“إن إخواني في الدين يجدون لذة كبرى في قراءة شعر العرب وحكاياتهم، ويُقبلون على دراسة مذاهب أهل الدين والفلاسفة المسلمين، لا ليردّوا عليها وينقضوها وإنما لكي يكتسبوا من ذلك أسلوبا عربيا جميلاً صحيحا!! وأين تجد الآن واحداً -مِن غير رجال الدين- يقرأ الشروح اللاتينية التي كُتبت على الأناجيل المقدسة؟! ومَن -سوى رجال الدين- يعكف على دراسة كتابات الحواريين وآثار الأنبياء والرُّسُل؟ يا للحسرة”!!
تلكم كلمات كتبها القس الأندلسي ألفارو القرطبي (Alvaro de córdoba المتوفى 240هـ/854م) بحسِّ رجل الدين الذي يراقب ببعض الضيق وقوع أبناء ثقافته “المغلوبين” في هوى الثقافة العربية الإسلامية “الغالبة”؛ إذا استخدمنا التعبير الشهير لابن خلدون (ت 808هـ/1406م) في ‘المقدمة‘. ويُفْصِح هذا النص/الوثيقة الذي كتبه القس ألفارو -بغض النظر عن الروح المريرة التي تشيع بين سطوره فتشعّ منه- عن رحابة أفق الدولة الإسلامية الأندلسية طوال فترات ممتدة من حكمها.
إن هذا النص يؤكد أن تجربة الأندلس لم تكن فقط مجرد تجربة فريدة في التسامح والتعدد؛ ذلك أن الأمر تعدى إتاحة الحريات بأنواعها إلى تمكين التنوعات الإنسانية داخل هذه التجربة من أدوات الحضارة دون تفرقة، وليس أدل على ذلك من أن أهم فيلسوف في تاريخ اليهود وهو موسى بن ميمون (ت 601هـ/1204م) المعروف لدى الغرب بـ”ميمونِدس” شرح “الوصايا العشر” -التي ينسبها اليهود والمسيحيون إلى نبي الله موسى عليه السلام- في الأندلس حيث وُلد ونشأ وتعلم.
والحقيقة أن فلسفة التمكين هذه هي التي كانت وراء تبني غير المسلمين العادات الإسلامية واللغة العربية، حيث أعجِبوا أشد الإعجاب بالثقافة العربية وتسابقوا لتعلمها حتى نبغ العديد من كُتّابهم وعلمائهم بل وأمرائهم، وتولى بعضهم أعلى المراتب والمناصب في الدولة الإسلامية بالأندلس. هذا فضلا عن سبب آخر دفعهم لذلك؛ وهو ظاهرة مجالس الجدل والمناظرة في علوم الأديان التي كانت تُعقد في أندية وقصور الأندلس فتحولت إلى منتديات للنقاش والحوار، وبالتالي أصبحت آداب العرب موضع اهتمام ولكن من أجل التحدي لا الإعجاب.
وغيرُ خافٍ أنه في كلتا الحالتين شعر بعض رجال الدين الأندلسيين -من اليهود والمسيحيين- بخطورة التعريب الذي تتمدد مساراته وتتوسع رقعته بين أبناء ديانتهم، حيث ظهرت حركات لمعارضة جهود التعريب سعيا للحفاظ على الذات من الذوبان. ولعل القارئ المعاصر الواقع تحت سطوة التغريب يفهم شعور أولئك القساوسة والحاخامات؛ طبعا مع فارق كبير في التعددية والتسامح يظل -مهما كانت الاستثناءات واردة- محسومَ الرجحان للمسلمين.
وإذا كان ليس جديدا أن نكتب عن الأندلس أو الفردوس المفقود؛ فإن هذا المقال يحاول أن يقترب من ربوعها ليحوم حول حماها بوجه يستحق الكثير من الاهتمام، وهو تأمل في سلوك “الغالب” المسلم ورد فعل “المغلوب” المغاير في الدين واللسان، في حقبة اندرست بشكل مأساوي ولم يبق منها إلا أوراق وتجربة.. لكنها أوراق تُغري بتجدُّد التقليب والتأمل، وتجربة تـُلهم بالمراجعة والاستذكار!!
