تاريخ التراويح .. الشافعي يؤديها ببيته والصبيان تؤم الحرم المكي

في ظروف استثنائية تعمّ العالم ولم تعهدها البشرية؛ يستقبل المسلمون رمضان هذا العام بفرحة غامرة مشوبة بأسى بالغ: فرحة بمقدمه وهو ربيع أرواحهم، وأسى لما حيل بينهم وبينه من تلاقٍ للمؤمنين -باختلاف طبقاتهم أعمارا وأقدارا- ‏طوال لياليه المباركة في رحاب التراويح بمساجدهم العامرة بالإيمان، بعد أن عطلت الصلاةَ فيها -بمعظم بلاد المسلمين- إجراءاتُ حرب فيروس كورونا العالمية.

وفي هذا المقال؛ سنقدم نبذة تاريخية عن هذه الشعيرة المحببة إلى القلوب المؤمنة في شهر ‏القرآن، فنروي باختصار كيف ‏بدأت منذ فجر الإسلام، ونرى بعض ما اعتراها تاريخيا من مسحات اجتماعية كادت تخرجها من حيز ‏العبادات (الدين) إلى دائرة العادات ‏‏(التدين)، ونكشف جانبا من تأثرها بتاريخ المسلمين ومؤثراته المختلفة عقديا وفقهيا ‏وسياسيا ‏واجتماعيا، وكيف تعطلت أحيانا بعوامل مختلفة، ثم نعرض لذكر مشاهير من أعلام جمْعها أئمةً ومأمومين. ‏وسنكتشف -أثناء ذلك كله- أن كثيرا من ‏ممارساتنا المقترنة بهذه الشعيرة العظيمة لم تكن وليدة اليوم، بل ورثناها منذ حقب متطاولة.

مبادرة عُمَرية
يلخص لنا العلامة ابن المِـبْرد الحنبلي (ت 909هـ) أصل نشأة صلاة التراويح في الإسلام ‏بقوله: “لا يتوهم متوهم أن التراويح من وضع عمر (ض) ولا أنه أول من وضعها، بل كانت ‏موضوعة من زمن النبي (ص)، ولكن عمر (ض) أول من جمع الناس على قارئ واحد فيها، ‏فإنهم كانوا يصلون لأنفسهم فجمعهم على قارئ واحد…، وسميت ‘التراويح‘ [بهذا الاسم] لأنهم ‏يستريحون فيها بعد كلّ أربع”.

وقبل ابن المبرد بستة قرون؛ حدد لنا “شيخ المؤرخين” الطبري تاريخ صدور أمْر عمر بجمع ‏الناس لصلاة التراويح فقال إنه كان في سنة 14هـ “وكتب بذلك إلى البلدان وأمرهم به”. وقد ‏خصص عمر قارئا للصلاة بالرجال وآخر للصلاة بالنساء؛ ولعلّ أمهات المؤمنين لم يكنّ –نظرا لمكانتهن الخاصة- يشهدن تراويح النساء العامة، كما يُفهم ذلك من الأثر الذي يقول إن “ذكوان مولى عائشة (ض) كان يؤمُّها في… صلاة التراويح [وهو يقرأ] في المصحف”.

وحفظت لنا كتب التاريخ والتراجم ‏أسماء القراء الذين كلفهم عمر -في أوقات مختلفة- القيام بهذه المهمة؛ فذكرت من قراء الرجال: ‏أبيّ بن كعب الأنصاري (ت 22هـ) الذي “كان يصلي بهم عشرين ركعة”، ومعاذ بن الحارث ‏الأنصاري (ت 63هـ). وأما قراء النساء فهم: تميم بن أوس الداري (ت 40هـ) الذي ورد أيضا أنه صلاها بالرجال، وسليمان ابن ‏أبي حثمة القرشي، وعمرو بن حُرَيث المخزومي (ت 85هـ).

ومن الأوّليات المتعلقة بتاريخ التراويح؛ ما يرويه أبو عُبيد البكري الأندلسي (ت 487هـ) -في ‘المسالك والممالك‘- عن سفيان بن عيينة (ت 198هـ) من أن “أول من أدار الصفوف حول الكعبة عند قيام رمضان [والي مكة الأموي] خالد بن عبد الله القَسْري (ت 120هـ)، وكان الناس يقومون في أعلى المسجد؛ [فـ]ـأمر.. الأئمةَ أن يتقدموا ويصلّوا خلف المقام، وأدار الصفوف حول الكعبة”.

