يستذكر العراقيون في منتصف شهر يوليو، ذكرى نهاية العهد الملكي الذي انتهى زمانه على يد مجموعة من العسكر بقيادة عبد الكريم قاسم في العام 1958، ليكون هذا التاريخ بداية سيطرة العسكر على مقاليد الحكم في تاريخ الدولة العراقية المعاصرة.
بعد مرور ستة وخمسين عاما لا نزال مختلفين بتوصيف الحدث التاريخي! إذ يصف المؤيدون لعبد الكريم قاسم وسياساته ما حدث بـ “الثورة”، ويرفضون تسمية العمل العسكري الذي قام به قاسم والصورة الدموية التي خلّفها بالانقلاب! بموازاة ذلك، هناك من يعدّ هذا التاريخ نهاية لعهد سياسي ديمقراطي، فلو قدر له البقاء لكان حال العراق الآن يشابه الأنظمة الملكية في دول الخليج من ناحية الاستقرار ومستوى الرفاهية.
الملك فيصل الثاني خلال قسم اليمين أمام البرلمان العراقي عام 1953
ويبدو أن المشكلة بالأساس ليست بالمفاهيم والتوصيف، وإنما هي مشكلة مجتمع لم يتفق أو يحدد فهمه الخاص لشرعية السّلطة أو نظام الحكم، وبالنتيجة غياب معايير واضحة للشرعية.
والمشكلة هنا، أيضا، لا تتعلق ببنية النظام السياسي فقط، وإنما هي مشكلة اجتماعية. إذ يبدو أن العراقيين من أكثر المجتمعات حيرة بشأن منظومة القيم السياسية التي تشكل إجماعا اجتماعيا. فالحفاظ على منظومة القيم السياسية هو الذي يضفي الشرعية على ممارسة العنف في أفعال السلطة. وإذا كانت النظرة إلى منظومة القيم مرتبطة بمصالح طبقات اجتماعية خاصة، دون غيرها، فبالتأكيد لا يمكن لمثل هذه النظرة أن تحقق الإجماع القيمي، بل ستكون أحد أهم مغذيات الصراع الاجتماعي.
وبما أننا نقارن حاضرنا بماضينا، فنجد المقارنة غالبا ما تكون حاضرة بين الديمقراطية في العهد الملكي وديمقراطيتنا بعد 2003. رغم تأكيدي الدائم على أن الفكرة القائلة بأن التقادم في ممارسة الديمقراطية هو السبيل الوحيد لتشذيبها من أخطاء الممارسة والتطبيق. لذلك يمكن القول إن تقييم تجربة تطبيق الديمقراطية مرتهن بعامل الزمن، حتى يكتسب التقييم صفة الموضوعية.
وفي ضوء هذه الفرضية، فإن الخطيئة الأكبر التي حدثت في يوليو 1958هو الانقضاض على مشروع الدولة الوطنية التي كان يُمكن للديمقراطية أن ترسخ شرعيتها. إذ كان يمكن للديمقراطية في العهد الملكي أن تساهم في تجاوز أزمة بناء الدولة ـ الأمة، لأن مدخلات التعاطي معها كانت تعتمد الوسائل السياسية في تحقيق الاندماج.
لكن، بعد حكم العسكر، وهيمنة الأيدولوجيات الشمولية فيما بعد، كان العنف هو خيار السلطة الأول. ولذلك لم يتحقق الاندماج إلا بالشعارات. وزرعت تلك الأنظمة ميكروب التفكك وانعدام الثقة بالمجتمع الذي تحكمه. ومن ثم، عندما انهار النظام الشمولي وجد العراقيون أنفسهم طوائف ومكونات محاربة ومتصارعة تسعى كل واحدة للهيمنة وفرض الإرادة على الآخرين بالعنف وقوة السلاح.
إذا، أزمتنا الحقيقة هي أزمة دولة، فلا ديمقراطية العهد الملكي ساهمت بحلها، بسبب عدم استمراريتها، ولا دمقرطة العراق بعد 2003 كانت لتتجسد في فلسفة بناء دولة. إذ لا تزال القيم الاجتماعية القديمة هي السائدة في العراق، فهي قيم تنتمي إلى عصر ما قبل الدولة الحديثة. ومن ثم، عجزت الأنظمة المتعاقبة على حكم العراق عن ترسيخ مفهوم الدولة في المجتمع العراقي. ودولتنا كما وصفها المفكر التونسي هشام جعيط: “ما زالت لا عقلانية، واهنة، وبالتالي عنيفة مرتكزة على العصبيات والعلاقات العشائرية، وعلى بُنية عتيقة للشخصية”.
