عبدالوهاب بدرخان*
يستفيض الإيرانيون وأتباعهم في الحديث عن ردّهم الثأري، بعد اغتيال قاسم سليماني، وكأن الردّ “المزلزل” حصل لتوّه، متعمّدين إرعاب سامعيهم، مع أن المطلوب إرعابهم وترهيبهم هم الاميركيون. يشير حسن نصرالله وغيره الى “نعوش” ستُرسل الى دونالد ترامب، ولن يرضوا بأقلّ من ذلك، ويستخلص نصرالله أن اميركا ستخسر المنطقة وترامب سيخسر الانتخابات، لكن الردّ لم يحصل بعد، وإذا حصل فلن يكون بلا ثمن، إلا أن أصحاب التهديد لا يكترثون فثقافة “الاستشهاد” تمدّهم بسعادة مسبقة. يقولون إن الرئيس الأميركي ارتكب “أكبر خطأ استراتيجي”، وقد يكون فعل، غير أنه يعتقد أن الخطأ الحقيقي كان في عدم قتل سليماني قبل زمن. أما إيرانيو النظام فلا يرون أبداً أنهم ارتكبوا أي خطأ، لا في حق بلدهم وشعبهم ولا خصوصاً في حق بلدان أتباعهم وشعوبها. لم يعد صادماً أن الأتباع العراقيين واللبنانيين واليمنيين والسوريين تجرّدوا من وطنيتهم ولا يعيبهم أنهم غير معنيين بأوطانهم بل بمشيئة أسيادهم في إيران.
تعاملت واشنطن مع طهران كما تعاملت إسرائيل مع “حزب الله” في لبنان خلال آب (أغسطس) الماضي، قبيل ردّه على مقتل اثنين من مهندسيه في غارة على منطقة قريبة من دمشق. أرسلت إليهم المواصفات التي يمكن قبولها لأي عملية انتقامية، بأن تكون محدودة ومختصرة ومتناسبة مع الحدث، وإذا تخطّت هذا السقف يخرج الوضع عن السيطرة وتكون العواقب مفتوحة. تصرّف “حزب الله” آنذاك ضمن الإطار المحدّد وطهران لم تنصح بمواجهة واسعة. هذه المرّة يريد الإيرانيون من وكلائهم أن يفعلوا كل شيء وأي شيء – قتل وقصف وتدمير واحتجاز رهائن اميركيين… يعتقدون أنها فرصتهم لتحقيق حلمهم المزمن: طرد الولايات المتحدة من المنطقة، وليس فقط من العراق، من عراقهم وهو ليس بعراقهم، ليكونوا هم البديل، وأي بديل! فممارساتهم مع أتباعهم ليست سوى مشاريع تخريب لن تغفرها شعوبهم ولن تنساها.
عاد الأميركيون الى العراق عام 2014على رأس “تحالف دولي”، بعد غياب ثلاثة أعوام، لمهمّة محدّدة هي مقاتلة تنظيم “داعش” وإنهاء سيطرته على أكثر من ثلث مساحة العراق. كانت حكومة نوري المالكي استدعتهم بإيعازٍ من طهران التي قدّرت أن الحرب على “داعش” يمكن أن تكون مدخلاً لـ “شراكة” قسرية وموضوعية مع ادارة باراك أوباما. غير أن البنتاغون رسم خريطة صارمة للمهمة لتتضمّن بالضرورة إعادة تأهيل الجيش وقوى الأمن وقوات مكافحة الإرهاب. بالطبع لم يحبّذ الإيرانيون هذا التوجّه فعمدوا الى تفعيل “الحشد الشعبي” وضغطوا على البرلمان والحكومة العراقيين لإكسابه “شرعية” وتمويل فصائله، لكن بشرط أن يكون تحت إمرة القائد الأعلى للقوات المسلّحة وأن يُنظر في مصيره بعد الخلاص من “دولة الخلافة”. انتهى الجزء الأكبر من المهمة التي تولّى فيها “الحشد” الممارسات المذهبية القذرة ضد سكان مناطق سيطرة “داعش”. ومع انتفاء الحاجة الى “الحشد” تمسّكت إيران بوجوده وتسليحه، ما حتّم أيضاً بقاء الأميركيين سواء لأن خطر “داعش” لم ينتهِ وإن تقلّص، أو لأن الوضع العراقي احتاج إليهم كعامل توازن مع تفاقم سطوة “الحشد” الذي صار جيشاً موازياً تمدّه طهران بصواريخ متطوّرة ويشكّل تهديداً للدولة وقواتها المسلّحة.
قوبلت صدمة اغتيال قاسم سليماني من جانب ايرانيي النظام ومناصريه في الخارج بصيحات “الثأر”، وساهم قادة النظام في إزكاء التهويلات وغذّوها وتركوها تتفاعل. نسي الجميع أن إرسال قادة “الحشد” الى السفارة الأميركية في بغداد ومحاولة اقتحامها وإحراقها كانت استفزازاً مباشراً. ألم يكن ذلك “خطأً” أيضاً أم أن الإيرانيين توقّعوا أن يخاف الأميركيون ويفرّوا منسجبين؟ وفي تحليل الشدّة المفرطة التي اتسم بها القصف الأميركي على مواقع “كتائب حزب الله” العراقي وإنزاله عشرات القتلى والجرحى في صفوفه، نسي كثيرون أو تناسوا أن هذا الفصيل “الحشدي” أطلق وابلاً من الصواريخ على قاعدة كركوك وقتل اميركياً وأصاب آخرين، فهل كان الإيرانيون وحشدهم يتوقّعون أن يسكت الأميركيون ويتجاهلوا أن هذا الهجوم كان الحادي عشر في سلسلة بدأت بنهاية تشرين الأول (أكتوبر) الماضي؟..
