في الأول من تموز (يوليو) الجاري، قال وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، في كلمة بثها مباشرة تلفزيون بلاده الرسمي ما يلي: “عرف الأميركيون أن الاتفاق النووي حرر يدي إيران من الأغلال ومكنها من التقدم وتكثيف وجودها في المنطقة”. في كتابه “العالم كما هو”، قال بن رودس الذي شغل مناصب عدة في إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما شيئاً شبيها في كتابه الصادر العام 2018. ولكن، أن يقول هذا جواد ظريف وهو المفاوض الإيراني من أجل اتفاق العام 2015 النووي، المسمى “اتفاق الخمسة زائد واحد”، والموقّع الإيراني الرسمي عليه، فهذا يحمل دلالات جمة ومختلفة، ويقدم إضاءة جديدة على اتفاق هو الموضع الرئيس للنزاع الراهن بين واشنطن وطهران، بعد أن اختلفت قراءة الرئيس الأميركي دونالد ترامب له، عن قراءة سلفه أوباما، ما دفعه إلى سحب التوقيع الأميركي عليه انطلاقاً من النقطة المتعلقة بالتمدد الإيراني في المنطقة، إضافة إلى نقطتي البرنامجين النووي والصاروخي.
هنا، يمكن العودة إلى الوراء لتفسير كلام جواد ظريف: في المفاوضات، التي جرت ثنائياً بين الأميركيين والإيرانيين سراً في العاصمة العمانية مسقط منذ أيار (مايو) 2009، وتلك العلنية التي سميت بمفاوضات “خمسة زائد واحد”، كان هناك انسداد وعدم اختراق حتى ربيع العام 2014. عندما سقطت مدينة الموصل العراقية بيد تنظيم “داعش” الإرهابي في العاشر من حزيران (يونيو) 2014، حصل انزياح تقاربي بين الأميركيين والإيرانيين، كان أحد تجلياته موافقة واشنطن على تشكيل “قوات الحشد الشعبي العراقي”، وهي قوات موالية لطهران وتعادل قوة الجيش العراقي الذي عانى من هزيمة مذلة في الموصل، ثم اتفاق الأميركيين والإيرانيين على إزاحة نوري المالكي وتعيين حيدر العبادي في رئاسة الوزراء العراقية في آب (أغسطس) 2014. يبدو أن واشنطن وطهران شعرتا بخطر مشترك من تمدد تنظيم جهادي، أعلن بعد ثلاثة أسابيع من سقوط الموصل قيام ما سمي “دولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام”، التسمية التي قام خصومها بتجميع حروفها في كلمة “داعش” وهو ما ترافق مع إعلان أبوبكر البغدادي “خليفة للمسلمين”، بعد أن أصبح هذا التنظيم يمتد جغرافياً من الشمال العراقي وصولاً إلى ضاحية أبو غريب قرب بغداد وعلى امتداد نهر الفرات من الفلوجة حتى جرابلس عند الحدود السورية – التركية. هذا ما يفسر – ولا شيء آخر – الصمت الأميركي، الذي يعني الموافقة على حدث زلزالي في البنية الجيو – سياسية لمنطقة الشرق الأوسط، مثل استيلاء الحوثيين، أتباع طهران وحلفائها اليمنيين، على صنعاء في 20 أيلول (سبتمبر) 2014، الذي قيل يومها بأنها ضربة تعويضية إيرانية عن (سقوط الموصل. يلاحظ هنا تسارع المفاوضات الأميركية – الإيرانية بين خريف 2014 وربيع 2015 في اتجاه تلاقيات قادت إلى توقيع “بروتوكول لوزان” في الثاني من نيسان (إبريل) 2015، الذي كان بمثابة الجنين الذي ولد منه اتفاق 14 تموز (يوليو) 2015 المتعلق بالبرنامج النووي الإيراني.