حقوق موَّثقة
من الأمثال التي كانت شائعة في أوروبا قولهم: “إن جبال البرانس هي الحد الفاصل بين أوروبا وأفريقيا”، وكذلك قولهم: “إذا تجاوزت جبال البرانيه (Pyrénees = بين فرنسا وإسبانيا) فاعلم أنك قد دخلت أفريقيا”. وهذا يوحي بتأثر كل من إسبانيا والبرتغال بكل مناحي الحياة الاجتماعية الإسلامية السائدة في بلاد الأندلس إبان الحكم الإسلامي لها كليا أو جزئيا طوال ثمانية قرون (92هـ-897هـ/711-1492م)، حتى عدها الأوروبيون جزءاً لا يتجزأ من الشمال الأفريقي، الذي ترعرعت ونمت على أرضه -منذ الفتح الإسلامي- الثقافة العربية الإسلامية وتعايشت مع ثقافاتها المحلية.
ولا يمكن ذكر كلمة “أندلس” دون استحضار أندلس التاريخ والمجد الحضاري والعلمي، الذي خلّف -بعد ضياعه- أثرَه البرّاق وتراثَه الإنساني البالغ الثراء؛ إذ تمكن المسلمون وغيرهم من بناء حضارة عظيمة مما أثر بجلاء في معارف وعادات سكان شبه جزيرة إيبيريا (إسبانيا والبرتغال)، فتعلموا لغة الضاد وأتقنوها إتقان الماهرين من أهلها، وقرضوا بها شعرا غزيرا، وتباهوا بها فيما بينهم، وانعكس ذلك الزخم العلمي والفكري العربي الإسلامي في لغتهم الإسبانية والبرتغالية التي استقبلت سيلا من الكلمات ذات الأصول العربية، بل وتجاوزتها إلى اللغات الأوروبية عامة.
لقد كان التسامح الديني العظيم الذي شهدته بلادُ الأندلس إبان الحكم الإسلامي هو المدخل الأوسع لهذا لتأثير الذي مارسته اللغة العربية والثقافة الإسلامية على سكان شبه الجزيرة الإيبيرية، والذي وصل وقْعه أولا إلى بقاع أوروبا ثم لاحقا إلى أميركا اللاتينية أيام الاستكشاف والاستعمار. ولذلك يقول المستشرق واللغوي الإسباني خوليان ريبيرا (ت 1354هـ/1935م) حسبما تنقله عنه د. فاطمة طحطح في بحثها ‘أناشيد الحدود والتواصل الحضاري بالأندلس‘: “إن تعايش شعبين لأزيد من ثمانية قرون لا بد أن يخلق لغة مشتركة يتفاهمون بها”!
اعلان
وقد أدى هذا التسامح إلى ظهور طبقة جديدة في المجتمع الأندلسي كانت نتيجة للزواج بين السكان الأصليين والمسلمين سُمِّيت “الموَّلَّدين”. وفي وقت لاحق؛ ظهرت طبقة “المستعربين” وهم المسيحيون الذين عاشوا بين المسلمين فصاروا يتحدثون العربية مع حفاظهم على دينهم المسيحي، وقد أحسن المسلمون معاملتهم بمقتضى عهود الصلح المبرمة معهم عند فتح البلاد سنة 92هـ/711م، فحافظوا لهم على وجودهم وكنائسهم وممتلكاتهم والتحاكم إلى قوانينهم، أو ما يعبّر عنه ابن خلدون -في ‘المقدمة‘- بـ”سائر أحوال الملة الدينية والدنيوية”، فكان من آثار ذلك اعتناق العديد من اليهود والمسيحيين الإسلام طواعية.
