ما يزال “قطار الشرق السريع” الذي أنشئ عام 1883 يستهوي الكتاب والمؤرخين، لما كان يمثله من رمزية حضارية وثقافية ألهمت العديد من الأفلام السينمائية والأعمال الأدبية، ومن أبرزها الرواية البوليسية “جريمة في قطار الشرق” التي نشرتها البريطانية أغاثا كريستي عام 1934.
وفي الرواية التي نشرت لأول مرة في المملكة المتحدة، يكون القطار مزدحما وركابه من شتى الجنسيات، وينطلق من إسطنبول عبر يوغوسلافيا التي تحدث فيها جريمة قتل غامضة لأحد الركاب، خصوصا أن المحقق يجد أن كل ركاب القطر لديهم دوافع محتملة لها.
ويعود الكاتب الإسباني ماوريسيو ويزنثال (1943) إلى قصة هذا القطار الذي كان يربط لندن بإسطنبول عبر باريس ومحطات أوروبية أخرى، ليدوّن سيرته التي تعجّ بحكايات فنانين وجواسيس وموسيقيين وكتاب سافروا على متن تلك الرحلة التي تربط بين قارتين وعالمين.
أورينت إكسبريس
وقالت صحيفة “لاراثون” إن ذلك القطار أصبح رمزا للحضارة وترنيمة للثقافة، وإن الكاتب ويزنثال يستدرج القارئ في كتابه “أورينت إكسبريس- قطار أوروبا” إلى عوالم الأمس، من خلال السيرة الإنسانية والمادية لقطار الشرق السريع التي هي “ليست تاريخا للسكك الحديدية، بل تاريخ وقائع حضارة بأكملها”.
وأضافت الصحيفة أن قصة ذلك القطار ارتسمت في ذاكرة الأوروبيين بأنها رمز للأناقة (زخارف فنية دقيقة وستائر دمشقية على النوافذ وألواح زهرية على الجدران) وعنوان للمغامرة نحو إسطنبول، كإحدى بوابات الشرق بما يمثله من عوالم سحرية وأسطورية وما يفتحه من آفاق بعيدة.
وحاورت صحيفة “لاراثون” الكاتب الإسباني ذي الأصل الألماني الذي ألف العديد من الروايات والأعمال الأدبية، من بينها كتاب عن قطار الشرق السريع صدر عام 2002. واستعاد ويزنثال مرة أخرى تلك الأسفار التي كان من السهل فيها رصد صدى حوارات كتاب مشاهير وتعقب مؤامرات الجواسيس وفراق العشاق.
قطار أوروبا
يستدعي الكاتب ذكرى الشخصيات التي التقى بها في رحلاته (مغنية الأوبرا ماريا كالاس، وفنان البيانو الأميركي البولندي روبنشتاين، والممثلة الأميركية الألمانية مارلين ديتريش، والممثل الإنجليزي لورنس أوليفييه)، ويعود إلى أسفار مشاهير آخرين من قبيل المصمم الفرنسي كوكو شانيل، والفنانين الإسبانيين بيكاسو وسلفادرو دالي، وعالم النفس النمساوي سيغموند فرويد، والروائي الأميركي الروسي نابوكوف وغيرهم.
وعن “أورينت إكسبريس” يقول الكاتب إنه ” كان قطار أوروبا من التاريخ الحديث إلى الحرب الباردة، والستار الحديدي عندما انكسرت أوروبا، تتويجا للمثل العليا عندما كانت تطمح لغزو الأسواق وعبور الأراضي من إنجلترا وفرنسا إلى وسط أوروبا، رمز أوروبا الثقافة الحديثة”.
و يضيف ويزنثال في حواره مع لاراثون أن ذلك القطار يمثل “الإنسان والثقافة والحضارة وعالم الاستكشافات الجغرافية والتقدم، لأنه لم يكن قطارا فحسب ولكن لأنه فتحٌ لنا.. القطارات تكسر الحدود وتفتح العقول وتتفاعل مع اللغات المختلفة”.
