إبراهيم أحمد*
في ليلة 14 تموز، من كل عام يخرج العجوز أمين البكري ذلك الشريط الذي حمله معه من بغداد إلى منفاه في مدينة أوبسالا في السويد، يستمع إليه، يشرب عدة كؤوس من النبيذ ويدخن سجائر قليلة، ويعيده مرات ومرات كما الطفل مع اغنيته المفضلة. ليس في الشريط سوى تغريدة بلبل جميلة جدا يستمع إليها ويحفظها فهي تغريدة روحه ولحنها العميق، وكلما استمع إليها واستثارت شجونه يضحك ويبكى، يهمهم ويتحدث مع نفسه ومع اصدقائه الذين غابوا وبقي هو شيخا مسنا وحيدا، في هذه الشقة الصغيرة ويردد عبارته المعتادة ( لو أن هذا البلبل ظل يشدو لم يزحه ذلك الصوت الهادر الوحشي، لبقينا في وطننا ولما تبعثرنا في المنافي) ، وحين يحس إنه فرغ من دموعه وقهقهاته وأحاديثه مع الغائبين والراحلين والباقين يتحامل على نفسه وينهض تاركا مائدته الصغيرة وما عليها دون أن يعيد ما عليها إلى أماكنها متجها إلى سريره بخطى متمايلة!
لسنوات عديدة،مضت كان كثير من العراقيين يستيقظون صباحاً على صوت بلبل يغرد من راديوات البيوت أو المقاهي بصوت ساحر غريب،يتلوه صوت رخيم لمذيع يقول (خير ما نفتتح به برامجنا آيات من الذكر الحكيم ) لينساب صوت مقرئ عراقي أو مصري كأنه صوت البلبل نفسه محملاً هذه المرة بكلمات القرآن!
كان صوت هذا البلبل يجعل البلابل المتراقصة بين النخيل والتين والأعناب،في حدائق البيوت وعلى أشجار الطرقات والساحات توقف مرحها وشدوها وعناقاتها العاطفية محاولة التعرف على من جاء ينافسها بهذا الصوت العذب الصافي الجريء ،وكيف صار يحتل أسماع العراقيين بعد أن كانت هي قد احتكرته بأنغامها وشدوها مذ وجدوا على هذه الأرض، صارت البلابل قلقة معذبة وهي ترى العصافير والغربان متشفية بها فأخذت تغادر أعشاشها مبكرة لتقرأ تحية الصباح على العراقيين، قبل بلبل الإذاعة،فغرق الناس بأصوات البلابل،والعصافير والغربان أيضاً!
كان من يسمع هذا البلبل يعتقد إنه بلبل جاء من أساطير بغداد القديمة،حيث الديكة تنشد شعراً، والطواويس تصدر الأوامر والنواهي، والقيان والجواري يغنين فتنتشي حجارة الجدران وما عليها من طيور وقطط وكلاب! وهذا البلبل ذكي أيضاً ، عاطفي ، متفائل ،معمر لا يمرض، وربما لا يموت،يأتي من البساتين والضفاف ويدخل الإذاعة كل صباح لا يخلف موعده لينقر الميكرفون ويؤدي أغنيته الفرحة للعراقيين ويمضي!
شاعت وانتشرت حكايات وتعليقات كثيرة حوله، قالوا إنه بلبل عراقي أصيل نادر من بساتين بعقوبة، وآخر قال: بل هو من وادي الموصل ،وآخر قال بل هو من دروب وقصور البصرة الضاجة بالموسيقيين والمغنين! وكل راح ينسبه إلى منطقته في العراق،بينما قال آخرون إنه بلبل انجليزي ،أو أمريكي،وإنه يقيم في بيت الملك ويطعمه على مائدته،وإن الوصي ورئيس الوزراء نوري السعيد يسقيانه الخمرة معهما في الليل ليسكر العراقيين بصوته في النهار، وغيرها من الحكايات التي يجب، على أي حال ، أن يمازجها العراقيون بالسياسة! قلة فقط من موظفي الإذاعة نفسها تعرف أن هذا البلبل هو مجرد شريط تسجيل أهدته إحدى الشركات اليابانية للإذاعة العراقية بعد أن اشترت منها مجموعة من الأجهزة الإذاعية!
كانت بغداد آنذاك تعيش زمنا حالماً فيه الكثير من الدعة والمحبة والبساطة والرضا! غافلة عما تخبئه لها الأيام ، وكان البلبل المعدني يزيد الأشياء غفلة حوله!