وهنا نشير إلى اتفاق “صلح أريولة” الذي عقده سنة 94هـ/713م قائد المسلمين حينها عبد العزيز بن موسى بن نصير (ت 97هـ/716م) مع ملك القوط ثيودوميرو المعروف عربيا بـ”تُدْمِيْر بن عبدوش” (ت 125هـ/743م)، والتي كانت الأساس المتين والمحتذى لاحقا في ترسيخ هذا التسامح العظيم؛ فقد تضمن نص الاتفاق -كما ساقه ابن عبد المنعم الحِمْيرى (ت 900هـ/1495م) في ‘صفة جزيرة الأندلس‘- أن تُدْمِيْر “نزل على الصلح، وأن له عهد الله وذمته وذمة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ألا يقدَّم له -ولا لأحد من أصحابه- ولا يؤخر، ولا يُنزع من ملكه، وأنهم لا يُقتَلون ولا يُسبَوْن ولا يُفرَّق بينهم وبين أولادهم ولا نسائهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا تُحرق كنائسهم ولا يُنزع عن كنائسه ما يَعبُد، وذلك ما أدى الذي اشترطنا عليه…”. وقد ترجم نص هذه المعاهدة الباحث سانشيث ألبورنوث في كتابه ‘إسبانيا المسلمة‘.
ولندعْ المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون (ت 1352هـ/1931م) يوضح لنا عمق هذا التسامح بقوله -في ‘حضارة العرب‘- إنه “استطاع العرب أن يحولوا إسبانيا ماديا وثقافيا في بضعة قرون، وأن يجعلوها على رأس جميع الممالك الأوروبية، ولم يقتصر تحويل العرب لإسبانيا على هذين الأمرين؛ بل أثَّروا في أخلاق الناس أيضا، فهم الذين علَّموا الشعوب النصرانية -وإن شئت فقل حاولوا أن يُعلِّموها- التسامحَ الذي هو أثمن صفات الإنسان، وبلغ حِلْم عرب إسبانيا نحو الأهلين المغلوبين مبلغا كانوا يسمحون به لأساقفهم أن يَعْقدوا مؤتمراتهم الدينية، كمؤتمر إشبيلية النصراني الذي عُقد في سنة 165هـ/782م ومؤتمر قرطبة النصراني الذي عُقِد في سنة 237هـ/851م، وتُعد كنائس النصارى الكثيرة التي بَنَوها أيام الحكم العربي من الأدلة على احترام العرب لمعتقدات الأمم التي خضعت لسلطانهم”!!
إلهام وإسهام
نتيجة لسياسة التسامح التي نهجها المسلمون بالأندلس؛ فقد أعجِب غير المسلمين باللغة العربة وآدابها فتسابقوا لتعلمها ونبغ العديد من كُتابهم وعلمائهم في هذه الآداب، وتولى بعضهم أعلى المراتب والمناصب في الدولة الإسلامية، بل إن ذلك قادهم إلى تبني كثير من العادات الاجتماعية للمسلمين.
وكان من أشكال تأثر اليهود والمسيحيين بمسلمي الأندلس أنهم علَّموا أبناءهم اللغة والشعر العربييْن في سن مبكرة، ويُعزى ذلك إلى كون العربية كانت لغة علم وثقافة للجميع في الأندلس، فعدم إتقانها يُبعدُ الطالب عن الولوج إلى المعاهد الدينية في الأندلس التي اعتمدت تدريس العربية منذ عهد الأمير هشام بن عبد الرحمن (ت 181هـ/796م)، فكانت لغة الكنيسة لمسيحيي الأندلس وترجموا إليها الكتاب المقدس ونصوص الصلوات؛ حسبما يقوله حسين مؤنس في ‘معالم تاريخ المغرب والأندلس‘.
وقد كانت ظاهرة الجدل الديني من العوامل التي دفعت غير المسلمين في الأندلس إلى تعلم اللغة العربية والثقافة والعلوم الإسلامية، ولذا يذكر المستشرق الإسباني آنخل غونثالث بالنثيا (ت 1368هـ/1949م) -في كتابه ‘تاريخ الفكر الأندلس‘- أن “الإعجاب بالثقافة العربية لم يكن السبب الوحيد لدراسة كتب المسلمين في جميع الأحوال، لكن بعضهم درسها من أجل التعلم وجمع الأدلة لمواجهة الإسلام وأتباعه”.
