أين تكمن الأزمة الإيرانية الحقيقية؟

محمد الرميحي*

للمتعجل، فإن الأزمة الإيرانية تكمن في الصراع بين النخبة الحاكمة والنظام العالمي الحديث، والغربي منه خاصة. وللبعض تكمن الأزمة في الفشل الذي تُمنى به الإدارة الإيرانية في تهيئة حياة كريمة وعادلة لقطاع واسع من الشعوب الإيرانية التي تزداد فقراً، ولآخرين، في أن أموالاً طائلة من ثروة الشعوب الإيرانية تهدر فيما لا طائل منه، وفي صراعات لا يمكن حسمها.
حقيقة الأمر أن كل تلك الاقتراحات حول توصيف الأزمة الإيرانية هي فقط نتائج نابعة من الأزمة الكبرى التي تسمى (ولاية الفقيه)، وهي اختراع غير واقعي جاء به السيد الخميني معاكسٌ تماماً لتاريخ من الاجتهادات الشيعية الاثني عشرية، ومعاكسٌ لخبرة تاريخية من النفور من التدخل في الشؤون السياسية على مرِّ عصور.


الأصل في الاجتهاد الشيعي الاثني عشري هو النأي برجال الدين والقائمين على التثقيف الديني الإيماني عن السياسة فيما يعرف بفقه الانتظار، وفقه الانتظار جاء نتيجة تجارب مريرة في الصراع السياسي، انتهت إلى ضرورة انتظار ظهور الإمام الغائب لقيادة الأمة، والنأي بالنفس حتى ذلك الوقت عن العمل السياسي المباشر أو غير المباشر باعتبار ذلك منجاة من الفشل، على أساس أن الشخص العادي – ملكاً أو حاكماً – يمكن أن يفشل، أما الفقيه فإن فشله السياسي ينسحب على المذهب كله وعلى الحوزة وتحميلهما وزر ذلك الفشل. في المسيرة التاريخية للمذهب الاثني عشري الإيراني كانت هناك بعض الرخص التي ترخص بها بعض الفقهاء للعمل السياسي غير المباشر، ويذكر لنا التاريخ تجربة الحكم الصفوي عندما قرر إسماعيل الأول في بداية القرن السادس عشر الميلادي أن يحول إيران إلى المذهب الشيعي الاثني عشري، وهدف من ذلك إلى إعطاء الشعوب الإيرانية هوية مخالفة للجوار ومنصة للعداء مع العثمانيين السنة، وكانت إمبراطوريتهم في ذلك الوقت هي القطب المنافس أو الطامح لبسط سيطرته. وقتها ظهر ما يمكن أن يسمى (ثنائية الفقيه والسلطان)، أي استعانة السلطان الصفوي على امتداد حكمه وبدرجات مختلفة بالفقيه الشيعي، من أجل ترسيخ سلطانه لدى الشعوب التي سيطرت عليها الإمبراطورية الفارسية، ولكن الفقيه الصفوي لم يجرؤ على أن يكون ذا سلطان سياسي مطلق، بل إن بعض الفقهاء الذين استعانت بهم الدولة الصفوية اختلفت معهم هذه الدولة وهمشتهم في وقت أو آخر.
وفي بداية القرن العشرين يظهر لنا شكلٌ آخر من انخراط الفقيه الاثني عشري في السياسة، هذه المرة من خلال الفقيه الليبرالي الذي حثَّ على المضي في حركة (المشروطية)، وهي مطالبة بالتمثيل الشعبي بين عامي 1905 – 1907؛ وتعرف بالثورة الدستورية، التي أدت إلى قيام برلمان شارك فيه بعض الفقهاء، ولكنهم لم يقربوا الحكم المباشر، كان دورهم تحريضياً. وتبنى عددٌ ليس بالقليل منهم أفكاراً ليبرالية مماثلة لتلك الأفكار السائدة في غرب القارة الأوروبية في تلك الفترة من الزمن، سميت تجربتهم تاريخياً «الليبرالية المؤمنة». عاد من جديد النظام الحاكم لاستخدام الفقيه الاثني عشري في ستينات القرن العشرين فيما عرف بثورة محمد مصدق الوطنية، ولكنه كان استخداماً سلبياً، فقد حرَّض الفقهاء العامة وقتذاك على حكومة محمد مصدق بذريعة أنها (تحمل الأفكار الشيوعية)، وعلى هذا الأساس – وليس من دون دعم غربي – أطيح بثورة مصدق التحديثية. في كل المراحل السابقة كان الفقيه يقوم بدور (السَّنيد) للعمل السياسي الإيجابي أو السلبي، ويُستخدم لتعبئة تعاطف العامة عند الضرورة من أجل نصرة هذا أو ذاك من الاجتهاد السياسي. وكان ذلك منسجماً مع الفكر التقليدي الاثني عشري من ناحية عدم التورط في حمل العبء السياسي المباشر، وانتظار عودة المعصوم؛ حيث إن إقامة الدولة في زمن الغيبة افتيات على المعصوم؛ لأنه وحده فقط المنوط به إقامة الدولة؛ لأن أحد شروط إقامة الدولة في الفقه الاثني عشري هو جلوس المعصوم على رأسها، والفقيه الاثني عشري المتقدم (المرجع)، هو إمام الدعوة على أكثر تقدير لا إمام الدولة.
