مشرق غباس*
القول إن “الإقليم السني” الذي يدور الحديث عنه في الكواليس والعلن هو “خيار إيراني” قبل أن يكون خيارا أميركيا كما يجري التداول، يحتاج إلى تحليل أكثر عمقا من الحديث عن أن “أصدقاء طهران” من “السياسيين السنة” قد غيروا وجهتهم على عجل نحو التلويح بالإقليم، ومن ثم الترويج إلى أن تقاربهم مع واشنطن، ودفاعهم عن وجود القوات الأميركية، ومن ثم تعرضهم إلى هجمات من الجيوش الإلكترونية لبعض المليشيات، وهي الأدلة التي تستخدم لتثبت نزعتهم تلك.
ومع أن هذه الطبقة من القراءة، مغرية فعلا، خصوصا أن فكرة “الإقليم السني” قد تم تداولها أميركيا في مراحل مختلفة، وأن تراجع الاهتمام الاميركي بالعراق في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب إلا من زاوية الصراع مع إيران، يبرر تقديم هذه الفرضية التي سوف تقود بلا شك إلى تقسيم العراق، فإن من الواجب وضع ثلاث حقائق على الطاولة:
الحقيقة الأولى، أن طهران لا تختار أصدقاءها عشوائيا كما تفعل واشنطن، فالأولى تتأسس كل استراتيجياتها الإقليمية على الاستثمار في الأشخاص، قيادات سياسية وميليشياوية ورجال دين، فيما تلتحف الثانية بفرضية العلاقة مع المؤسسات لا الأفراد، لتبرير الأخطاء في استراتيجيتها، عندما رعت شخصيات هامشية في العراق طوال سنوات وقدمت لهم الدعم السياسي والمالي لتكتشف أنهم لم يكونوا أصدقاءها يوما.
والثانية، أن إيران والولايات المتحدة وباقي الدول لا تتعاطى في علاقاتها من زاوية القطيعة، بل تمارس السياسة وتتبادل الرسائل على المستويات المختلفة، ومن خلال المواقف والتطورات المختلفة، وفي هذا الشأن يمكن اعتبار عملية قتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني في العراق بمثابة رسالة، حول انهيار التفاهم ـ التوازن الإيراني ـ الأميركي في العراق الذي حكم السنوات الماضية وكان لصالح إيران، وأن واشنطن قد تكون جادة في انتزاع حصة نفوذها السابقة، وأن طهران مستعدة للتراجع عن مكاسبها في السنوات الثلاث الأخيرة لمنح واشنطن المساحة التي تحتاجها.
أما الحقيقة الثالثة، فهي أن إيران تشعر بضغط هائل وحقيقي ناتج عن الاحتجاجات التي تجري في العراق وتعم مدن الوسط والجنوب، وهي المدن ذات الغالبية الشيعية التي تعدها طهران امتدادا طبيعيا ليس لنفوذها الجيوسياسي فقط، بل هي جزء من فرضية الامتداد الثقافي والمذهبي الذي يشكل جوهر نظرية حكم ولاية الفقيه الإيرانية.
إن هذا التأثيث الضروري للمشهد يقود مباشرة إلى إعادة إحياء نظرية “الإقليم السني” من قبل أصدقاء إيران السنة وليس غيرهم، وهؤلاء يتحدثون لجمهورهم عن أن سبب اللجوء إلى هذا الخيار هو التخلص من المليشيات المسلحة التي تهيمن على المدن المحررة من تنظيم “داعش” والتي تمنع إعادة إعمارها، وتستقوي على سكانها بسلاح قانون “4 إرهاب”، مع أن قرار هذه المليشيات تتخذه طهران قبل غيرها، واستمرار ضغطها على المناطق السنية يمثل سياسة قصدية للدفع باتجاه “الإقليم السني” ولكن على أن يتم ذلك عبر أصدقاء إيران من السياسيين السنة!
وهؤلاء السياسيون أنفسهم، قد تحدثوا مع واشنطن عن الإقليم، لضمان استمرار القواعد الأميركية، وإن هذا الحديث الذي لا يمكن أن يكون إلا بتنسيق مع طهران أولا، ويمثل رسالة إيرانية إلى أميركا بشأن الاستعداد للتراجع في العراق في مقابل الحفاظ على نفوذها في المناطق الشيعية وقرار بغداد.
أما الأكثر حساسية في هذه القضية فيتعلق، باتخاذ الاحتجاجات العراقية منحى أكثر خطورة في التعاطي مع إيران، وذلك لا يتم تفسيره إيرانيا بأنه فشل لأكثر من 16 عاما من الاستراتيجيات الخاطئة في العراق، بل يتم فهمه بأنه ثمن القبول الإيراني بسحب بطاقة الصراع المذهبي من الأجندة الإيرانية مع الحرب على “داعش” لينتج عنها صعود حاد للوطنية العراقية لدى الشباب العراقي المطالبين بدولة طبيعية وليس حديقة خلفية لنقل صراعات إيران من مضيق هرمز إلى بغداد، وأن انبثاق “الإقليم السني”، أو في الأقل التلويح به، مناسبة جيدة لاستعادة أجواء المخاوف الاجتماعية، التي سبق أن أخمدت الروح الوطنية العراقية، وسمحت بإنتاج المليشيات المذهبية كممثل جديد عن الهوية.
في المحصلة، فإن “الإقليم السني” الذي يتم تسويقه للجمهور المحلي بأنه سيكون “واحة مستقرة” ولبعض الدول العربية بأنه جدار عازل بين طهران وامتداد نفوذها إلى سواحل المتوسط، ولواشنطن بأنه مكافئة لاستراتيجية استعادة جزء من العراق، لن يكون في الواقع أكثر من بؤرة لصراعات فوضوية لا محدودة تسمح ظاهريا باستمرار الوجود الأميركي مع جعله “مكلفا” أكثر مما هو اليوم، لكنه يتيح في الجوهر استمرار خطوط النفوذ الجيوسياسي الإيراني غربا وجعلها أقل كلفة عما هي عليه الآن.
*كاتب عراقي والمقال عن “الحرة”