كما كان من أهم ثمار هذا التسامح الديني إحراز غير المسلمين مكانة سامية في دواليب الدولة الإسلامية بالأندلس؛ فاتخذ الخلفاءُ الأندلسيون أمناءَ من غير المسلمين في بلاطات حكمهم، ومن أشهر هؤلاء اليهودي إسماعيل ابن النِّغريلة (ت 448هـ/1055م) الذي عُيِّن وزيرا مكينا في ديوان ملك غرناطة باديس بن حَبوس الصنهاجي (ت 465ه/1074م)، حتى إنه “حجب صاحبه (= أميره) عن الناس وسجنه بين الدَّنِّ (= وعاء الخمر) والكاس”؛ حسبما ذكره ابن بسام الشنتريني (ت 542هـ/1147م) في ‘الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة‘.
وكتب ابن حيان الأندلسي (ت 469هـ/1076م) -حسبما نقله عنه لسان الدين بن الخطيب (ت 776هـ/1374م) في ‘الإحاطة في أخبار غرناطة‘- يصف تمكن ابن النغريلة من ناصية العربية؛ فقال إنه “رجل كتب بالقلمين واعتنى بالعِلمين، وشغف باللسان العربي ونظر فيه، وقرأ كتبه وطالع أصوله…، وصار يكتب عن صاحبه بالعربي”! وبعد وفاة إسماعيل ابن النغريلة خلفه في منصبه الحكومي ابنه يوسف (ت 459هـ/1068م) الذي كان على نهج أبيه في إتقانه لآداب العربية.
مشاركة متنوعة
ومن أعلام اليهود الذين أتقنوا العربية أبو الوليد مروان بن جناح القرطبي (ت نحو 441هـ/1050م) الذي كان في بلاط أمير سرقسطة المقتدر بن هود (ت 474هـ/1082م)، وله عدة مؤلفات في الثقافة اليهودية كتبها بالعربية. وذكره القاضي والمؤرخ صاعد الأندلسي (ت 462هـ/1071م) -في ‘طبقات الأمم‘- فقال إنه كان “من أهل العناية بصناعة المنطق والتوسع في علم لسانيْ العرب واليهود”.
وقد قلد اليهودُ والنصارى العربَ حتى في أسمائهم وكناهم وألقابهم فكانوا يتخذون اسما عربيا وآخر عبريا؛ فهذا المسلمُ من أصلٍ يهوديٍّ السموألُ بن يحيى المغربي (ت نحو 570هـ/1174م) يقول -في ‘بذل المجهود في إفحام اليهود‘- عن يهود الأندلس “إن كثيرا من متخصصيهم (= خاصتهم) يكون له اسم عربي غير اسمه العبري مشتق منه، كما جعلت العرب الاسم غير الكنية”.
بل إن تأثر اليهود بالعرب وصل إلى اهتمامهم الكبير بالشعر العربي حتى برع فيه منهم طائفة نافست فيه أبناء الضاد أنفسهم. ولذلك عقد المقري (ت 1041هـ/1631م) -في ‘نفح الطيب‘- مبحثا لشعراء العربية من يهود الأندلس أورد فيه طائفة من أشعارهم، وقال إثر بعضها: “وفي هذا دليل على أن يهود الأندلس كانوا يشتغلون بعلم العربية”.
ومن هؤلاء الشاعر المجيد إبراهيم بن سهل الإسرائيلي الإشبيلي (ت 659هـ/1261م)، الذي تتلمذ على شيوخ مسلمين فقال المقري إنه “كان يقرأ مع المسلمين ويخالطهم”. وقد اختلفوا في صدق إسلامه حين أعلنه “ومدح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقصيدة طويلة بارعة، قال أبو حيان: وقفت عليها وهي من أبدع ما نُظم في معناها”!
وقد أثار حنقَ بعض كبار أحبار اليهود الأندلس انتشارُ الثقافة العربية الإسلامية في أوساط أتباعهم وتعلمُ أبنائهم اللغة والشعر العربييْن في سن مبكرة، ومن هؤلاء سليمان بن جبيرول (ت 463هـ/1070م) الذي يئس من افتقار الكثير من بني جلدته الأندلسيين إلى المعرفة باللغة العبرية على عكس يهود جنوب فرنسا الذين أتقنوا العبرية جيداً.
