د. ياس خضير البياتي*
في يوم شتائي بارد من عام 2351 قبل الميلاد، ثار شعب مملكة (لكش) على حكومته المستبدة، ووقفوا وقفة احتجاجية غاضبة لما عانوه من سوء الأوضاع وحجم الضرائب، وبعد احداث طويلة نصب الثوار (أوروكاجينا ) من عامة الناس أميراً عليهم فقام بأول إصلاح سياسي عرفهُ التاريخ ، حيثُ شرع (اوركاجينا ) مجموعة من الإصلاحات تم تدوينها بدستور جديد سُميت بإصلاحات (اوروكاجينا) جاء في مقدمتها :جئت لأخلص الضعيف من القوي ولن ادع احد ينام وهو جائع ، وقد تمثلت هذهِ الإصلاحات برفع الضرائب وتحسين الخدمات اضافة الى توفير فرص العمل، وإنهاء التسلط الطبقي ،واستغلال المناصب والفساد الذي شاع بذلك الزمن ،وهذه الإصلاحات تم تدوينها على موشور طيني تم العثور عليه في العراق، ومعروض حالياً بمتحف اللوفر في باريس .(طه باقر، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ،ص357) وهذا يعني بأن اول ثورة إصلاحية عرفتها البشرية انطلقت من الناصرية .
والناصرية في التاريخ لها قصص ترتبط بالمعاني والرموز، هي مدينة جدلـــــية بامتياز ،بأفعالها وافكارها المتناقضة ، يفهمها المؤرخ والاثري، لعمقها التاريخي الذي يعود الى سبعة الاف سنة، فهي موطن السومريين والاكديين، وارض ولادة النبي إبراهيم الخليل صاحب اول واكمل وابقى رؤية كونية توحيدية في التاريخ ، ومنشأ المدن العميقة بالبشر والمنجزات، اور المدينة التي علمت البشر ابجديات الكتابة، والبهية بالمنجزات والقوانين والنثر الجميل، وبيوتات القار والثقافة والعلم، هي بلاد سومر في العصور القديمة، وواسط أيام الدولة الأموية، ثم البطائح في العصر العباسي، فالمنتفق في العهد العثماني نسبة إلى المنتفق بن عامر بن عقيل بن كعيب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. ثم الناصرية التي تأسّست في العام 1870م على يد الأمير الشريف ناصر الأشقر باشا السعدون. ومن مدنها الشطرة، البطحاء (والتي حدثت فيها معركة ذي قار وتسمى ببطحاء ذي قار) والرفاعي، سوق الشيوخ، الغراف، قلعة سكر، الجبايش، ناحية الفجر.
من تظاهرات الناصرية أمس/ فرانس برس
ولتاريخ المدينة المشتعلة بالشعر والادب والفنون والسياسة، قصة أخرى، فقد كانت وكرا نضاليا لتأسيس العديد من الأحزاب، بدأها الحزب الشيوعي العراقي عام 1928 حيث كان اول فروعه في العراق، ثم تلاه في التأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي في نهاية الاربعينات، وكان من بين مؤسسيه الرئيسيين فؤاد الركابي، ومن ثم حزب الدعوة في مطلع الخمسينات. مما جعلها سلة العراق في غذاء السياسة والانتفاضات ورافدا لها بالأسماء الكبيرة من السياسيين الكبار أمثال عبد المحسن السعدون وصالح جبر وفؤاد الركابي ومصطفى جمال الدين، كما كانت موطن الغناء والادب والجمال، فقد كانت منجم العراق في الغناء بأسماء رفعت اسم العراق غنائيا أمثال داخل حسن وحضيري أبو عزيز وناصر حكيم وحسين نعمة وطالب القرغولي، مثلما كانت صوت العراق الشعري من خلال زامل سعيد فتاح وكاظم الركابي وعريان السيد خلف وكاظم إسماعيل الكاطع.
