لقد فقد العالم صوابه

حازم الأمين*

لا ظرف، عراقيا وسوريا، مناسبا لاستيقاظ “داعش” كما هو مناسب الظرف اليوم. التنظيم نائم، والموسيقى المنبعثة من بغداد ومن القامشلي تُطرب أمراءه المتحفزين بين كثبان صحاري الأنبار وبر الشام. فالنصاب الأمني الذي تولى هزيمة التنظيم في شمال سوريا وفي شمال وغرب العراق، يهتز اليوم، وهو أصلا كان نصابا هشا والجميع كان ينتظر لحظة اهتزازه.

لقد كانت السنوات التي فصلت هزيمة التنظيم عن الوقائع الراهنة سنوات مريرة، وهي كانت خارج الرصد، ولم تكن محل ابتلاء الرأي العام لا المحلي ولا الإقليمي ولا الدولي. الجميع كان يُخبئ رأسه في التراب. وكنا حين ننشر تحقيقا استقصائيا عما يجري في مخيمات العزل في شمال العراق من انتهاكات، وعن حال الاستعصاء التي يعيشها مخيم الهول في شمال سوريا بعد رفض الدول استعادة إرهابيها وعائلاتهم، لم يكن عملنا يحظى بغير اهتمام عابر.

اليوم دقت ساعة الحقيقة. في سوريا قررت الإدارة الأميركية الانسحاب مفسحة المجال لرجب طيب أردوغان لكي يوجه ضربة للقوات الكردية. وفي العراق انفض التحالف السلبي والضمني بين واشنطن وطهران، والذي تولى الحرب على التنظيم الإرهابي!

أردوغان الذي كان له الدور الكبير في تحويل تركيا معبرا لمقاتلي “داعش” أطلقت يده في شمال سوريا، وطهران التي تواطأت في مرحلة ولادة التنظيم وفي مراحل تدفقه على الموصل، لهما اليوم مطلق الحرية في التصرف بمستقبل أراضي “دولة الخلافة”، وما علينا سوى أن نطلق خيالنا ونتوقع ما سيؤول إليه ذلك.

لدينا في سوريا نحو 12 ألف مقاتل من “داعش” في معتقلات “قسد”، ونحو 70 ألفا هم عديد عائلاتهم في مخيمات العزل في شمال سوريا. هؤلاء، في أحسن الأحوال، ستنتقل عملية إدارة معتقلاتهم إلى الجيش التركي وإلى حلفاء محليين له هم سبق أن لعبوا أدوارا في ولادة التنظيم وفي تضخمه.

وفي العراق سيكون للحشد الشعبي (الشيعي جدا)، بعد سحقه الاحتجاجات، دور أكبر في تقرير مستقبل المناطق السنية. إذا عناصر وصفة ولادة التنظيم قد اكتملت. تعسف شيعي يمثله الحشد الشعبي (وهو لطالما مثله)، وتواطؤ سني يمثله رجب طيب أردوغان (وهو أيضا لطالما مثله). وبينهما قرار أميركي بالانكفاء، وتنظيم نائم في الصحراء. هل من مشهد أكثر وضوحا من هذا المشهد؟ وهل ما زلنا نذكر دور الصحراء ودور المعتقلات ودور الاحتقان الأهلي والمذهبي في ولادة “داعش”؟

لن يجد متقصي الفروق بين شروط ولادة التنظيم بالأمس واحتمالات انبعاثه اليوم اختلافا يمكن التعويل عليه لتوقع نتائج مختلفة. لا بل أن ثمة شروطا جرى تخصيبها. فلم يكن لـ”داعش” في حينها مخيمات عزل تحول “فتية الخلافة” خلال عيشهم فيها إلى شبان في عمر القتال.

الأمنيون في العراق يتحدثون عن أجيال خارج الرصد الأمني، هم جيل الخلافة الجديد. والسجون التي فتح نوري المالكي أبوابها ليهرب منها قادة التنظيم، وكان بشار الأسد قد سبقه في هذه الخطوة، وهي كانت مختبرا لفكرة التنظيم وللنطفة التي أنجبته، تحولت اليوم إلى معسكرات اعتقال يجري فيها ما هو أكثر مما كان يجري في سجني بوكا وصيدنايا.

أما “ساحات الاعتصامات” في المدن السنية، والتي ولد “داعش” على ضفافها فقد استعيض عنها بفكرة “مخيمات العزل”، فهذه المخيمات بطن ولادة لمختلف أشكال العنف، إذ أن الحرمان يعيش فيها إلى جانب سلطة عميقة يمارسها “داعش”، ويتوج هذا بممارسات انتهاكية تتولاها الحشود الشعبية والعشائرية، وتم توثيق مئات الانتهاكات بحق النساء والأطفال في هذه المخيمات.

لقد فقد العالم صوابه فعلا، وها هو يرتكب الخطيئة ذاتها، ويعيد تكرار نفس الخطوات التي أفضت إلى كارثة العام 2014، وما علينا اليوم إلا أن نباشر توقع شكل “داعش” العام 2020، فهو حكما سيكون مختلفا عن “داعش” العام 2014. فقد اكتسب خبرات في أكثر من مجال، وثبت له أن “أرض الخلافة” ليست آمنة وثابتة، وأن “فقه التوحش” لا يصلح لأكثر من حكم يدوم لسنوات قليلة.

أرض الخلافة يبابٌ، والعالم لا يرغب بالتورط فيها، والتنظيم بنسخته السابقة استدرج العالم إلى أرضه، وهذا ما عجل في القضاء عليه. ربما كان أفضل له أن يكتفي بالحروب المحلية، وأن يتحول إلى قوة أهلية، مثله مثل النصرة والحشد الشعبي.

الغزو التركي لشمال سوريا، وتفرد إيران بالقرار العراقي في أعقاب سحق الانتفاضة، يفضيان إلى أفق لا يتسع لأكثر من جثة، ولأكثر من مواصلة للحروب الأهلية والمذهبية، التي تنام وتستيقظ على وقع تنافس الامبراطوريتين المذهبيتين.

*كاتب وصحافي لبناني والمقال عن موقع “الحرة”

Related Posts

LEAVE A COMMENT

Make sure you enter the(*) required information where indicated. HTML code is not allowed