تمازج الثقافات
وعن مصير ذلك القطار أمام صحوة القوميات اليوم، قال الكاتب إن ذلك أمر مرعب وفظيع لأن كلمة أمة في نظره “لا تعني أي شيء، مثل كلمة: مصيدة فئران”.
ويتحدث الكاتب عن بدايات “أورينت إكسبريس”، عندما كانت أوروبا “مزيجا من اللغات والفنون والثقافات والحساسيات، فسيفساء ملونة تثري الرجال والنساء.. كان ذلك قبل أن تصبح السياسة ملوثة بأفكار القومية. كان القطار يربط عوالم تركيا بباريس ولندن وكتابها، مثل أغاثا كريستي والمسافرين الذين يغويهم الفضول إلى الشرق لاكتشاف ثقافات جديدة”.
وانتقد ويزنثال ثقافة “الاستهلاك العبثي” السائدة حاليا بين الأغنياء الجدد “الذين لا يبحثون عن شيء يحبونه وله قيمة”، معتبرا أنهم “يشترون أشياء لرميها بينما العالم ملئ بالقمامة” .
وعلى متن تلك الرحلة، كانت اللغات والأديان والمناظر الطبيعية تتمازج إلى أن اندلعت الحرب العالمية الثانية، ويروي المؤلف كيف تم كسر هذا الحلم في وقت لاحق في السبعينيات، وتلاشى القطار وبيعت عرباته الفاخرة المليئة بالقصص وتشتتت وانتهت في أماكن غير عادية.
استعمار أوروبا
وعن البعد الثقافي للقطار، يقول الكاتب إن الأدب هو أحد رمزيات أورينت إكسبريس الذي كان يجسد بعض أحلام أوروبا قبل أن تنهار مع نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث انقسمت أوروبا إلى معسكرين وبقيت إسطنبول تتطلع للقارة العجوز على الرغم من أن بعض الأوروبيين لا يريدون رؤيتها.
ويتذكر الكاتب انتهاء أوروبا القديمة بالانقسام الذي حدث في زمن الحرب، مؤكدا أن بلغاريا ورومانيا وإسطنبول بلدان أوروبية تنبغي رؤيتها إلى جانب إسبانيا في أوروبا، ويقول ويزنثال إن “ثقافتنا القديمة ليست متجذرة في اليونان”، وتابع “نحن الآن بين العالم الروسي الصيني من جهة وأميركا الشمالية التي استعمرتنا. كانت هناك أشياء جيدة مثل السينما، وأخرى سيئة مثل الحانات الأميركية التي استبدلت مقاهينا، وهو المكان الذي كانت تقرأ فيه الصحف، ويتم تشكيل أفكار الحضارة الأوروبية بناءً على الحوار والوقت، والوقت وليس بتسرع.. إنه كان عالما مليئا بالقيم”.
وعن أحوال ما بقي الآن من أوروبا وعلاقاتها بباقي القوى الأخرى وخاصة الولايات المتحدة، قال الكاتب الإسباني إن الأميركيين “استعمرونا وما زلنا مستعمرة… نحن الآن بين العالم الروسي الصيني من جهة وأميركا الشمالية التي استعمرتنا”، وختم كلامه قائلا “لقد تشوّهت أفكار الحضارة الأوروبية وقيمها وتصوراتها، وتحطمت الثقافة الأوروبية بين إمبراطوريات الشرق وإمبراطوريات الغرب العظيمة”.
وكان الطريق الأصلي لسكة حديد الشرق السريع التي بدأت عام 1883 يمرّ من باريس إلى رومانيا عبر ميونيخ وفيينا، ثم يتم نقل الركاب إلى بلغاريا (فارنا) ومنها إلى إسطنبول عبر البحر الأسود، قبل أن يتحول المسار بين إسطنبول وباريس إلى سكك حديد مباشرة بالكامل، بربط إسطنبول ببلوفديف (البلغارية) وبلغراد ونيش (في صربيا). وتوقف القطار عدة مرات في فترات الحربين العالميتين، وبعدها مرّ بمراحل عديدة حتى توقف عن العمل وخرج من الخدمة في الوقت الحالي.