وقد استقرّ حكم التراويح الفقهي -عند علماء أهل السنة- على أنها “سنة” لا “فرض” وساقوها مثالا نموذجيا على “البدعة الحسنة” شرعا عند القائلين بها؛ لكن بعض هؤلاء العلماء ذهب إلى أنه “لا يجوز ‏تركها في المساجد… لكونها [صارت] شعارا [للمسلمين]، فتلحق بفرائض الكفايات أو السُّنن ‏التي صارت شعارا… كصلاة العيد”.

كما استحبوا أن “يُزاد في شهر رمضان في أنوار ‏المساجد” بتعليق المصابيح؛ قائلين أيضا إن “أول من فعله عمر بن الخطاب لما جمع الناس في ‏التراويح”؛ ورووا في ذلك أن علي بن أبي طالب (ض) “مرّ على المساجد في رمضان وفيها القناديل تـُزهِر، فقال: نوّر الله على عمر قبره كما نور علينا ‏مساجدنا”.

ومع أن جماهير المسلمين ساروا على نهج الصحابة في إقامة شعيرة التراويح في رمضان؛ فإنه ‏ظهرت آراء أنكرت شرعيتها باعتبارها “بدعة ‏عُمَرية”؛ كما ترى طوائف الشيعة باستثناء بعض أئمة الزيدية. ونسب المقريزي (ت 845هـ) إلى ‏الفرقة النَّظـّامية من المعتزلة قولها إنه ‏‏”لا تجوز صلاة التراويح”.‏

أئمة مشاهير
تنوعت الطبقات والفئات الاجتماعية التي جاء منها أئمة التراويح عبر حقب التاريخ الإسلامي؛ فكان منهم أساطين العلماء والقراء الكبار، ‏ومشاهير الرحالة والتجار، وحتى ‏الفراشون العاملون في المساجد. فقد تولى إمامتها “شيخ ‏المفسرين” الإمام الطبري (ت 310هـ)، و”شيخ المقرئين” في ‏عصره أبو بكر ابن مجاهد ‏البغدادي (ت 324هـ)، و”شيخ الواعظين” الإمام ابن الجوزي (ت 597هـ). وقد استمع ابن مجاهد هذا إلى صوت معاصره وبلديه الطبري -وهو يؤم ‏‏الناس في التراويح بمسجده ببغداد- فقال: “ما ظننت أن الله تعالى خلق بشرا يُحسن [أن] يقرأ هذه ‏القراءة”!!‏

ويذكر الإمام ابن عساكر (ت 571هـ) أن شيخه المقرئ أبا الفتح الأنصاري المقدسي (ت ‏‏539هـ) كان “يصلي التراويح في ‏مسجد علي بن الحسن” بدمشق. وأبو جعفر ابن الفَنَكي ‏الشافعي القرطبي (ت 596هـ) “كان الناس يتزاحمون على الصلاة ‏خلفه التماسا لبركته ‏واستماعا لحسن صوته، وحين مجاورته بمكة.. كان أحدَ المتناوبين في قراءة التراويح ‏برمضان…، ‏وقراءتُه تُرِقُّ الجماداتِ خشوعًا”.‏

ومن أئمتها الذين صار لهم شأن في التاريخ العلمي الإسلامي؛ شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني ‏‏(ت 728هـ)؛ فقد قال تلميذه ‏المؤرخ ابن الوردي المعري الكِندي (ت 749هـ) ‏‎‎في ترجمته له: ‏‏”وصليتُ خلفه التراويح في رمضان فرأيت على قراءته ‏خشوعا، ورأيت على صلاته رقة ‏حاشية تأخذ بمجامع القلوب”.‏

وكان من أئمتها الفقيه الرحالة الشهير المقدسي البشاري (ت 380هـ)؛ فقد حدثنا عن زيارته لليمن فقال ‏إن أهل عدن “يختمون في ‏رمضان في الصلاة ثم يدعون ويركعون، وصليتُ بهم التراويح ‏بعدن فدعوت بعد السلام فتعجبوا ‏من ذلك”.

