تُدرس الفلسفة الغربية على نطاق واسع في الجامعات بشتى أنحاء العالم اليوم بوصفها “الفلسفة”، ويتم سرد نشأة الفلسفة وفق قصة متكررة تبدأ بالفيلسوف اليوناني طاليس الملطي (نحو 624-546 ق.م) ومدرسته، كما تفيد الصفحات الافتتاحية من كتاب تاريخ الفلسفة الغربية للفيلسوف البريطاني برتراند راسل أو كتب تأريخ الفلسفة المعتادة.
يقول راسل بشكل قاطع “تبدأ الفلسفة مع طاليس” أي المالطي، ومع ذلك تفيد دراسات تاريخية مختلفة بأن الإغريق لم يأتوا بأعجوبة، نقية، بمعزل عن الثقافات المحيطة في البحر الأبيض المتوسط؛ إذ لعبت الثقافات الأخرى دورًا تكوينيًّا في إنتاج الفلسفة اليونانية كما نعرفها.
هذا لا ينتقص بأي حال من الإنجازات الرائعة والفريدة للفلسفة اليونانية، التي مارس أفلاطون وأرسطو دورا هائلا في نشأتها، وقد ورثا أفكارهم بطرق متعددة، بما في ذلك التقليد الإسلامي.
طاليس
في مقاله بمنصة “ميديوم” يرى الأكاديمي البريطاني كريستوف سكورينجا أنه ينبغي التوقف مليا للتفكير في بداية الفلسفة الغربية؛ فالفيلسوف اليوناني الأول طاليس المالطي ظهر قبل عصر سقراط وأفلاطون وأرسطو، وولد وعاش في ما يعرف الآن بتركيا شمال شرق البحر الأبيض المتوسط.
ويقول الأكاديمي بجامعة لندن أن الفلاسفة القدماء عاشوا في مناطق متباعدة، مثل صقلية واليونان وآسيا الصغرى (الأناضول)، لكن التصنيف الغربي لا يكفي لسرد كافة فلاسفة العالم القديم والعصور الوسطى؛ مشيرا بشكل خاص إلى فلاسفة مسلمين -مثل ابن سينا وابن رشد- الذين يعدون امتدادا لأفلاطون وأرسطو، حسب تعبيره.
ومع ذلك، لم يتم تصنيف التقليد الإسلامي على أنه “غربي” رغم أن بعض هؤلاء الفلاسفة الذين عاشوا في مدن مثل قرطبة قد يعدون أقرب جغرافيا للغرب من اليونان القديمة، ويعتبر سكورينجا أن “العلماء المسلمين لعبوا دورًا مهمًا في الحفاظ على النصوص اليونانية القديمة”.
ويضيف سكورينجا أن الفيلسوف توما الأكويني (1225-1274) تأثر بأعمال ابن رشد والفيلسوف العربي اليهودي موسى بن ميمون، وكان الأكويني يشير إلى ابن رشد باسم “المعلق” أو “الشارح”، في حين يطلق على أرسطو “الفيلسوف”، وتأثر الفيلسوف الإيطالي بيترو بمبوناتسي بابن رشد، وأسس مدرسة عُرفت باسم “الأرسطية الرشدية”.
ويتابع سكورينجا أن الفلسفة الغربية تفهم نفسها بالطريقة التي تصور بها الأوروبيون البيض -بشكل عام- أنفسهم كإنسانية عالمية، ومع ذلك فقد أخفقت في رؤية موقعها الفلسفي كموقف خاص، ولم تنشغل بما يجعلها “غربية” على وجه التحديد.
ويرى الكاتب أن تصحيح تأريخ الفلسفة لا يكون عن طريق إدراج بدائل للرواية الغربية لتاريخ الفلسفة فحسب، بل فحص التقاليد الفلسفية “الغربية” ذاتها، وليس فقط لبداياتها الظاهرة، التي تشكلت عبر تأثيرات متبادلة وسياقات مختلفة.
وعلاوة على ذلك -يتابع الكاتب- أنه يجب تحدي فكرة “التقاليد المتنافسة” بأكملها؛ فالفلسفة -أينما ازدهرت- لا تعتبر نفسها “تقليدًا”، وهي محقة في ذلك، و”المطلوب هو نقد بعيد المدى لخطاب الغرب والطريقة التي ينسب بها كل شيء إلى نفسه ضمن مشروعه للهيمنة الثقافية”، ويضيف “كفى لاعتبار أوروبا والغرب تاريخا عالميا، لقد حان الوقت لجعل الفلسفة حقا ملكية عالمية للبشرية”.
