غسان زقطان*
خبر صغير يصعب ملاحظته في الفوضى التي أعقبت اغتيال قاسم سليماني، وأبو مهدي المهندس، في مطار بغداد الأسبوع الماضي، ولكنه عنيد، الخبر، ويواصل بدأب التذكير بالشعب العراقي الذي تجري على أرضه هذه الأحداث، ويواصل الإشارة الى ساحات المعتصمين في مدن العراق، وإلى المعتصمين وخيامهم المرتجلة، وأغطيتهم البسيطة على الأرصفة، ومطالبهم المنطلقة من فكرة العدالة والمواطنة، في مطاردة شعبية لفساد الحكومة، وأمراء الطوائف، وحملة رايات الميليشيات، ونفوذ الحرس الثوري الايراني، وتحكمه بمفاصل حياة العراقيين وأمنهم واقتصادهم، خلف الخبر صيحة عميقة وحقيقية تحاول أن ترتفع على غبار التهديدات المتبادلة بين المتقاتلين، واستعراضات القوة واحصاء الأهداف والنفخ في الأبواق:
ليست حربنا، هذه حرب الآخرين في بيتنا، نحن هنا على الأرض، وفي الساحات، وبوابات الجسور نخوض حربنا الحقيقية الواضحة، ضد الفساد والنفوذ الأجنبي، وتقاسم بلادنا بين أطماع المتحاربين.
الخبر قادم من ساحة صغيرة في مدينة الناصرية جنوب العراق، قافلة من السيارات الحكومية، أربع سيارات “بيك أب”، يقول الخبر، تمثل جنازة رمزية لقاسمي والمهندس، وصلت الساحة وحاولت اقتحام الاعتصام، المشيعون الملثمون هاجموا المعتصمين في الساحة، حيث أحرقوا خيام المحتجين، وأطلقوا الرصاص على التجمع، وتسببوا في إصابات ومقتل أحد المعتصمين، حدث ذلك الثلاثاء الماضي.
في الصراع الأمريكي الايراني الذي اتخذ منحىً جديداً على أرض العراق، في خضم الركض المغامر نحو هاوية الحرب، وأمام حدة الاستقطاب الذي نشأ بعد عملية الاغتيال الاستعراضية، والرد الاستعراضي، يواصل العراقيون انتفاضتهم، ويواصل المعتصمون التجمع في الساحات، ويستمر الاحتجاج الشعبي على فساد “النخب”، الفساد بمعناه العميق، الفساد المالي، والإداري، والثقافي، وفساد “الوطنية العراقية” التي تمثلها هذه النخب القادمة من أفكار “بريمر” وبرنامجه القائم على تفكيك الدولة العراقية، وأيدولوجية الملالي، وأحلام امبراطورية فارس التي مثلها بقوة برنامج قاسم سليماني في بناء شبكة من الميليشيات المسلحة، على غرار الحرس الثوري، بموازاة الجيش، والحكومة، والشعب نفسه، نظام طائفي مسلح يتجاوز فكرة الوطنية العراقية، ويدين بالولاء الكامل للولي الفقيه.
يتمسك العراقيون بانتفاضتهم بقوة من يدرك أنها سفينتهم الوحيدة في هذه العاصفة، وأنها خلاصهم، وأن أي تراجع عن مكتسباتها يعني العودة الى مستنقع الفساد الذي غرقت فيه بلادهم منذ الغزو الأمريكي، وحكم بريمر، ومنذ تسلل النظام الإيراني لمفاصل الدولة، والمجتمع ومنذ شرع قاسم سليماني في ورشة بناء الميليشيات.
وبفطرة ووعي من يدرك أن ما يحدث بين النفوذين ليس أكثر من إعادة انتشار، والبحث عن تقاسم جديد بعد أن أنجز اتفاق تفكيك الدولة، وبسبب الخوف أيضاً من تحرك الشعب العراقي خارج مظلة الميليشيات و”دولة المنطقة الخضراء”، يواصل العراقيون حماية انتفاضتهم التي هي وطنهم الآن.
مرت عليهم الطائرات الأمريكية التي اغتالت سليماني والمهندس وهم في خيام الاعتصام، مرت عليهم صواريخ “قيام” و”ذو الفقار” القادمة من كرمنشاه لتقصف قاعدة عين أسد، وهم في اعتصامهم العنيد الطويل.
عبرت عليهم لوحة المسيح وهو يحتضن دونالد ترامب، وعبرت عليهم لوحة علي بن أبي طالب وهو يحتضن قاسم سليماني، أمطرت بشدة، وبرد الجو ونقصت الأغطية، ظهر ملثمون على المفارق ومداخل البيوت، وأطلقوا الرصاص على العائدين إلى بيوتهم، واختطفوا الكثيرين من الشوارع، دون أن يغادروا انتفاضتهم.
هؤلاء، دون غيرهم، الذين يمثلون العراق الآن، ويمنحونه اسمه وهويته الحقيقية.