استبشر بعض العاملين في صناعة النشر بمصر بانتعاش مبيعات الكتب -كما حدث في بعض دول أوروبا- نتيجة احتياج المواطنين لما يملأ فراغ أوقاتهم الطويلة في عزلتهم المنزلية الإجبارية، وذلك حينما أطل فيروس كورونا برأسه في مصر، وجرى تطبيق الحظر ومنح موظفين وعمالا إجازات إجبارية.
وأعلنت سلسلة مكتبات واترستون الأشهر في المملكة المتحدة أن مبيعات الكتب عبر الإنترنت ارتفعت 400%، خاصة فيما يتعلق بالروايات الأشهر والأكثر مبيعا.
لكن ما جرى في مصر كان العكس تماما، فقد انخفضت مبيعات الكتب إلى مستوى غير مسبوق، وفقا لمؤشرات هيئات وزارة الثقافة المختلفة المختصة بالطبع والنشر ووفقا كذلك لمؤشرات دور النشر الخاصة، بحسب مسؤول في وزارة الثقافة.
ويوضح المسؤول -الذي رفض كشف اسمه- أن إجمالي عدد الناشرين بمصر هو حوالي 1300 ناشر، بعضهم لديهم مخزون كبير من الكتب المطبوعة قبل توقف المطابع، نظرا لتقلص السيولة لدى الناشرين الذين كانوا يأملون في دوران رأس المال بعد تحقيق مكاسب من معارض داخلية وخارجية ألغيت فلم يقدموا على طباعة المزيد.
وتابع في حديثه للجزيرة نت “بعض هؤلاء الناشرين نجوا نسبيا من تبعات كورونا، حيث يستمرون في بيع ما لديهم من كتب عبر مواقع البيع المباشر على الإنترنت داخل وخارج البلاد، بينما وقعت المعاناة الكبرى على ناشرين يعتمدون على بيع المطبوع أولا بأول دون مخزون”.
ولفت المسؤول إلى قيام وزارة الثقافة بدراسة مبادرات رسمية لنشر الكتب الرقمية وبيعها للجمهور، وهنا معضلتان تتعلق أولاهما بكيفية ضمان حقوق الملكية الفكرية للمؤلفين، والأخرى بكيفية الدفع الإلكتروني، لعدم انتشار ثقافة الدفع الإلكتروني بمصر.
وبالتزامن، ألغت الوزارة كل الفعاليات ومعارض الكتب، كما أوقفت نشاط باعة الكتب في الشوارع للمارة الذين يبيعونها بأسعار زهيدة.
أزمة الناشرين
لكن المشكلة الكبرى لدى الناشرين المصريين في زمن جائحة كورونا تكمن في غياب البنية الأساسية اللوجستية لبيع الكتب عبر الإنترنت، بحسب محمد البيلي وهو ناشر شاب، حيث لا وسائل توزيع قوية وموثوقة يمكن الاعتماد عليها في التوصيل للمشترين باستثناء شركات توصيل تحصل على مقابل مرتفع لا يتناسب والمستوى المادي للقراء.
ويوضح الناشر الشاب للجزيرة نت أن معرض القاهرة كان آخر المعارض التي شارك فيها، واسترد من وراء المشاركة نصف تكاليف تشغيل العام التالي، بينما كان ينتظر استرداد النصف الآخر من معارض قادمة محلية وعربية، كان أقربها معارض الإسكندرية والرياض وأربيل بالعراق.
وتسبب إلغاء هذه المعارض في توقف الناشرين عن طبع المزيد من الكتب خوفا على ما في أيديهم من سيولة مالية، واكتفوا بمحاولة تصريف الموجود عبر الإنترنت، ولكنها محدودة الجدوى.
وقال الكاتب والناشر جمال عبد الرحيم إن الأزمة ترجع في جانب منها إلى توقف دوران المطابع نتيجة انعدام المواد الخام المستوردة اللازمة لصناعة الكتاب كمنتج ثقافي.
ولفت الناشر إلى أن متاجر الكتب تأثرت سلبا بمواعيد الحظر، مع تناقص أعداد المكتبات بعد انهيار سلسلة مكتبات ألف الموضوعة تحت التحفظ منذ أقل من عامين، مما تسبب في خسائر فادحة من المحتم أنها ستؤثر على خريطة النشر خلال العامين الحالي والمقبل.
