“الهلال الإيراني” إذ يتحوّل “هلال بؤس وإفقار”

عبدالوهاب بدرخان*

أصبحت الخريطة واضحة الآن: “عواصم” إيران الأربع، ومعها العاصمة الإيرانية نفسها، تغرق في أوهام نظام الملالي ومغامراته. من أطلق على “الهلال الشيعي” اسمه صار يفضّل الإشارة إليه بـ “الإيراني” أو “الفارسي”، ربما لأن التطوّرات كشفت أنه مشروعٌ سياسي وتوسّعي يرتبط أساساً باستعادة أحلام امبراطورية غابرة ويتخذ من الشيعة أداةً ورأس حربة، وربما أيضاً لأن البدايات الراهنة لأفوله تستوجب نزع لونه المذهبي، تحسباً للمستقبل، باعتبار أن الصراع ليس سنّياً – شيعياً في الأصل، وأن الشيعة الذين انخرطوا في المشروع الإيراني يريدون البقاء في مواطنهم، ولا بدّ لهم من التعايش مع مواطنيهم بسلام أيّاً تكن مآلات الصراع الدائر حالياً. وإذا كان السلام يعني إنهاء النزاعات وبناء الاستقرار فقد أصبح واضحاً أنه لم يكن يوماً في أجندة طهران، حتى في حّده الأدنى.