وطبقا لما أورده خالد يونس في كتابه ‘اليهود في الدولة العربية الإسلامية في الأندلس‘؛ فإنه خلال أواخر القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي عبَّر الطبيب اليهودي السرقسطي سليمان بن يوسف بن يعقوب عن استيائه من علماء اليهود الأندلسيين الذين كانوا يكتبون ردودهم وكتبهم باللغة العربية -إبان القرنين الرابع والخامس الهجرييْن/العاشر والحادي عشر الميلادييْن- بدعوى أنها اللسان الذي يفهمه كل اليهود.
معارضة مبكرة
كان دافع معظم اليهود والمسيحيين لإتقان العربية والنهَل من ينابيع الثقافة الإسلامية إما طلبا للعمل في الوظائف أو إعجابا بلغة الحاكمين الغالبين؛ وبغض النظر عن طبيعة الدافع فإن هذا التأثر جعل -منذ وقت مبكر- بعض رجال الدين المسيحيين يشكون ويتذمرون -كما حصل لنظرائهم من اليهود- من تأثر أبناء دينهم بالثقافة العربية الإسلامية.
فهذا القس ألفارو القرطبي المتقدم الذكر يتحسّر -في وثيقة ‘الدليل المنير‘ (Indiculus Luminosus) التي كتبها سنة 240هـ/854م- على الإقبال المتزايد من الشباب المسيحيين على تعلم العربية؛ فيقول وفقاً للمستشرق بالنثيا: “إن إخواني في الدين يجدون لذة كبرى في قراءة شعر العرب وحكاياتهم، ويُقبلون على دراسة مذاهب أهل الدين والفلاسفة المسلمين، لا ليردّوا عليها وينقضوها وإنما لكي يكتسبوا من ذلك أسلوبا عربيا جميلاً صحيحا!! وأين تجد الآن واحداً -مِن غير رجال الدين- يقرأ الشروح اللاتينية التي كُتبت على الأناجيل المقدسة؟! ومَن -سوى رجال الدين- يعكف على دراسة كتابات الحواريين وآثار الأنبياء والرسل؟ يا للحسرة”!!
ثم يضيف ألڤارو مُصدِرا آهاتٍ وحسرات على الشباب المسيحي الذي ترك اللاتينية وأتقن العربية: “إن الموهوبين من شبان النصارى لا يعرفون اليوم إلا لغة العرب وآدابها، ويؤمنون بها ويُقبلون عليها في نَهَم، وهم يُنفقون أموالاً طائلة في جمع كتبها، ويصرحون -في كل مكان- بأن هذه الآداب حقيقة بالإعجاب؛ فإذا حدثتهم عن الكتب النصرانية أجابوك -في ازدراء- بأنها غير جديرة بأن يصرفوا إليها انتباههم؛ يا للألم! لقد أُنسي النصارى حتى لغتهم، فلا تكاد تجد بين الألف منهم واحداً يستطيع أن يكتب إلى صاحب له كتاباً سليماً من الخطأ. فأما عن الكتابة في لغة العرب فإنك واجد فيهم عددا عظيما يجيدونها في أسلوب مُنمَّق، بل هم يَنْظمون من الشعر العربي ما يفوق شعرَ العرب أنفسِهم فناً وجمالاً”!!
لم تقتصر جهود التصدي لحركة التعريب بين مجتمعات المسيحيين بالأندلس على رجال فرادى من أعيان المسيحيين؛ بل انخرطت فيها جماعات مسيحية منظمة كانت إحداها حركة “الشهداء المتطوعين” التي ظهرت في ثلاثينيات القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، وكان من قادتها الراهب يولوخيوس القرطبي (ت 244هـ/858م)، لكن جهودها باءت بالفشل في صدّ مدّ التعريب والأسلمة؛ حسب ليفي بروفينسال (ت 1376هـ/1956م) في كتابه ‘الحضارة العربية في إسبانيا‘.