وقال عبد الرحيم في حديثه للجزيرة نت إن أزمة النشر مزدوجة، فمع توقف حركة النشر الورقي يبدو الكتاب الرقمي بلا سوق، إذ لا تزال ثقافة الاستئناس بالكتاب المطبوع هي الأساس في القراءة بحكم الاعتياد ربما، رغم أن الكتب الرقمية هي الأنسب للمصريين لرخص أثمانها مقارنة بالورقية، وسهولة وصولها وانتشارها.
ويبدي المتحدث تشاؤما حيال إمكانية انتعاش حركة الكتاب بفعل النشر الإلكتروني، مؤكدا أن القراء يستسهلون تنزيل الكتب المقرصنة من الإنترنت، مما يهدر حقوق المؤلفين ويسبب خسائر للناشرين الذين بذلوا أقصى طاقاتهم لتوفير الكتب للقراء بأسعار زهيدة للغاية عبر المتاجر الإلكترونية من خلال الشحن المجاني والتخفيضات.
ورغم عدم استساغة الجمهور المصري والعربي مثل هذه النوعية من الكتب وعدم انتشارها بنفس درجة الانتشار الكبيرة في أميركا وأوروبا فإنها خطوة يجب أن تؤخذ في الاعتبار، وفقا لعبد الرحيم، وهي عموما لا تمثل الحل الأمثل لكنها تعتبر حلا مؤقتا في ظل الأزمة.
المعارض والقراء
وقال الكاتب أحمد النزلاوي إن المعارض كانت توفر فرصة تفاعل حقيقي ومباشر بين الكاتب والقراء بصدور كتاب جديد، وهو ما لا توفره الكتب الرقمية.
وأضاف النزلاوي في حديثه للجزيرة نت أن “العديد من دور النشر أبلغت مؤلفيها بخطورة الوضع وتقليص خطة النشر وانخفاض الأعمال المزمع نشرها في موسم الصيف ومعرض القاهرة الدولي للكتاب لعام 2021، وإلغاء طباعة عدد كبير من الأعمال التي كان مقررا نشرها، إلى جانب تأخر صرف المستحقات المالية للمؤلفين”.
ويقول حسن -وهو اسم مستعار لموظف يعمل بمنفذ إحدى المؤسسات الحكومية الكبرى الشهيرة ببيع الكتب وسط القاهرة- إن منفذ بيع الكتب الرئيسي التابع للمؤسسة يبيع نسخة أو اثنتين من الكتب على الأكثر يوميا، مضيفا في حديثه للجزيرة نت أن “مبيعات المؤسسة كانت تنشط عادة في مثل هذا الوقت”.
أما معوض خير -وهو بائع كتب ضمن عشرات مسموح لهم بالبيع على الرصيف بالقاهرة- فبدا عليه الضيق وهو يشكو كساد مبيعات الكتب لديه بدرجة غير مسبوقة، وبلغ الضيق به درجة الانفعال على زبون فاوضه في سعر كتاب قديم فألقاه في وجهه، وقرر أنه سيبحث عن مهنة أخرى كما قال للجزيرة نت.
وعلى صعيد القراء وعلاقتهم بالكتاب المطبوع، تقول داليا دياب -وهي مترجمة حرة- إن العزلة المنزلية منحتها فرصة قراءة المتراكم عندها من كتب اشترتها سابقا وكانت تتحين الفرصة لقراءتها وسط مشاغلها.
وتقول داليا للجزيرة نت إنها لن تقدم على شراء جديد إلا بعد أن تفرغ مما لديها، وتعتقد أن ذلك حال كثيرين، مما يؤخر الأمل في انتعاش مبيعات الكتب.
ومثلها فعل أشرف عبده -وهو موظف في وزارة الشباب والرياضة- ومع استمرار تبعات كورونا ونفاد ما لديه من كتب ومدخرات تراجع عن فكرة طرأت عليه بشراء المزيد “مع تزايد وقع الرعب مما قد يحمله المستقبل” كما قال للجزيرة نت، فلجأ إلى تنزيل الكتب المجانية من الإنترنت لقراءتها بصيغة “بي دي إف”.