كان 2019 عام بداية الأفول، ليس بفعل العقوبات الأميركية فحسب، بل لأن اندفاعات التخريب الإيراني في سورية والعراق واليمن ولبنان بلغت ذروتها ولم يتضح لإيران أنها اقتربت من تحقيق أهدافها. على العكس، وجدت نفسها في مآزق عدّة: تململ داخلي يطالب برحيل كبار رموزها وتغيير النظام، قلّة الموارد لمواصلة تمويل أذرعها الإقليمية، ومواجهة شبه مباشرة غير مسبوقة مع الولايات المتحدة. وكان الأخطر أن إيران أصبحت مرفوضة شعبياً بنسبة كبيرة في العراق ولبنان، واضطرّ وكلاؤها في بغداد لطرح الحرب الأهلية (الشيعية – الشيعية) كخيار للدفاع عن نفوذها، فيما يعاني وكيلها الإقليمي الأبرز (“حزب الله”) من انكشاف “النظام” الذي أقامه في لبنان وبات شائعاً اتهامه بأنه حامٍ لمنظومة الفساد وشريكٌ فيها. لكن السنة 2020 التي بدأت باغتيال قاسم سليماني وسلسلة تداعيات داخلية أعادت المتظاهرين الى شوارع إيران، تنذر بأنها ستكون السنة الأصعب على لبنان والمنطقة، ولم يعد خافياً أن الولايات المتحدة تعمل على مسارات عدة تجعل من طهران وكل “عواصمها” العربية بؤر تأزّم واحتقان واضطراب تنذر بتفجّرات غير قابلة للاحتواء.
لا مبالغة في أن “الهلال الإيراني” استهلك عهد أمجاده وبدأ يتلاشى، ليصبح بالأحرى “هلال البؤس والإفقار”. لكن تراجعه وتفكّكه سيعودان بالوبال نفسه أو بأضعَافه على الشعوب الإيرانية والعربية التي عانت من صعوده. قد يُقال عن حقّ إنه إفقارٌ مصممٌ ومبرمج اميركياً، وإنه منهكٌ ومهلكٌ للشعوب لا للأنظمة الاستبدادية، وإنه بلا استراتيجية وغير واضح في مراميه بعيدة المدى. لكن ينبغي القول، عن حقّ أيضاً، إن نتائج المشروع الإيراني ماثلة أمام الجميع في البلدان الأربعة التي ساهم في جعلها منكوبة. ففي نزاعها مع “الاستكبار الأميركي” ذهبت إيران الى حدّ تأسيس “استكبارها” الخاص الذي تستفزّ به شعوباً عربية رازحة وترهبها بميليشياتها. وإذ حدّدت إيران طرد أميركا من المنطقة هدفاً لها، فإن تصفية “الهلال الإيراني” بات هدفاً أميركياً لا تمانعه أي جهة إقليمية أو دولية بمعزلٍ عما إذا كانت تؤيّده وتساهم فيه علناً أو ضمناً، ولا تعارضه روسيا أو الصين اللتان اعتادتا على جني مكاسب من إيران خصوصاً في مراحلها المأزومة.
على رغم أن الولايات المتحدة وإيران تجنّبتا المواجهة المباشرة أخيراً إلا أن الخطر بات قائماً. فإيران تريد إبقاء الحرب بالوكالة لتتمكّن من استهداف الأميركيين عبر ميليشياتها، وواشنطن حدّدت قتل جنودها كخطّ أحمر يُرَدُّ عليه بضرب مَن ينفّذ ومَن يأمر. تأكّد للأميركيين أن خطة العقوبات تفعل فعلها، إذ غدت تطويقاً لإيران بـ “حزام اقتصادات منهارة” موصولٍ بإضعاف اقتصادها وإفقارها داخلياً. هذا هو محور خطة تصفية “المشروع الإيراني”، وهي لا تُسقط النظام بل تدفعه الى تغيير سلوكه، وإذا فعل فإنه – وفقاً للتوقّعات – سيتغيّر. تفترض الخطّة أن تصفية نفوذ النظام الإيراني في الخارج تزعزع وضعه في الداخل، لكن يتبيّن أنها تتمّ بوتيرة بطيئة تفتك بمعيشة العراقيين واللبنانيين والسوريين فضلاً عن الإيرانيين، الذين يدفعون الثمن باهظاً وقاسياً في الذهاب والإياب.
يثق نظام الملالي بأن سقوطه غير وارد ولا يرى أن أذرعه الخارجية فقدت شيئاً من قوتها، ولذا فإن الأفضل للمواجهة أن لا يغيّر سلوكه، كأن يبادر مثلاً الى التفاوض على اتفاق نووي جديد إعمالاً لبراغماتيته، أو يسحب قوات من سورية، أو يتخلّى عن ممر طهران – بيروت، أو يسهّل إصلاحات سياسية جذرية في العراق، أو يشجّع الحوثيين على حل سياسي ينهي الحرب في اليمن… كل هذه “أوراق” كان النظام ولا يزال يطمح لإخضاعها لمساومات خدمةً لاستقرار نفوذه، لكن أهميتها آخذة في التراجع لتنحصر فاعليتها في إدامة الصراعات على رغم التحوّلات الاجتماعية داخل البيئات المؤيدة لإيران وميليشياتها.
لذلك يبدو متوقّعاً استمرار الانهيار الاقتصادي والمالي في سورية والعراق ولبنان، لأنه غدا من الأدوات الرئيسية للخطّة الأميركية. أما لماذا يبقى خطر المواجهة المباشرة والحرب قائماً فلأن الخيارات الإيرانية الكبرى باتت محدودة. في خطبة الجمعة الماضية هدّد المرشد علي خامنئي بأن “بإمكان إيران نقل المعركة الى خارج حدودها” وهذا خيار كان ولا يزال متّبعاً إلا أن أميركا لم تعد تعترف به. لماذا؟ لأن إيران جمّدت التزاماتها في الاتفاق النووي، وقد شدّد الرئيس حسن روحاني في مداخلاته الأخيرة على أن “لا حدود تلزمنا في تخصيب اليورانيوم”، ولأن الدول الأوروبية تقترب من الموقف الأميركي المنسحب من الاتفاق، ولأن استخبارات الدول تتبارى حالياً في تقدير المدة الزمنية (سنتان أو أقلّ) لحصول إيران على سلاحها النووي، ووسط الضغوط المتزايدة عليها لم يعد ينقذها سوى الإعلان عن تجربة قنبلتها. اميركا واوروبا وإسرائيل مصممة على منع ذلك ولو بالقوّة، وحين أجريت المفاوضات النووية الماراتونية قيل أن الديبلوماسية ترمي الى استبعاد الخيار العسكري، فماذا إذا استمرت استحالة المفاوضات بسبب استحالة رفع العقوبات؟

 

*كاتب وصحافي لبناني