في الريف الإنجليزي المغمور بغروب الشمس الذهبي وندى الصباح الضبابي، بيت فخم، حفلة كبيرة، وفتاة تجلس وحيدة بينما الرقص يتواصل على مقربة منها، تسمع شابا وسيما يصفها بأنها “ليست بالجمال الذي يجعله يدعوها للرقص”، فتعبر لأختها بغيظ “كيف أهان هذا الشاب كبرياءها لدرجة تجعلها لا تستطيع أن تغفر له غروره”.
ثم في حفلة لاحقة، يطلب منها أن تشاركه الرقص، وما أن تعزف الموسيقى حتى يتوقف الزمن، لتبدأ واحدة من أشهر القصص الكلاسيكية على الإطلاق، من بين روايات الكاتبة الإنجليزية جين أوستن (Jane Austen) (1775 – 1817) الرومانسية الست، المهتمة بالحب والزواج، وبصورة الفتاة المعتدة بعقلها وقوة شخصيتها، الرافضة لتجاهل المجتمع لقدراتها ومواهبها، والتي لا تزال تحظى بانتشار واسع، وتقتبسها عشرات الأعمال السينمائية والمسرحية والتلفزيونية، حتى أصبحت أيقونة عالمية، رغم مرور أكثر من 200 عام على صدورها.
لكن يبقى فيلم الدراما الرومانسية العائلي الأميركي “كبرياء وتحامل” (Pride & Prejudice)، الذي كتبته ديبورا موغاش وأخرجه جو رايت، عام 2005، هو الأقوى بين هذه الاقتباسات.
ففي هذا الفيلم الدرامي الذي يمزج بين الواقعية والرومانسية في توازن دقيق “يقوم شخصان عنيدان، باستفزاز وكشف وتفنيد خطايانا الشائعة عند الوقوع في الحب، في عرض ذكي وأنيق”، كما يقول الناقد السينمائي بيتر برادشو.
حيث يستقبلنا المخرج البريطاني جو رايت بومضات افتتاحية تثير المشاعر، نتعرف خلالها على التجربة العاطفية لتلك الفتاة الجميلة إليزابيث أو ليزي (كيرا نايتلي)، اللطيفة المتوهجة كالضوء، المعتدة بنفسها لحد الشراسة، بأداء يجعل القصة كأنها حقيقية، مع الشاب الأرستقراطي دارسي (ماثيو ماكفادين)، كشخصين يفضلان فعل الشيء الصحيح، بدلا من إراحة نفسيهما بتقليد الآخرين، لإدراكهما أهمية التأكد من أن قلب كل منهما يقفز نحو الآخر، قبل اتخاذ أية خطوة مصيرية، ليجعلنا نرى كيف يمكن للشباب خوض غمار الحياة وعقولهم في حالة حرب مع قلوبهم.
ففي الوقت الذي يبدو فيه كل من ليزي ودارسي مفتونين بعمق ببعضهما، يحتدم الصراع على السطح بين ابنة الرجل الريفي الذكية التي تفيض حيوية، ومالك الأرض الثري. وهو صراع بين التعالي بالثروة والمكانة الاجتماعية، والنظرة الدونية تجاه عائلة ريفية أقل مكانة، وبين كبرياء ليزي الذاتي في مواجهة عجرفة دارسي.
فمنذ أن سمعت دارسي وهو يقلل من شأن جمالها، قررت ليزي أن “تكرهه إلى الأبد”. ولكن بعد أن رفضت الضابط ويكهام (روبرت فريند) صديق طفولة دارسي، واعترضت على القس كولينز (توم هولاندر)، انهالت عليها النصائح بالرضوخ، من منطلق أنه “إذا كان يحبك، فعليك التحدث إليه”.
وذلك لقناعة أمها، السيدة بينيت (بريندا بليثين) الراسخة “أنها حقيقة معروفة كونيا، أن رجلا عزبا يملك ثروة طائلة، لابد من أن يكون في حاجة إلى زوجة”، فهذه هي المعادلة التي على أساسها تعتقد كأم لـ5 بنات في حاجة إلى أزواج، أن “مهمة حياتها هو تزويج بناتها”.