تؤكد أوساط ديبلوماسية بعضها تابع لدول ليست صديقة للأميركيين، أن عملية 26 آذار (مارس) 2015 ضد الحوثيين، التي أطلقتها الرياض وأبوظبي وشكلت نواة التحالف العربي – الدولي في اليمن، كانت ضد إرادة باراك أوباما، وأقرب إلى عملية وقائية لتحصين النفس ضد تداعيات التقارب الأميركي – الإيراني، ويلاحظ بعدها حصول تقاربات سعودية – روسية في صيف العام 2015 كانت غير مسبوقة بين البلدين. هنا، يمكن إكمال هذه اللوحة التي يمكن تسميتها “اتجاه غربي نحو تدليل الحوثيين” من خلال ملاحظة انحياز ثلاثة موفدين للأمم المتحدة إلى اليمن نحو الحوثيين ضد حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي، ابتداءً من جمال بن عمر (2011- 2015) الذي وصف بـ”مهندس إسقاط صنعاء”، ثم إسماعيل ولد الشيخ وصولاً إلى مارتن غريفيث. وهذا ما لا يتمّ من قبل موفدين للأمم المتحدة من دون رضا واشنطن ولندن وتوجيهاتهما، ويمكن في هذا الاتجاه الإشارة إلى قناة “بي بي سي – عربي” وتغطيتها المنحازة إلى الحوثيين.
في هذا الصدد، لم يكن باراك أوباما ينطق عن هوى شخصي، بل يعبر عن اتجاه أميركي إلى الانزياح عن منطقة الشرق الأوسط نحو التركيز على الشرق الأقصى لتطويق الخطر والتحدي الصينيين للقطبية الأميركية الأحادية للعالم ومجابهتهما. ومن المؤكد في حسابات أوباما أن التقاربات مع إيران كانت جزءاً من عملية مجابهة الصين عبر إعادة احتواء طهران أميركياً وانهاء حالة المجابهة معها، باعتبار أن خطاً أميركياً في محور كابول – طهران – بغداد، سيشكل سداً مانعاً لتمدد بكين نحو الشرق الأوسط وأوروبا وأفريقيا. علماً أن طهران كانت متعاونة مع واشنطن في غزو أفغانستان العام 2001، وفي غزو العراق العام 2003، ولم يختل هذا التعاون سوى مع استئناف طهران لبرنامج تخصيب اليورانيوم في آب (أغسطس) 2005.
أراد أوباما عبر الاتفاق النووي مع طهران إرجاع التعاون الأميركي – الإيراني إلى المجرى الذي بدأ فعلياً إثر ضربة أسامة بن لادن لبرجي نيويورك في 11 أيلول (سبتمبر) 2001، والذي قال أحد الصحافيين اللبنانيين إنه في ذلك اليوم “انتهت الرقصة الأميركية مع السنة وبدأت الرقصة الأميركية مع الشيعة”. هذا التعاون انقطع بمبادرة إيرانية في السادس من آب (أغسطس) 2005 وحتى 14 تموز (يوليو) 2015، ثم قطعه دونالد ترامب في الثامن من أيار (مايو) 2018 في اتجاه شروط أميركية أفضل مع طهران ولكن في منطق مماثل لاتجاه أوباما نحو احتواء إيران وليس ضربها مثلما فعلت واشنطن مع الملا عمر وصدام حسين. هنا بالتأكيد، كان “الكسوف السني وصعود شمس الشيعة” عند واشنطن، وراء قرار ميشال عون التحالف مع “حزب الله” في اتفاق شباط (فبراير) 2006، ثم سكوت واشنطن العملي الضمني عن عملية أيار 2008 التي قام بها “حزب الله” في بيروت. وكلتا المحطتين شكلتا طريقاً لعون نحو الوصول إلى سدة لرئاسة اللبنانية في عام 2016 بتوافق أميركي – إيراني، قبل أن ينفجر الخلاف بين واشنطن وطهران في أيار 2018، مع سحب ترامب التوقيع الأميركي على الاتفاق النووي الإيراني.
* كاتب سوري والمقال عن “الحياة”