ثلاثة من موظفي الإذاعة يعملون في قسم البرامج الموسيقية أوهموا محاسب الإذاعة أن البلبل حقيقي،وصاروا يقدمون له كل شهر قائمة بمصاريف طعامه وشرابه وعلاجه!وهل يستطيع المحاسب أن يشك في كون البلبل حقيقياً وحياً نشيطاً،وهو له كل هذه الشهرة والسمعة الطيبة بين الناس ودوائر الحكومة أيضاً؟ لم تكن قائمتهم الفاسدة بمبلغ كبير، كانت فقط يما يكفي لجلسة شراب في بار ليالي الأنس ،وعشاء مسكوف على شاطئ دجلة،ولمرة واحدة في الشهر،فقط لا غير ، ينهونها عادة بالدعاء لله أن يحفظ البلبل ومحاسب الإذاعة غير المدقق ، ويقيهما من كل سوء!
دهشوا للسرعة التي عبرت فيها قائمة المصاريف لأول مرة على المحاسب، الرجل المتوسط العمر الأشيب الشعر،قال لهم : ( عاشت ايديكم! شلون ربيتوا هالبلبل الطيب ، الله يحفظكم ويحفظه مونس العراقيين، ومحلي صباحهم )
ويرد عليه الموظف المدبر للعبة كلها( ويحفظك مولانا، ويحفظ الإذاعة، ومليكنا المفدى)
وصاروا إذا ارتفعت تكاليف مشروباتهم يرفعون رقم قائمتهم الصغيرة أيضا، فإذا قال المحاسب أن مصاريف البلبل كثيرة يكون الجواب جاهزاً ” إنه بلبل قادم من اليابان ،طعامه خاص، وشرابه خاص، وطبيبه خاص، تدرب في اليابان وادويته باهظة الثمن! اتدري انه لا يغني إلا إذا شرب خمرة خاصة من اسكتلندة؟! وقد تهيأوا للطوارئ الخطيرة فجلبوا قفصاً من جريد النخيل وضعوه في زاوية من حجرة إدارة الأشرطة حتى لو دخل المحاسب،أو مدير الإذاعة إذا ما دفعهم حب الاستطلاع أو وشاية ما مستفسرين عن البلبل سيقولون على الفور وبصوت واحد( لقد طار البلبل،نسينا باب القفص مفتوحا، واللعنة على حر بغداد، لم يجعلنا نستطيع إغلاق النوافذ ) ويشرعون جميعهم وبصوت واحد ودموع واحدة بالبكاء!
لعبة محكمة ،وما ألذ العرق الزحلاوي و المستكي في الليل ممزوجاً بتغريد البلبل الصباحي!
لسنوات كان هؤلاء المختلسون الظرفاء يرقصون داخل حلم مرح يشربون العرق ويأكلون المسكوف مرة في الشهر على حساب بلبل الإذاعة، الذي ظل دؤوبا على الاستيقاظ فجراً،ليطعمهم ويشربهم ويحي أهل العراق كلهم بصوته الموسيقي فيشمون فيه رائحة ورد الجوري والقداح ودجلة والفرات معاً،كان هؤلاء الموظفون يبررون فعلتهم ويستمرئون طعامهم وشرابهم أنهم هم من طلب هذا البلبل من الشركة اليابانية فمنحته لهم بكرم ياباني لم يكونوا يتوقعونه، وإنهم لو سألوا أي عراقي آنذاك كم يساوي هذا البلبل عندك؟لقال على الفور وزنه مع قفصه ذهبا، وحتى اليوم هم لم يستهلكوا وزن ريشة منه ذهباً!
قال أحدهم في نوبة تبكيت ضمير:
ـ لكننا نسرق!
رد الاثنان بصوت واحد :
ـ ادع لربك أن يبقى السرقة بحدود مصاريف بلبل الإذاعة!
كان ذلك ليلة يوم الأحد،13 تموز 1958،لم يعلموا أن البلبل صباح ذلك اليوم كان قد أدى شدوه الأخير ، وجلسة طعامهم وشرابهم على حساب هذا البلبل المسكين هي العشاء الأخير، في صباح اليوم التالي لم يسمع الناس صوت بلبلهم، سمعوا فعقعة هائجة في الراديو ثم وشوشة وطرقات حادة ،وجاء الصوت هادراً، لضابط كأن عقربا لسع دبره يتلو بيانا فيه وعيد ووعود، يتلوه منشدون، (الله أكبر فوق رأس المعتدي، الله ….الله أكبر ).
نشيد رصاصي صاخب انحدر فوق رؤوس العراقيين كسيل يجرف معه كل ما يصادفه في طريقه،وصوت غليظ يطالب الجماهير بإلقاء القبض على الحاكمين السابقين! امتلأت شوارع بغداد بجموع من البشر، تهتف وتصرخ، قتل الملك وعائلته وجماهير هائجة تسحل جثث الوصي ورئيس الوزراء وابنه! ثم بعد ساعات امتلأ الجو برائحة الجثث المقطعة والمحروقة!
نسى الناس بلبلهم الصباحي، ثمة من قال “لقد ملآت الإذاعة بلابل أخرى” لم يعد الناس يذكرونه لا في البيوت ولا في المقاهي، صار كثيرون يتحاشون الحديث عنه كأن الحديث عنه خيانة للوطن والعهد الجديد. حتى بلابل النخيل والتوت والعنب توارت منسحبة إلى أعماق البساتين والحقول أيضا، صارت في بيوت الناس أسلحة كثيرة!