ما الغرب؟
ويستشهد الأكاديمي البريطاني بالمؤلفة والفيلسوفة المعاصرة لوسي آلياس، التي تعتبر أن فكرة الغرب تتجاوز الدلالة الجغرافية، ولا تعكس الواقع ظاهريًّا فحسب، بل تقوم بتوليده وتشكيله أيضا.
ورغم أن هناك أساسا جغرافيا لفكرة “الغرب” (على سبيل المثال، أكد المؤرخ اليوناني هيرودوت في القرن 5 قبل الميلاد التمييز بين أوروبا، الواقعة غرب نهر رايوني بجورجيا الحالية، وآسيا إلى الشرق)، لكن “مفهومنا للغرب ينتمي إلى العالم الحديث، حيث أصبحت أوروبا ليست القوة المهيمنة فقط، بل أيضا من خلال الرأسمالية، التي نشأت لأول مرة في إنجلترا، ثم أخضعت أوروبا، ثم العالم كله إلى منطقها الاقتصادي، وجعلت العالم كله في حالة من الهيبة لقوتها”.
وبناء على ذلك، فإن الغرب هو مفهوم يشير إلى نوع معين من التقدم الاقتصادي والتكنولوجي، كما يتجلى في إدراج اليابان في “الغرب”، رغم كونها تقع في أقصى الشرق.
ويقول الكاتب إن “ما يسمى “تفرد الغرب”، مقولة تم إنتاجها جزئيًّا من خلال اتصال أوروبا والمقارنة الذاتية مع المجتمعات غير الغربية الأخرى المختلفة تمامًا في تاريخها وبيئتها وأنماط تطورها، ويتابع في هذه العملية دمج الغرب بقية العالم في “آخر” متجانس.
صعود الغرب الحديث
ويؤرخ الأكاديمي البريطاني لبداية صعود الغرب بنهاية القرن 15، عندما وصل كولومبوس إلى أميركا، وما زامنه من طرد العرب من الأندلس وشبه الجزيرة الأيبيرية، “منذ ذلك الحين نمت الثقة بالنفس الأوروبية، وتم ترسيخ فكرة أن الأوروبيين هم الأسياد الطبيعيون للعالم”.
ويعتبر سكورينجا أن قصة بناء الفلسفة الغربية، مع الإغريق كمصدر أصلي ونقي خالص، هي جزء من قصة العنصرية الأوروبية.
وقبل القرن 18؛ كانت القصة المقبولة لتاريخ الفلسفة هي أن الفلسفة اليونانية لديها مجموعة من الأسلاف في الثقافات غير الغربية، إذ نشأت الثقافة اليونانية -بما في ذلك الفلسفة- من تفاعل عدد من الثقافات المختلفة -لا سيما التي لدى المصريين والفينيقيين- كما كتب الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588-1679) على سبيل المثال.
ويرى الكاتب أن الفلسفة كانت مزدهرة حيثما وجدت المدن العظيمة القديمة، ويمكن اعتبار مفكري الهند وبلاد فارس وكهنة كلديا (بلاد الرافدين) ومصر من أقدم الفلاسفة، وعاش هؤلاء في ممالك قديمة مقارنة بفلاسفة الإغريق الذين عاشوا في مدن يونانية صغيرة متحاربة.
وعندما وحدت الحرب المدن اليونانية أصبحت هناك شهرة واسعة للحكماء السبعة المعروفين، الذين عاشوا في القرن السادس قبل الميلاد، ورغم نسبة الفلسفة والحكمة إليهم، فإن مؤرخين عدة يعتبرونهم مجرد رجال قانون باستثناء طاليس الفيلسوف.
ويعتبر الكاتب أن طريقة “تحقيب” الفلسفة الحديثة هي ثمرة “عنصرية منهجية غير مسبوقة نشأت في النصف الأخير من القرن 18 عبر تطوير نظرية “علمية” جديدة للعرق، تضع البيض في أعلى التسلسل الهرمي، وتعيد صياغة كل تاريخ العالم كقصة انتصار للبيض بصفتهم سادة العالم الشرعيين”.
ويختم الكاتب بإنكار وجود مفهوم متآلف للفلسفة الإغريقية، مؤكدا أن الفلسفة القديمة كانت ثمرة تواصل ونقاش حيوي غير معزول عن التأثير غير اليوناني، كما أن كثيرا من فلاسفة اليونان عاشوا في مناطق مختلفة، مثل أفلاطون الذي ذهب لمصر في شبابه، وديموقريطس الذي سافر في العالم القديم على نطاق واسع، والتقى هنودا وآسيويين حكماء.