سار الأمر في معظم تاريخ المذهب الاثني عشري على القطيعة النسبية بين الدولة والفقيه، أو التعاون في أحسن الأحوال تحت شروط محددة، كما حرصت كل أشكال الدولة الإيرانية منذ الصفويين ومنها الحديثة على أن تسترضي الفقيه وتقدم له الامتيازات الخاصة بالحوزة والتعليم، شرط أن يقابلها بالولاء أو على الأقل عدم التحريض ضدها، وكان ذلك حتى عصر الشاه الأخير محمد رضا بهلوي. في وقت ما ليس ببعيد قبل الثورة الإيرانية الأخيرة، بقيت الحوزة الرسمية الشيعية ضد فكرة التدخل في السياسة، بل وصل بعضها حتى إلى نفي فكرة وجود (دستور حديث للدولة)، والأغلب أن الحوزة كانت ترفض قراءة بعض المجتهدين لمشاركة الفقيه في السياسة أو الاشتراك في الحكم، بل إن مساعدي الخميني من الليبراليين كانوا تحت قناعة أن الخميني يقوم بالحشد ولكن نحن نحكم!
القفزة التي فارقت كل ذلك التاريخ هو ما جاء به السيد الخميني، فقدم فكرة (ولاية الفقيه)، التي سار بها البعض نتيجة ظروف تاريخية معقدة ولكنها مشروطة بما عرفه بعضهم بـ(شورى الفقهاء)، ومع ترسخ سلطة الخميني وعدد من الأحداث العسكرية والسياسية تحول الأمر في ولاية الفقيه من شورى الفقهاء إلى ولاية الفقيه المطلقة، وإمساكه بزمام السلطة المادية (المال والعسكر) والروحية، فتراجعت ثم تنحّت فكرة (ولاية الأمة على نفسها) وغيرت بعض نصوص الدستور الأول إلى حكم مطلق، وهمّش كلا الاجتهادين، المشاركة أو المشروطية، وتحول النظام الإيراني – كما يظهر ويمارس اليوم – إلى نظام استبدادي وشخصاني مطلق، استخدم سلطان الترهيب الذي يقود إلى الخوف ثم الصمت للسيطرة الكلية والشاملة، مما نتج عنه فداحة في التعدي على الحقوق البسيطة للمواطن في إيران، لقد خلق بعض رجال الدين (الغول) واستعصى عليهم ترويضه. الأجنحة التقليدية إما صُفيت أو همشت، أو أن بعضها التحق بالولاية المطلقة بسبب الامتيازات، وأصبح هناك رجل واحد يملك ما كان يعتقد الفكر الشيعي الاثني عشري التقليدي أنه امتياز حصري للإمام الغائب، هنا تكمن أزمة النظام الإيراني الحالي وليس في أماكن أخرى، كل الأزمات هي مجرد إفرازات للأزمة الأم وهي امتلاك سلطة مطلقة على المال والعباد ليس لها رادٌّ أو منافس. تخلق أعداء في الداخل والخارج، بعضهم وهمي للاحتفاظ بالسلطة المطلقة.
من الطبيعي أن تنمو معارضة سواء في التيار التقليدي أو التيار الحديث للولاية المطلقة، فهناك الحركة الشيرازية على سبيل المثال وحركات أخرى معارضة. السلطة المطلقة لم تقدم غير الفقر والعوز للجماهير. الديمقراطية، حتى قليل منها، تصلح فسادها، أما الشمولية فإنها تسير إلى حتفها. ويتخوف البعض من أن ذلك سوف يدفع الجماهير الإيرانية إلى رفض فكرة الولاية برمتها، بل وربما التحول إلى أفكار حديثة تقطع بين المذهب (الدين) والسياسة، حتى أصبحت العمامة في الشارع الإيراني قذى في عيون العامة، يقول بعض المنشقين بسخرية إن النظام بأعماله تلك ممهدٌ جيد لقدوم الغائب، لكونه يزيد من تأزيم الوضع الاقتصادي والاجتماعي وتأجُّج الصراع الكوني.
آخر الكلام:
بعد اكتشاف (الخلل الوصائي) في نظام ولاية الفقيه، كثيرون في النظام الإيراني الحالي، وخاصة السابقين في الإدارة، يطالبون بأنه لا عصمة بعد العصمة الحالية؛ فجُل شرور إيران منها.

مؤلّف وباحث وأستاذ في علم الاجتماع بجامعة الكويت.