ومن أئمة التراويح التجار أبو علي ‏الهلالي الحوراني المقرئ التاجر ‏(ت 546هـ)، والتاجر المكي الكبير الخواجا جمال الدين ابن الشيخ علي الجيلاني (ت ‏‏824هـ) ‏الذي “حفظ القرآن الكريم وصلى به التراويح فى مقام الحنفية [بالحرم المكي] سنة ست عشرة ‏وثمانمئة”. ومن أئمتها الفراشين ‏أحمد بن عبد الله الدوري المكي (ت 819هـ) “الفراش بالحرم الشريف [بمكة]، وكان يصلي بالناس صلاة التراويح في ‏رمضان”.‏

ومن أغرب قصص مشاهير “أئمتها” ما أورده المؤرخ صلاح الدين الصفدي (ت 764هـ) من ‏أن الحبر اليهودي الكبير ‏موسى بن ميمون القرطبي “أسلم بالمغرب [مُكْرَهاً أيامَ الموحدين] وحفظ ‏القرآن واشتغل بالفقه؛ ولما قدم [بحراً إلى مصر] من ‏الغرب صلى بمن في المركب التراويح ‏في شهر رمضان”، وحين اطمأنّ مقامه في مصر عاد إلى ديانته الأصلية وصار “رئيساً على اليهود” ‏فيها وقاضيا لقضاتهم أيام ‏سلطنة صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ).‏

مهارة وإتقان
ومن نماذج أئمة التراويح المهرة الذين اعتادوا ختم القرآن فيها في ليلة واحدة ونحوها؛ قاضي القضاة بدمشق أبو الحسن عماد الدين الطرسوسي الحنفي (ت 748هـ) الذي “كان يحفظ القرآن في أقل مدة، حتى إنه صلى به التراويح في ثلاث ساعات وثلثيْ ساعة بحضور جماعة من الأعيان”. ومع أن مفهوم “الساعة” عند الأقدمين مختلف عن مفهومه اليوم؛ فإن احتمال مبالغة المؤرخين في قصر وقت الختمات يظل واردا.

‏وكان المقرئ أبو الحسن كمال الدين الحميري الإسكندري المالكي (ت 694هـ) “يصلي ‏التراويح في كل ليلة بختمة كامل الشهر كله”، كما كان المقرئ أبو محمد الحربي (ت 587هـ) “يصلي بالناس التراويح في رمضان كل ليلة بنصف ختمة”‏‎.‎

وكان من أئمتها من يخصص ختمة لكل عشر ليال من رمضان؛ فقد أخبرنا المؤرخ الأندلسي ابن بَشْكُوَالَ (ت 578هـ) -في كتابه ‘الصِّلَة‘- أن أبا القاسم خَلَف بن يحيى الفهري الطليطلي (ت 405هـ) “كان سكناه بالنَّشارين (= حيّ النجّارين)، وهو إمام ‘مسجد اليتيم‘ بقرطبة…، [و]كان يقوم في مسجده في رمضان بتسعة أشفاع (= 18 ركعة) على مذهب مالك، ويختم فيه ثلاث ختمات: الأولى ليلة عشر، والثانية ليلة عشرين، والثالثة ليلة تسع وعشرين”.

وقد اعتاد كثير من أئمة التراويح صلاتها بالقراءات السبع وأحيانا العشر؛ ومنهم أبو علي الهلالي الحوراني المتقدم ذكره الذي ‏‏”كان يصلي بجامع دمشق… صلاة التراويح ويقرأ فيها بعدة روايات يخلطها، ‏ويردد الحرف المختلف فيه”. وأبو العباس البَرَداني البغدادي الضرير (ت 621هـ) “كان يقرأ ‏في التراويح بالشواذّ رغبة في الشُّهرة”،‏ وكذلك المقرئ ‏محمد بن أحمد المقدسي الشافعي (ت 885هـ) الذي “صلى للناس التراويح في رمضان بالقرآن بتمامه، كل عُشر منه [بقراءة] إِمام من [القراء] العَشرة”.