لكن لم يخطر ببال الأم أن هناك شيئا اسمه الرومانسية، يمثل حاجة ملحة ومبهجة للغاية لشخصين وُلدا ليكونا في حالة حب فقط، ولا يهتمان لأي شيء آخر، ولا حتى الزواج. وأن قصة ارتباط ابنتها الكبرى جين (روزاموند بايك) مع السيد بينجلي (سايمون وودز)، بعد أن وقعا في الحب على الفور. ليس شرطا أن تنطبق على الابنة الأصغر إليزابيث مع دارسي.
كل هذه الشخصيات تلتقي وتدور حول بعضها بعضا، والكاميرا تدور حولهم، لترصد النظرات والإيماءات والتفاعلات. فنرى إليزابيث وهي تتجنب القس كولينز، ثم وهي تحاول لفت انتباه دارسي إلى أن يرقصا معا، فيختفي الجميع بطريقة ما ويتركونهما وحدهما في الحب.
لنصل إلى لحظة فارقة، فبعد أن يحاول السيد دارسي الرصين أن يقاوم إعجابه بالآنسة إليزابيث، ويهرب من تفكيره فيها، بسبب عجرفته واعتزازه الشديد بنفسه، بالإضافة إلى ظروف عائلتها البسيطة وتصرفاتهم السخيفة التي تزعجه أحيانا. إذا بمقاومته تنهار أمام شعوره بحب جارف نحوها، وهو الشعور الذي أيقن أنه أقوى من كل هذه المتناقضات.
يقرر أن يتنازل ويعترف لها قائلا “لقد ذهبت مقاومتي سُدى، ولم يعد بإمكاني كتمان مشاعري، فلتسمحي لي أن أخبرك بشدة إعجابي وحبي لك”. إذا بإليزابيث التي انبهرت في البداية بمظهره وبالهالة الطبقية الوهمية التي تحيط به، ترفضه، باعتبار أنه “لا توجد امرأة تقبل أن يتقدم إليها رجل بهذه الطريقة المُهينة، وهو يقر أن عقله يرفض الزواج منها، حتى لو كان في ثراء ومكانة السيد دارسي نفسه”.
يعرف دارسي أنه يجب عليه أن يجتاز بعض العقبات قبل أن يصل مع ليزي إلى مرحلة الحب الحقيقي النابع من الفهم المتبادل للذات، فنرى واحدا من أقوى المشاهد التي تتجلى فيها العاطفة العميقة للقصة تحت المطر، حيث إليزابيث ودارسي غاضبان يتجادلان. في محاولة لتبديد سوء الفهم، بما يسمح لهما أن ينظرا إلى بعضهما بعضا كشخصين حقيقيين يتحليان بالشجاعة، ولا يكتفيان أن يحبا بعضهما بعضا، بل أن يحبا الاختلاف في ذاتيهما كذلك.
عندما ينسجم ليزي ودارسي أخيرا، ويصلان إلى حالة من التناغم بين عقلهما وقلبيهما، يشعر المشاهد بسعادة بالغة، وهو ما تريد القصة أن تمنحه لنا جميعا.
في الفيلم الذي رشح لـ 4 جوائز أوسكار، وحصد 13 جائزة سينمائية، وحظي بـ 55 ترشيحا آخر، تضافرت الكاميرا السخية في تنقلها الرشيق بين التلال الخضراء وكرنفال الأزياء القديمة الملونة، مع الحوار شديد التهذيب، لطيف الوقع على الأذنين، دون أن يخلو من التواضع وروح الدعابة، لتقديم معالجة فريدة أشبه بوليمة وجدانية، لهذه القصة الاجتماعية الكلاسيكية التي دارت أحداثها حول رحلة الأبناء نحو الحب والسعادة.
المصدر : الجزيرة