شغل الناس بالجدل والصخب السياسي، بعد أربع سنوات تقريبا ،وصلت إلى الإذاعة رسالة قصيرة من رجل كهل، تسلمها امين البكري يقول مرسلها ( تلج في قلبي هذه الأيام أحزان كثيرة ، لكنني أردت أن أسأل فقط عن أحد هذه الأحزان: بلبل الإذاعة، أين هو ؟ لم لا تعيدونه؟ لماذا طويتموه ،بالله عليكم أعيدوه ، عله يمنحنا لحظة أمل،أو حتى نفحة واحدة من رائحة البساتين ) هزت الرسالة أمين البكري المسؤول عن تنظيم البرامج لم يكن احد المختلسين الثلاثة القدامى، لكنه كان يعلم بلعبتهم وكان أحد الساكتين عليها، لا لأنها تمده بالضحك فقط ،بل لأنه أيضاً من المقتنعين بفكرة غريبة محيرة : أن التغاضي عن الفساد الطريف درء لفساد شرير كبير،قرر أن يحاول أعادة البلبل للتغريد ليرضي هؤلاء المساكين المصابين بمرض الحنين العضال ،ورغم شكه بجدوى ذلك في هذه الأيام المخبولة،دخل بالرسالة على المدير العام للإذاعة والتلفزيون ليأخذ موافقته على إعادة البلبل للعمل بعد أن صار جزءا من العهد الماضي أو المباد كما يقال، كان المدير ضابطاً كبيراً،استمع للبكري بضجر، وبصعوبة فهم مقصده،ومع ذلك سأله:
ـ عن أي بلبل سخيف تتحدث؟
أعاد البكري شرحه وتفصيلاته بارتباك وتلعثم مؤملاً أن البلبل سيتولى بفصاحته إيضاح كل شيء ، تململ الضابط المدير العًام مزمجراً:
ـ اسمع! لا تضيع وقتي،بهذه التفاهات: كل دقيقة، كل ثانية في الإذاعة يجب أن تكون لخطب الزعيم، وللأغاني والأناشيد الثورية!
خرج البكري يجر خطاه،لتواجهه الدبابات والمصفحات المحيطة بالإذاعة، حقا كيف يجد صوت البلبل حيزا له في الإذاعة وقد صارت خطبة واحدة للزعيم تستغرق ست ساعات، تعاد مرات في اليوم؟ لكنه لم يشأ أن يبتلع اهانته وهوانه، قرر أن يكون ولو للحظة كأولئك المختلسين الظرفاء الذين تواروا،هرع إلى أجهزته، استنسخ شريطا خاصا بصوت البلبل، قرر أن يحتفظ به في بيته مردداً مع نفسه:
ـ مهما اختفت البلابل فلا بد أن تعود وتزهر الأشجار!
لكنه هذه الليلة وجد إنه قد اشتط في أحلامه كثيراً، فها قد مضى ما يقرب من الخمسين عاما، وهو قد مضى به العمر وجاوز الثمانين! ولم يغرد هذا البلبل من الإذاعة، لا شيء هناك سوى صليل أسلحة وخطب، وأصوات انقلابات وحروب وغزوات وهو نفسه اعتصرته الغربة والشيخوخة في هذا المنفى البارد! صباحا وهو لا يزال متمددا في فراشه صار يسمع صوت البلبل، نفسه بلبله القديم الأثير ، لم يمت! لا لأنه فولاذي؛ بل لأنه بنى عشه في قلبه، ومع ذلك راوده شك! جهاز التسجيل مقفل منذ نهض عنه منتصف الليل، إنه صوته تماما، حفظ كل نغماته ونبراته، تغريدة في الروح لا تنسى ابدا، سره كثيرا وجعل أوصاله تنتشي وتسترخي إنها صار بسمعها من راديو بيتهم القديم في بغداد وفي تلك الصباحات الضاجة دروبها بأصوات الباعة والمارة المرحين! لكن ما أقلقه إنه صار يشم رائحة ورود حدائق بغداد ممزوجة برائحة مطهرات المستشفى الذي خرج منه قبل أيام.
ظل أمين البكري راقدا جامدا في فراشه يسمع تغريدة بلبله بشجن عميق كما للمرة الأخيرة! برهة صمت، ثم انهالت عليه أصوات أصدقائه القدامى في الإذاعة يقرعون باب الشقة: انهض يا امين ألا زلت هنا؟ أنهض جئناك اليوم نأخذك إلى السهرة معنا! حاول النهوض لكنه ظل مشدودا إلى سريره كما بحبال وفي رقود بارد ثلجي لا عهد له به في تموز!
*روائي وقاص عراقي والمقال من صفحته على الفيسبوك