ويرى المستشرق بالنثيا -في كتابه السابق- أن عنصر “المستعربين” كان قاب قوسين أو أدنى من الذوبان في العنصر العربي، وهو ما يمكن أيضا إدراكه بوضوح من كلام ألفارو القرطبي؛ الذي استنكر متعجبا من تضلع الشباب من بني دينه في اللغة العربية والثقافة الإسلامية وانبهارهم بأشعار العرب، مفضلين إياها على ما تبقى من العصر الزاهي للآداب اللاتينية في إسبانيا.
ملوك مستعربون
ولا عجب أنّ تأثر الإسبان والبرتغاليين باللغة والثقافة العربيتين الإسلاميتين لم يكن فقط بسبب الإعجاب بهما، بل هو راجع أيضا إلى ما أشار إليه ابن خلدون -في ‘المقدمة‘- من أن “المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزِيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده..، [فـ]ـالنفس أبدا تعتقد الكمال في مَن غلبها”!! ويعزز ذلك لديهم أن اللغة العربية إبان الحكم الإسلامي في الأندلس كانت لغة عالمية مهيمنة، كما هو شأن الإنجليزية اليوم.
وقد دفع ذلك الإعجابُ بثقافة الغالب الشعوبَ غير المسلمة المنتمية للجغرافيا الإسلامية إلى الإقبال على تعلمها، فكان ممن تعلمها آنئذٍ -إلى جانب الوزراء والأدباء والفلاسفة- ملوك مسيحيون وقساوسةٌ وحاخامات. ومن أبرز الملوك المسيحيين الذين تأثروا باللغة والثقافة العربيتين الملك ألفونسو العاشر (ت 683هـ/1284م) المعروف بـ”الحكيم” (El Sabio)، حيث ألَّف أعمالا باللاتينية تبدو فيها مؤثرات عربية أسلوبية واضحة للعيان.
وازدهرت في عهد هذا الملك -كما يقول بالنثيا- حركة الترجمة من العربية إلى الإسبانية، حين أمر بترجمة كتب العلوم والتراث العربي الإسلامي -في الآداب والفيزياء والفلك- إلى الإسبانية واللاتينية. وكان من تلك المترجمات “الصفيحة الزرقالية” للفلكي والجغرافي الأندلسي البارز أبي إسحق الزرقالي (ت 480هـ/1087م)، الذي كان لمؤلفاته أعظم الأثر على النهضة العلمية في أوروبا؛ حسب لويس تيوفيلوجيل كوادرادو في دراسته ‘التأثير الإسلامي في الثقافة الإسبانية المسيحية في العصور الوسطى‘.
ومن المسيحيين الذين تأثروا باللغة العربية والثقافة الإسلامية الأسقف ريسموندو/ريكيموندو (Recemundo) المعروف في المصادر العربية بربيع بن زيد القرطبي (ت بعد 350هـ/961م)، والذي بعثه الخليفة عبد الرحمن الناصر (ت 350هـ/961م) سفيرا له إلى الملك الألماني أوتو/هوتو الأول (ت 362هـ/973م). وقد شارك مع عريب بن سعد القرطبي (ت 369هـ/980م) في إعداد “تقويم قرطبة” لسنة 350هـ/961م الذي كُتب باللاتينية والعربية معا.
كما تعلم كثير من رجال الدين المسيحيين اللغة العربية فألَّفوا بها وترجموا إليها أعمالاً أدبية جمَّة؛ فقد نقل الأب ڤيسينتي “مجموعة من القوانين الكنسية وقراراتها.. من اللاتينية إلى العربية”؛ حسب المستشرق بالنثيا الذي أضاف أن هذا العمل أهداه مترجمه إلى قس اسمه “عبد الملك”، وقد “نُظمت عبارات الإهداء في أبيات عربية لا تفترق في شيء عما ينظمه المسلمون في مثل ذلك المقام شكلا ومضمونا”!!
تأثير مشرقي
ونذكر أيضا المستعرب الإسباني جونديسالفو (= أبو عمر جونديسالفو) الذي عاش في القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، فقد كان كاتبا وفيلسوفًا وواحداً من أكابر المترجمين في مدرسة طليطلة للترجمة؛ وفقا لمارغريتا لوبيث غوميث في بحثها ‘المستعربون: نقلة الحضارة الإسلامية في الأندلس‘.