فالمدينة تشبه ديواناً محتشداً بالقصائد لا تلتئم الا بالأماسي وحلقات النقاش والسمر والشعر والغزل والقفز بين القوافي والبحور ،كما هي موطن كتاب الادب والفن أمثال الروائي عبد الرحمن الربيعي وصلاح نيازي والفنانة سناء عبد الرحمن وأخرين، لكنها من جانب آخر تتجمع فيها تناقضات الحياة، واسرار الانسان ومشاكساته بلغة الأمثال والفلكلور والبوذيات والحسجات الجميلة، وطيبة الاهل ومشاكساتهم للأنظمة ،وهي لا تخلوا من شجن معاكس للطبيعة البشرية، واتهام مضاد غير حقيقي لها، لهذا قال أحد شعرائها (جذب من كال عن ذي قار شجرة …خباثتهم وفه اهل الناصرية)
الناصرية اليوم تنتفض تاريخا (نريد وطن)، فهي منذ خمسة الاف سنة تفخر بأنها كانت على الدوام منطقة تأبى الخضوع، وحتى اليوم، وخلال أشهر من التظاهرات الدامية، قدمت هذه المحافظة الريفية في قلب منطقة العشائر في جنوب العراق العدد الأكبر من الشهداء، واسست لها مدرسة للصبر والتحدي ونكران الذات، وسارعت الى تقديم الأمثلة البطولية، ونماذج مشرقة لصورة الوطنية التي تشتعل حبا بالعراق، لتبتكر لنا خرائط للخلاص الوطني، وتصنع قبرا لنفايات السياسيين النتنة التي لوثت الوطن بجراثيم الطائفية والعمالة والتخلف.
وهكذا (الناصري) فوق كل هذا ثائر بامتياز منذ ان ولد فوق ارض مدينته، فقد دافع عن هويته ومستقبله ضد غزوات العثمانيين والفرس والإنكليز، ومثلما ابتكر حياة الشعر والغناء والفن، ابتكر معها روح التحدي ومقاومة الظلم والقهر والاستبداد، وجعل من ساحة (الحبوبي) وتمثاله الشامخ حامل فتوى الجهاد ضد الغزاة والفاسدين، والذي خطفته الناصرية من نجفه، كأنها ابنها الذي لم تلده، رمزا لانتفاضة الوطن في أيام الصعاب، كأنها تريد ان تستنجد بشعره وتاريخه الوطني .هي الناصرية( قاموس محيط لمعاني الشخصية العراقية، المثقفة، الحضرية، المنفتحة، الفخورة بهويتها الوطنية، والثائرة الغيورة التي ترفض الذلّ والهوان). وهي تختصر كل هذه الصفات في انتفاضة الشباب الحر المشتعل بعراقيته وعروبيته.
ناصرية المجد تبتكر اليوم حياة جديدة خارج منطق الفقر والعوز وبطالة الشباب، هي (بيضة القبان) لثورة العراق ضد الديمقراطية الاكذوبة، والحمى السياسية الروماتزمية المزمنة، وزهايمر السلطة، وصولجان الحكم، واقوام المحاصصاتيات والكتلويات المرضى بجاه السلطة والمال، لان جينات الثورة إرث للناصريين تسري في خلاياهم المتعاقبة جيلا فجيل.
ناصرية الوطن عاشقة الشعر والفن والحرف والسياسة، قدرها ان تستلم راية الانتفاضة، وتحمي الوطن من اوباش العصر، مبتكرة حياة جديدة بلا أحزاب وطائفية، وحكام مهووسين بالقتل والخطف، لذلك يحتفل شبابها بنصر انتفاضة تشرين، مدججين بأرثهم التاريخي الثقافي والوطني.
مدينة تشعل شرارة الثورة الشعبية لتضيئ مدن العراق وحاراته بضوء المستقبل، مفجرة منابع المياه لعطشى الوطن والتغيير، لتعيد دورة الزمن بكبرياء العطاء، ونكران الذات، وشهامة العراقي، كأنها تريد ان تقول لنا تعالوا لناصرية الوطن، فأنا الخصب والغيث، لكي أطفئ لكم عطش الوطن المباع والمستباح المثقل بالفقر والأحزان.
بوجناغ اروح وياك للناصرية …تعطش واشربك ماي باثنين ايديه
*كاتب وأكاديمي عراقي والمقال عن “الزمان”