كي تكون علمية. يمكن تلخيص نصيحة دونو لمن يريد أن يلعب اللعبة بالتالي: عليك أن تختار كلمات تبدو علمية؛ استبدل النقود بالعملة، الطبقة بالفئات الاجتماعية، النهب بالحوكمة السيئة، وابتعد عن استخدام مصطلحات مثل العدالة الضريبية «لأنهم يعتبرونها سياسية إلى درجة كبيرة». إياك أن تخرج عن النبرة المعيارية.
إنها حوكمة؛ إنه خبير
إذا كان تقسيم العمل مصدرًا رئيسًا لظهور وهيمنة هذا «الوسط-العادي»، فإن الاقتصاد هو المجال الذي تتسيد فيه مفاهيمه ومعاييره بثقة لا مثيل لها. بفضل الخبراء -الذين يقول دونو إنهم «كلما تراجعت الأوليغارشية إلى عاداتها السيئة» يتسارعون إلى إنقاذها- لم نعد نستطيع أن نفكر بالاقتصاد بشكل جمعي. وحين يكون كل الكلام والكتب والبرامج التلفزيونية مصمَّمين بحيث لا نستطيع أن ندرك أن هذا النظام في حالة من الفوضى العارمة، سيبقى الاقتصاد موضوعًا خاصًا بالخبراء. يستشهد دونو بصاحب البيت في رواية كافكا، «المحاكمة»، حين يتحدث عن فهمه للنظام القضائي، مشبهًا إياه بحالنا مع الاقتصاد اليوم: «أعتذر إن كنت أتفوه بحماقات، لكنه يبدو شيئًا علميًا أنا لا أفهمه، ولا حاجة لي إلى فهمه أصلًا».
يصف دونو خبراء الاقتصاد بالسائرين أثناء النوم، ويسخر من التضليل الذي يمارسونه، قائلًا إن نظرية «التقاطر إلى الأسفل»، التي تعدنا بأنه إذا عمّ الثراء لمن هم فوق فسيستفيد منه بالضرورة من هم تحت، تم تحديها من كل جانب، ومع ذلك، ما زال الخبراء يرددونها ببلادة. ويتساءل دونو: «لو كان المتنبئون بأحوال الطقس عبر العالم يتنبأون بالمطر باستمرار على قدر ما يعلن فيه الاقتصاديون نظرية تماطر الثروة الخيالية هذه، لتوقفنا عن الاستماع لهم منذ زمن طويل». لن يتوقف الخبراء عن تليين النظام لكي يبدو طبيعيًا وأقل عنفًا مما هو عليه. سيظلون يثرثرون، لكن بوقار العلم. فـ«في حين أن الثرثرة بين النساء هي أمر محل سخرية حول العالم باعتباره دنيئًا وسخيفًا .. فإن الثرثرة بين الرجال تسمى نظرية أو فكرة أو واقعة»، كما ينقل دونو عن الكاتبة النسوية أندريا دونكن.
يقلب الكاتب عدة مفاهيم ويعيد تعريفها من جديد، ومن أهمها الحوكمة. فهي تعني عنده تفريغ السياسة، وتلطيف العنف والنهب، وتشويه دور الدولة بحيث تغدو مجرد هيئة تسيير أعمال. ويشرح دونو كيف تعمل الحوكمة كتجسيد لـ«الوسط-العادي-المقبول»، فلم يعد ضروريًا أن تستنزف ثروة شعب ما عن طريق استعماره مباشرة، فالحوكمة توفر غطاءً تشريعيًا لعمليات التحكم والاستغلال والتدمير الممنهج لموارد الآخرين، إضافة إلى أنسنة منقطعة النظير.
ركّز دونو في كتابات سابقة على الدور الذي تلعبه شركات التعدين متعددة الجنسيات في بلاد عدة، وبعض هذه الشركات رفعت قضايا ضده في المحاكم الكندية. في كتابه هذا، يشرح الآلية السياسية التي تنظم عمل الشركات الأجنبية في التنقيب عن الذهب في هايتي والدومينكان: السيطرة من خلال الحوكمة. فالشراكة بين الشركات المتعددة الجنسيات ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص والدولة، التي ينظر لها كقرين، تهدف بحسب دونو لشرعنة استغلال الشركات وشركائها ومراكمتهم الثروات وتدمير موارد هذين البلدين. من المهم أن نتذكر أن هذا ينطبق على العديد من الدول في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. فإذا كانت هايتي بالنسبة لهم «فقاعة إنسانية تساوي 10 مليارات دولار»، فإن أفريقيا التي تتلقى من الخارج سنويًا 161 مليار دولار بين مساعدات وقروض وتحويلات مغتربين، يُنهب منها في المقابل سنويًا 203 مليار دولار بين تهرب ضريبي وأرباح صافية للشركات الأجنبية العاملة هناك، فضلًا عن كلفة التدمير البيئي الذي تلحقه بالقارة.