وفي مجال الأدب؛ ألّف دون خوان مانويل (ت 749هـ/1349م) -وهو ابن أخ الملك ألفونسو العاشر- قصيدة شعرية كتبها بحروف عربية، كما وضع كتابا قصصيا بعنوان: “الكونت لوكانور” (El Conde Lucanor) ضمّنه خمسين قصة، بدت فيها المؤثرات العربية المشرقية بارزة لتأثر واضعها بكتاب ‘كليلة ودمنة‘ لابن المقفع (ت 143هـ/760م).
ويرى خوان غويتيسولو غاي (ت 1438هـ/2017م) -في كتابه ‘في الاستشراق الإسباني‘- أن “قراءة كل من عمل دون خوان مانويل ‘الكونت لوكانور‘ الذي كان من أهم أعماله (كتبه ما بين سنتيْ 730-735هـ/1330-1335م)، وكان مؤلفًا من خمسة أجزاء.. ذات طبيعة أخلاقية بفضلها نال العمل شعبية كبيرة وأهمية كبرى في الثقافة الإسبانية، وكذا ‘ملحمة السِّيد‘؛ سيساعد على كشف النقاب عن تأثير التصور العربي الإسلامي” على الثقافة والأدب الإسبانييْن.
وفي الجانب التاريخي؛ نجد أنه في غربي الأندلس (البرتغال) أمر الملك ضون دينيش (ت 725هـ/1325م) الملقب بـ”الفلاح” (O Lavrador) بترجمة كتاب ‘أخبار ملوك الأندلس‘ لأحمد بن محمد الرازي (ت 324هــ/936م) إلى البرتغالية، حيث قام بها رجل الدين المسيحي جيل بيريز (ت 715هـ/1315م) بمساعدة رجل مسلم كان يُدعى “العارف محمد”، واتخذت هذه النسخة منحى استثنائيا في وقت لاحق من التاريخ الإيبيري؛ كما يقول عادل سيدروس في ‘الكلمات والترجمات العربية في أوساط البرتغاليين والمستعربين‘.
وأما في شرقي الأندلس؛ فتُعتبر “ملحمة السِّيد” من أقدم الأعمال التاريخية الإسبانية الشهيرة، إذ تروي مآثر البطل القشتالي دون ردوريغو ديَّاس دي بيلار (ت 489هـ/1095م)، وقد ظلت مجهولة المؤلف حتى سنة 1429هـ/2008م حين صدر كتاب ‘ملحمة السيد: عربية المنشأ والتأليف‘ (El Cantar de Mío Cid: génesis y autoría árabe) للباحثة الإسبانية دولوريس أوليفر بريث. وقد نسبتها هذه الملحمة إلى الفقيه والشاعر العربي أبي الوليد الوقَّشي المتقدم ذكره، ولم يخامرها شك في أن “السِّيد” قد طلب من ذاك الأديب العربي أن ينظم له ملحمة تخلّد آثاره.
كانت الأغاني والحكايات الشعبية من العوامل الفاعلة في حركة انتشار الثقافة العربية الإسلامية بين غير المسلمين في الأندلس، وتأتي في طليعة ذلك أشعار الزجل وخاصة أزجال أبي بكر بن قُزمان القرطبي (ت 555هــ/1160م)، الذي يقول المقري -في ‘أزهار الرياض‘- إنه “أوَّلُ من أبدع في هذه الطريقة الزَّجلية..، وإن كانت قيلت قبله بالأندلس لكن لم تظهر حُلاها ولا انسكبت معانيها ولا اشتهرت رشاقتها إلا في زمانه”.
ومن مظاهر التأثير العربي في الأدب المسيحي الإسباني ما يُعرف بـ”القصائد الثغرية/أغاني الحدود” (Romancero Fronterizo) التي تأثرت كثيرا بالموشحة والزجل الأندلسييْن، اللذين يرى المستشرق بالنثيا أنهما “يستعملان اللغة الدارجة ويمزجان العربية في بعض الأحيان بعبارات من اللهجات الرومانسية” الإسبانية.
