مصطفى فحص
عشية الانتخابات البرلمانية استعان نظام ولاية الفقيه بالتاريخ. عاد إلى أكثر من 2500 سنة إلى الوراء، عودة مرتبطة بأزمة داخلية لم يعد النظام يملك أجوبة مقنعة عليها، الأمر الذي يدفع إلى التساؤل: هل يواجه النظام مشكلة إقناع مواطنيه بتغطية طموحاته الإمبراطورية وفي تبني هويته العقائدية؟
منذ أيام رُفعت على أحد جسور المُشاة في طهران يافطة رُسم عليها الوجه الافتراضي لأشهر الملوك الفرس، قوروش الكبير، مؤسس السلالة الأخمينية، وإلى جانبه خارطة للحدود التي وصلت إليها الإمبراطورية الفارسية في عهده، وكُتب عليها بالفارسية “إيران الغد هي امتداد لطموحات قوروش”، وأن إمبراطوريته “تمتد من السِند وسيحون في الشرق إلى غزة ولبنان في الغرب”.
الاستعانة بقوروش في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ الثورة الإيرانية، تكشف عن حجم التراجع في خطاب النظام داخليا إلى مستوى دفعه لاستعادة أدبيات تاريخية تُناقض جوهر شعارات الثورة الإسلامية، التي عملت في مرحلة تأسيس خطابها العقائدي على إعادة تشكيل الوعي الجماعي الإيراني بعيدا عن المكونات التي أثرت في تشكيل الشخصية الإيرانية تاريخيا.
ومما لا شك فيه أن النظام يعاني من أزمة إعادة إنتاج نفسه ويبحث عن مسوغات شرعية جديدة تعطيه شرعية سياسية وأيديولوجيته بعد تراجع خطابه الديني وتقلص تأثيره الثقافي والاجتماعي على المجتمعات الإيرانية. وقد وصل هذا التراجع إلى مرحلة تهدد بخطر فقدان الهوية الوطنية الجامعة، التي كانت تشكل العامل العقائدي لوحدة الشعوب الإيرانية وقد لخصتها الثورة الإسلامية سنة 1979 عندما نقلت السلطة من مَلكية يشكل التاج الإمبراطوري عامل وحدتها القومية، إلى جمهورية إسلامية يشكل رجل الدين بوصفه الولي الفقيه عامل وحدتها الدينية.
ولكن بعد 41 سنة على حكم الملالي، فقدت الهوية الدينية دورها الجامع للأمة، فأثرت على قدرة النظام في إقناع الإيرانيين عقائديا بتقبل سياساته الداخلية والخارجية، فلم يجد مخرجا له من أزمته البنيوية إلا في استدعاء الماضي ومقاربته بالحاضر من أجل تمرير مشاريعه التوسعية وفرض نفوذه الخارجي.
وهذا ما يفسر اللجوء إلى قوروش العظيم في محاولة معقدة من أجل دمج ما بين هوية النظام الجيوعقائدية والتفوق القومي، وهي دعوة من أجل الربط بين دعاة إعادة الاعتبار للهوية القومية وربطها بالهوية العقائدية في إطار طرح مذهبة القومية.
والجدير ذكره أن هذه ليست المرة الأولى في تاريخ إيران الحديث يتم فيها الاستعانة بالهوية القومية، ففي سنة 1971 وبمناسبة مرور 2500 سنه على تأسيس الإمبراطورية الفارسية حينها، تعمد شاه إيران محمد رضا بهلوي استحضار الماضي من أجل إعادة تعويم الهوية القومية للوقوف بوجه التحولات التي كانت تحدث داخل المجتمعات الإيرانية، والتي كان واقعها في تلك اللحظة يتناقض كليا مع الخطاب العقائدي للدولة، والذي أهمله الشاه بداية وفشل في احتوائه لاحقا فكان السبب المباشر لإسقاطه.
في اللحظة الإيرانية الراهنة، يواجه نظام الثورة الإسلامية انقساما عاموديا بين أقلية عقائدية حاكمة لا يتجاوز تمثيلها 25 في المئة من الإيرانيين وبين أغلبية معارضة، ترفض كل المسوغات السياسية والعقائدية والفكرية التي قدمها النظام من أجل تبرير سياساته العامة، خصوصا بعدما تمسك الإيرانيون بالمطالب الإصلاحية ورفض السياسات التوسعية المُكلفة، وتمسكهم بشعار “لا غزة لا لبنان روحي فدا إيران”.
في مقابل هذا التمسك، ذهب النظام من أقصى الراديكالية الدينية وطرحها الجيوعقائدي إلى أقصى الراديكالية القومية وطرحها الإمبراطوري، وعاد وذكر الإيرانيين بأن تصدير الثورة وتوسيع نفوذ إيران الجيوسياسي هو تطبيق حرفي للتوسع الذي شهدته بلاد فارس في عهد قوروش الذي حكم شرق المتوسط وصولا إلى سواحل لبنان وغزة.
وعليه، فإن دغدغة المشاعر القومية لدى الإيرانيين قُبيل الانتخابات، محاولة من النظام في الحصول على شرعية شعبية أوسع، تعوض انحسار قاعدته الشعبية وفي إمكانية إنقاذه من حرج التأييد الضعيف، مع المشاركة غير الكثيفة في الانتخابات التشريعية، خصوصا أن مرشد الثورة اعتبر هذه الانتخابات استفتاء على شرعية النظام بوجه ما وصفهم بالأعداء.
*كاتب وصحافي لبناني والمقال عن “الحرة”