ولم ينتج لنا حكم العسكر وتعاقب الأنظمة الشمولية إلا مؤسسات سياسية تصطبغ بعناوين القرية والقبيلة والطائفة، وكانت أبعد ما تكون عن عناوين الدولة. فالدولة الحديثة تتميز عن المجتمعات التقليدية بالمدى الموسّع لمشاركة الناس في السياسة وتأثيرهم وتأثرهم بها عبر وحدات سياسية واسعة النطاق.
وتتميز مؤسساتها بمشاركة فئات اجتماعية في السياسة فوق مستوى القرية أو المدينة، في نطاق المجتمع كله؛ وبتطوير مؤسسات سياسية جديدة، كالأحزاب السياسية، لتنظيم هذه المشاركة. وكل هذا توفره الديمقراطية التي يصفها صموئيل هنتنغتون بأنها “ليست مجرد ديمقراطية القرية والقبيلة والدويلة؛ بل هي ديمقراطية الدولة الأمة”.
وقد تكون القطيعة التي تعرضت لها تجربة الديمقراطية في العهد الملكي، تبرر لها عدم قدرتنا على محاكمتها بالوصول إلى تلك نموذج ديمقراطية الدولة الأمة. بيد أن تجربة 37عاما لم ترسخ مقومات النظام الديمقراطي، وحتى تجربة تطبيق النظام البرلماني في تلك الفترة لم تكن محصنة من المشاكل التي تواجه هذا النظام في دول العالم الثالث.
وكانت السنوات الأخيرة من حياة النظام الملكي تؤشر بدايات تأثير تصاعد التعويل على الاقتصاد الريعي، والذي تزامن معه تأزّم العلاقة بين المجتمع والدولة. إذ باتت الدولة العراقية مكتفية عن المجتمع وتمتلك الموارد الضرورية للاستمرار، وميالة إلى السيطرة على المجتمع وتقييد حركته وتحديد خياراته. وهذه الأزمة لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا.
وتفشل الديمقراطية، عندما تكون عاجزة عن تحقيق ثلاث مستويات رئيسة: الأول؛ عدم قدرتها على ترسيخ قيم سياسية تعتمد وسائل التداول السلمي للسلطة، ومن ثم تكون قادرة على خلق ممانعة ضد ممارسات العنف السياسي. والثانية؛ والتي هي بطبيعة الحال امتداد للأولى، عجزها عن ترسيخ العمل المؤسساتي الذي يمنع تمركز السلطة كما في النمط الديكتاتوري. وأخيرا؛ مدى قدرة النظام الديمقراطي على تحقيق الاستقرار السياسي؛ لأنها (أيْ الديمقراطية) تمثيل للقوى والمصالح والاحتياجات الاجتماعية وتعبير عن الصراع الاجتماعي بأدوات سلمية.
وديمقراطيتنا اليوم، لا تزال تراوح مكانها في دائرة مغلقة من الأزمات، ومشكلتها في الطبقة السياسية التي هيمنت على مقاليد السلطة منذ 2003. فالقيادات السياسية في العراق لا تملك مشروعا لنقل بالبلد نحو ترسيخ تجربة الحكم الديمقراطي والوصول به إلى مرحلة النضوج الديمقراطي. بل على العكس هي تعمل يوما بعد آخر على تثبيت أركان نموذج الديمقراطية الهشة.
عودة على بدء، استذكار ما حدث في يوليو 1958 يجب أن يكون بعيدا عن جدل الثورة والانقلاب، وقريبا من محاكمة الماضي. فإذا كنا قد خسرنا تجربة ديمقراطية لم تصل بنا إلى بناء دولة المؤسسات، فعلينا التفكير جديا بضرورة عدم الوصول بتجربتنا الديمقراطية المعاصرة إلى حالة النكوص.
فالمجتمع العراقي عليه أن يدافع عن تجربته الراهنة التي دفع ثمنها غاليا في حربه ضد الإرهاب. وعلى الطبقة السياسية أن تفكر بتصحيح أزمات النظام السياسي وعجزه عن استيعاب الحراك الاجتماعي، وتراخي الشعور بالمسؤولية، وطغيان الأحاسيس السلبية والإحباط لدى المجتمع.
*كاتب وأكاديمي عراقي والمقال عن موقع “الحرة”