اقتباس أدبي
وقد لاحظ المستشرق الإسباني رامون مننديث بيدال (ت 1376هـ/1956م) وجود منشدين مسلمين في الممالك المسيحية الإسبانية يشاركون في الأنشطة الموسيقية، وهذا يفسر -في نظر المستشرق خوليان ريبيرا- العلاقة بين الشعر الأندلسي المقفَّى والغناء القشتالي؛ وفقا لما يرويه لويس كوادرادو في دراسته الآنفة.
إن الدارس لهذا النوع من القصائد -التي ترعرعت على الحدود الإسلامية/المسيحية ببلاد الأندلس- سيجد أنها تشكل قاعدة للازدواجية التاريخية واللغوية الإسلامية الإسبانية، إذ تمثل روح الدينين الإسلامي والمسيحي. وفضلا عن ذلك؛ فإن هذه القصائد تصور أحيانا أحداث الصراع والبطولات، وتُـبرز روحا عالية من التسامح حيال العدو، بل وتمجّد فروسيته ونُبْله طورا آخر!
وقد انتشرت أغلبية القصائد الثغرية في أوقات اشتدَّ فيها النزاع بين المسيحيين والمسلمين، إذْ دخلوا في حرب ضروس بُغية السيطرة على المدن والممالك قُـبيل سقوط الأندلس. وفي هذا الإطار تتنزل واحدة من أشهر هذه القصائد الثغرية، وهي “قصيدة ابن الأحمر” (Romance de Abenámar) التي كُتبت سنة 834هـ/1431م وتُعتبر من روائع الأدب الإسباني لتميزها بجاذبية منقطعة النظير.
فقد دار موضوع هذه القصيدة -حول مدينة غرناطة آخر قلاع الإسلام بالأندلس- بين الملك الإسباني خوان الثاني (ت 858هـ/1454م) والملك النصري أبي الحجاج يوسف ابن الأحمر الملقب بـ‘ابن المول‘ (ت 835هـ/1432م)، الذي ذهب إلى ملك قشتالة ليستعين به على منافسه الملك محمد الأعسر (ت 858هـ/1454م).
وفي القصيدة يناشد خوان الثاني حليفه ابن الأحمر تسليمه مفاتيح مدينة غرناطة، بيد أن الأخير يرفض ذلك بشدة لكونه مسلما لا يخون الأمانة، وعليه الوفاء لعرق جبين بُنَاِة هذه المدينة العظيمة الذين أبدعوا في بنائها كل إبداع. لكن الملك الإسباني أبدى رغبته الجامحة في ضمها نظرا لانبهاره الشديد بها، فأخذ يتودد إلى غرناطة الجميلة ويتوسل إليها كي تتزوجه إلا أنها أجابته قائلة: “إنني في ذمة مسلم، ولا يمكنني أن أخونه وهو ينشد لي عظيم الخير”!!
والشعر “الرومانسي” الإسباني -الذي يسمى أيضا “أغاني الحدود”- يتميز بكونه يشبه الشعر العربي القديم، حيث نجد الشاعر الإسباني يتناول فيه عادة مجموعة من المعاني في قصيدته، مثل تمجيد الشجاعة والفروسية، وبكاء الأطلال المتمثلة في المدن الأندلسية المفقودة، والتعاطف مع ذويها الأندلسيين رغم الصراع القائم معهم؛ حسبما رصده رامون مننديث بيدال في كتابه ‘الرومانسي الإسباني.. النظرية والتاريخ‘.
ولذلك فإن المستشرق الإسباني خوسيه ماريا فورنياس (ت 1424هـ/2003م) يقرر -في بحثه ‘أغاني الحدود والشعر العربي.. تأملات جديدة في الفرضيات القديمة‘- أن الدارس للرومانسي الإسباني يلمس بجلاء تعدد مظاهر التأثير العربي من حيث الشكل والمضمون والموضوع والوزن والإيقاع. وكان الشاعر الإسباني يمزج في قصائده بين اللفظين العربي والرومانسي، أما على مستوى التركيب فقد كان أولئك الشعراء يصورون المدينة باعتبارها فتاة جميلة، فيتوددون إليها طالبين يدها للزواج بعامية العربية وعجمية الرومانسي؛ كما في قصيدة “ابن عمار” المشار إليها.