تُغيّر الحوكمة وظيفةَ المؤسسات العامة وتخضعها لمصالح خاصة، فالدولة تصرف مبالغ طائلة على شق الطرق وتهيئة البنية التحتية في المناطق المنوي التنقيب عن الذهب فيها، في الوقت الذي تعاني فيه مدن أخرى من ترهل البنية التحتية والخدمات. في الدومينكان، كان عائد الحكومة من مشروع تنقيب نفذته شركتان كنديتان 17.5% من الأرباح، لا تحصل عليه الحكومة إلا بعد أن يحصل حملة الأسهم على نصيبهم، وبعد أن يُخصم من المبلغ تكاليفُ مشروع تنظيف نهر قامت إحدى الشركتين بتلويثه. ويقول دونو إن الشركتين اتُهمتا بتلويث 2500 متر مكعب من الماء في الساعة، في منطقة لا تصل المياه فيها إلا إلى 25% من السكان. هل يمكنك البدء في تنمية منطقة ما فيما أنت تدمرها؟ يتساءل دونو. يبدو أن الحوكمة تستطيع فعل هذا.
خاتمة: عن الطبقة-الجدار
إن إدارة الدولة والاقتصاد بآلة الحوكمة وجيوش الخبراء والتقنيين تغيّر شكل النظام السياسي. فالحوكمة كما يشرحها دونو تصادر المجال السياسي الذي تغدو السلطة والقوة فيه لا مركزية بشكل لا مثيل له. يتمثل هذا في القوة التي تمنحها الحوكمة لمجموعات وفئات واسعة من مؤسسات المجتمع المدني والمهنيين وشرائح من البيروقراط وموظفي القطاع الخاص، لدرجة تصبح فيها المواطنة «تجمع لأشخاص من المناصرين للمصالح الخاصة»، كما يقول دونو.
هذا الحال، بالنسبة له، يُفقد الديمقراطية أهم أفكارها، كالصالح العام والأغلبية والشعب. لكنه يرى في الوقت نفسه أن المسألة أصبحت أكبر من ذلك. يربط دونو بين الفساد المستشري في هذا النظام والديمقراطية بشكلها الحالي في الغرب. فهو يدعونا إلى التفكير بالفساد بشكل أعمق، لا بكونه تشوهًا ظرفيًا، بل بكونه هجومًا وتدهورًا راديكاليًا، له تأثير عميق على ما هو قائم، ينتج شيئًا جديدًا في نهاية العملية. فالفساد ليس عملية مستمرة لا نهاية لها، بقدر ما هو انتقال من حالة إلى أخرى. لهذا، يقول دونو، من المضلل القول إن الفساد يهدد الديمقراطية، بل أن المبدأ الديمقراطي أصبح فاسدًا لأنه يفسح المجال للحوكمة المجبولة بالفساد.
المشكلة أن الرد على ما يقوله دونو عن الديمقراطية يمتثل للوسط الأبسط، ويعوزه الكثير من الخيال. نرى ذلك بوضوح في مقابلة مع الفيلسوف الفرنسي ألان باديو، يمكن اعتبارها تجسيدًا مسرحيًا بين ما هو لامع وخلّاق وبين ما هو وسط-عادي، قليل الكفاءة، محدود الخيال؛ أي ما بين باديو ومحاوريه. يقدم باديو في المقابلة نقدًا عميقًا لشكل النظام الديمقراطي في فرنسا والغرب، ليرد المحاور بالمقولة البليدة السائدة، المعطِّلة للمخيال، بأن هذا الشكل، على علّاته، هو الأقل رداءة. بالنسبة لفيلسوف كبير كباديو لم تكن مقولة «الأقل رداءة» غير مقنعة فحسب، بل كانت علة لتبرير الرداءة في مختلف مستوياتها.
مأخذي على الكتاب هو قفزه من واقع إفساد النظام الديمقراطي إلى ضرورة الثورة عليه، دون تطرق للدور الذي ستلعبه هذه الجيوش الكبيرة من المهنيين والأكاديميين والخبراء و«مدراء البؤس» في المنظمات غير الحكومية وغيرهم، ممن يشكلون فئات واسعة من الطبقة الوسطى -التي يصفها بـ«الطبقة الـmediocre»- في أي عملية تغيير. بذلك، يترك دونو الباب مواربًا لاستنتاجات سطحية تتقاطع مع شعار «1% مقابل 99%»، تتجاهل أو تغفل عن أنه، إلى جانب الـ1% التي لا تمثل سوى رأس الأوليغارشية، هناك نسبة غير بسيطة تدافع بضراوة عنها وعن نظامها، مقابل ما تحصّله من «فتات»، مقارنة بما تملكه الأوليغارشية. هذا الحفاظ على الفتات الذي يناله «المتوسطون» بحكم مواقعهم الطبقية والأدوار التي يشغلونها هو ما يخلق بينهم خوفًا دائمًا إما أن يشحذ دفاعهم عن النظام، أو أن يجعلهم يطالبون بتغيير لا يؤثر بنيويًا على التشكيلات الاجتماعية السائدة، فضلًا عن أن امتثالهم لسلطة «الوسط-العادي» يحجّم قدرتهم على تخيل نظام مختلف.
طالما بقي فن الحكومات في الغرب، كما يقول ألان باديو، فنَّ إدارة خوف الطبقة الوسطى بكل أشكاله،[5] فستقف هذه الطبقة سدًا منيعًا أمام أي تغيير جوهري يسعى لعالم جديد.