كان واضحاً أن إيران بدأت مساراً تصاعدياً ضد الوجود الأميركي في العراق تحديداً وفي المنطقة عموماً، وجرى تأكيده في المعلومات عن اجتماع سليماني مع قادة “الحشد” في فيلا في بغداد منتصف أكتوبر (رويترز). المرجّح أن الاميركيين حصلوا على المعلومات بالتنصّت أو من مصادر عراقية، وراحوا بعد ذلك الاميركيون يترقّبون “الخطأ”، إذ رصدوا تحركات “كتائب حزب الله” التي انتدبت للاقتراب من المعسكرات وتنفيذ هجمات، وأبلغوا الحكومة العراقية بل أنذروها، ثم حصل “الخطأ” بسقوط قتيل أميركي فكان الردّ القاسي على تلك “الكتائب”. وفي الوقت نفسه رصد الاميركيون تحركات سليماني ووجوده أخيراً في بيروت ثم دمشق فمطار بغداد حيث كانوا في استقباله.
قد يكون قرار اغتياله طُرح أمام ترامب بناء على تقاطع كل المعلومات عن قيادته استهدافاً مباشراً للقوات الأميركية، لكن تهديد البعثة الديبلوماسية في بغداد وحضور قادة “الحشد” للتظاهر وظهور شعار “سليماني قائدنا” على جدران السفارة حسمت القرار، كرسالة ردعية حاسمة لطهران. هذا لا يعني أن واشنطن تجاهلت أهمية الشخص ولا خطورة ما تُقدم عليه، لكنها لم تكن لتجلس وتتلقّى ضرباته وتتفرّج عليه وهو يُشرف على تنفيذ خططه ضدّ قواتها. أسهل القرارات عند ترامب الانسحاب، لكنه أيقن أخيراً أن إيران لا تبحث عن تفاوض (تعتبره مذلّاً في ظل العقوبات) بل عن مواجهة متصاعدة (تهدف الى إذلاله أمام الاميركيين وإفشال إعادة انتخابه لولاية ثانية).
لا شك في أن هذا الدافع هو بين تلك التي جعلت سليماني يعيد، بأمر من المرشد، صياغة مهمات ميليشياته المنتشرة في أربعة بلدان. فمن الدوافع أيضاً أن كل مصادر طهران عبّرت عن خشيتها من السنة 2020 التي ستتعمّق فيها تداعيات العقوبات على اقتصادها وقدراتها، إلا أنها قرّرت جعلها سنة انتظار “مصير رئاسة ترامب” وأن تكون مساهمة في سقوطه الانتخابي، ولذلك كان لا بدّ من تدشين مواجهة ساخنة على أن تبدو معزولة عن مسرح التوتّر الرئيسي في الخليج، لكن المخطط الإيراني أخذ في الاعتبار أنه كلما ازدادت الضغوط على ترامب كلما تعزّزت شعبيّته ولذلك كان (ولا يزال) مطلوباً قتل اميركيين بأعداد كبيرة… أما الدافع الآخر للتصعيد فتمثّل في الانتفاضة الشعبية العراقية التي اعتبرتها طهران “مؤامرة أميركية” وفشلت ميليشياتها في اخمادها بالقوة، لذا شعرت بالحاجة الى عمل جانبي استثنائي يغيّر الأولويات في العراق ويرسّخ النظام الذي صاغته إيران وتديره. لم يكن خيارٌ كهذا متاحاً في لبنان باستدراج حرب مع إسرائيل لإجبار الانتفاضة اللبنانية على الانكفاء، لكنه بدا ممكناً في العراق من خلال الفرصة التي يتيحها “الحشد” ضد الوجود الأميركي.
العالم يترقّب الردّ/ الثأر الإيراني وما قد يعقبه، خصوصاً أنها المرّة الأولى التي تقترب فيها واشنطن وطهران من التماس المباشر. إذا كانت إيران-“الدولة” هي التي ستتولى الردّ فقد يكون هناك هامش لتفادي حرب مدمّرة لطالما سعت طهران الى إبعادها عن أرضها. أما إذا تولّته إيران-“الثورة” مع إذرعها المنتشرة فستقع تلك الحرب التي كانت دائماً متوقّعة لكن مستبعدة. كثيرون لم يعودوا يميّزون بين هاتين الإيرانَين لكن اللحظات المصيرية تحتّم على نظام الملالي أن يختار. فإيران تحت العقوبات قد تكون قادرة على إشعال حرب أما الاستمرار فيها فهذه مسألة أخرى لا يحسمها انتشار ميليشيات موالية ومستعدة للعمل ولا وجود ترسانة سلاح هائلة.
*كاتب وصحافي لبناني