ومن مشاهير أئمتها الذين مكثوا عشرات السنين وهم يؤمون الناس فيها أبو علي الحسن بن ‏داود القرشي الأموي الكوفي (ت 352هـ)؛ فقد كان “صاحب ألحان، صلى بالناس التراويح في ‏جامع الكوفة ثلاثا وأربعين سنة”؛ وأبو عبد الله النيسابوري المُزكِّي (ت 392هـ) “صلى ‏بالناس التراويح ثلاثا وستين سنة بالختمة”. وكريم الدين أبو جعفر العباسي الخطيب (ت ‏‏574هـ) “خطب بجامع القصر [في بغداد] وصلى التراويح نحوا من خمسين سنة”.‏
محاريب متعددة
كان من أغرب سمات إقامة التراويح في الحرم المكي تعددُ محاريبها وجماعاتها وفقا للمذهب الفقهي، ‏وهو مشهد آخر من مشاهد تمزق وحدة المسلمين تاريخيا حتى وهم يجتمعون في حرم كعبتهم الموّحِّدة، ‏ويؤدون شعيرة موَّحَّدة النُّسُك، وضمن طائفة واحدة (أربعة مذاهب سنية)!! فكان “يصلي إمام الشافعية في مقام إبراهيم تجاه باب الكعبة، ثم إمام الحنفية مقابل حِجْر إسماعيل تجاه الميزاب، ثم إمام المالكية بين الركنين اليماني والشامي، ثم إمام الحنابلة مقابل الحَجَر الأسْود”؛ طبقا ‏لوصف مجير الدين العليمي الحنبلي (ت 928هـ).‏

وهي عادة بدأ العمل بها على الأقل منذ سنة 497هـ ولم تختف إلا بعد إكمال آل سعود سيطرتهم على الحجاز سنة 1344هـ؛ ففي سنة 497هـ حج الإمام أبو طاهر ‏السِّلَفي (ت 576هـ) فوصف تعدد محاريب المذاهب في الحرم المكي وكيف يكون ترتيبهم في ‏أداء الصلوات. وقد تحدث بعده بقرون المؤرخ السمهودي (ت 911هـ) عن تقليد تعدد المحاريب المذهبية ‏وانتشاره في الأقطار، فقال إن “هذا الأمر دبّ إلى المدينة الشريفة من مكة المشرفة‎.‎‏..، وكذا ‏جرى مثله في بيت المقدس وجامع مصر قديما”، وانتقل أيضا إلى مسجد الخليل بفلسطين.‏

ويصور لنا ابن جبير الكناني الأندلسي (ت 614هـ) في رحلته مظاهر الاحتفال برمضان في مكة كما ‏شاهدها؛ فيقول إنه لما دخل رمضان سنة 579هـ “وقع الاحتفال في المسجد الحرام لهذا الشهر ‏المبارك.. حتى تلألأ الحرم نورا وسطع ضياء، وتفرقت الأئمة لإقامة التراويح فرقا (حسب ‏المذهب الفقهي).. كل فرقة منها قد نصبت إماما لها في ناحية من نواحي المسجد… وكاد لا يبقى ‏في المسجد زاوية ولا ناحية إلا وفيها قارئ يصلي بجماعة خلفه، فيرتج المسجد لأصوات ‏القراءة من كل ناحية”. وقد يتعدد أئمة تراويح المذهب الواحد، فالمالكية مثلا “اجتمعت على ‏ثلاثة قراء يتناوبون القراءة”.‏

كما يحدثنا الرحالة الأندلسي القاضي أبو البقاء البلوي (ت بعد 767هـ) عن مشاهداته الرمضانية ‏في “المسجد الأقصى… أعظم مساجد الدنيا” حين زاره في رحلته إلى المشرق، ويصف كثرة جماعات ‏التراويح فيه؛ فيقول: “ولقد عددت مواضع الإشفاع وصلاة التراويح بها في شهر رمضان ‏المعظم فألفينا نحو الأربعين موضعا”.‏

وأحيانا تتدخل السلطات لتنظيم فوضى التراويح المتعددة في المسجد الواحد وما ينتج عن هذا التعدد من ‏تداخل لأصوات الأئمة المقرئين وتشويش للمصلين المستمعين؛ إذ يذكر الإمام ابن كثير (ت ‏‏774هـ) أنه كان في الجامع الأموي بدمشق محاريب متعددة للمذاهب الأربعة، ولكن في زمنه ‏تدخلت السلطة لتوحيدهم “في صلاة التراويح، [فـ]ـاجتمع الناس على قارئ واحد وهو الإمام الكبير في المحراب المقدَّم عند المنبر”.‏

وفي رمضان سنة 926هـ أمر حاكم دمشق العثماني “إمامَ الحنفية بالجامع الأموي… بأن ‏يتروّح (= يصلي التراويح) بالمقصورة ليلة… و[يصليها الإمام] الشافعي ليلة، وفُعل ذلك وتركت ‏التراويح بمحراب الحنفية، ولم يسهل ذلك على متعصبي الشافعية”.